السودان وإثيوبيا: لعنة الأرض والقبائل

السودان وإثيوبيا: لعنة الأرض والقبائل

24 يونيو 2020
تشكل المنطقة أرضاً للزراعة وتربية المواشي (أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -


للنزاع المتجدد على الحدود السودانية الإثيوبية تاريخ قديم، تختلط فيه العوامل السياسية والجغرافية والاقتصادية، والحسابات القبلية والمعيشية، ومعها سنوات من إهمال حسم ملف ترسيم الحدود، ليأتي التوتر المتصاعد أخيراً في الإقليم، لا سيما حول ملف سد النهضة، ليفاقم المأزق في هذه المنطقة.

ويعود هذا الملف إلى الواجهة بعد إعلان الجيش السوداني، يوم الإثنين الماضي، أن قواته تصدّت ظهر الأحد لاعتداء "من بعض مكونات القوات الإثيوبية" في منطقة الفشقة، وكبّدتها خسائر كبيرة. وبدأت مؤشرات التوتر المستجد تبرز منذ الشهر الماضي، فبعد تزايد شكاوى أهالي المنطقة السودانيين، وأغلبهم من قبائل غرب السودان التي نزحت للزراعة ومعها قبائل مثل البني عامر واللحويين والشكرية، أعاد الجيش السوداني انتشاره في المنطقة، في الفترة التي تصادف دخول المزارعين الإثيوبيين للزراعة في فصل الخريف، وهو ما أدى إلى صدامات دامية بين الجيش السوداني والمليشيات الإثيوبية المسنودة بالجيش الإثيوبي، بحسب مزاعم الخرطوم التي صعّدت من لهجتها ومطالبها بتصحيح الأوضاع المختلة منذ سنوات. كذلك لم يخلُ خطابها من التهديد بحرية التنقل على الحدود وتحرير الأراضي وحماية المزارعين السودانيين، والتشديد على أديس أبابا لوضع كل العلامات الحدودية المتفق عليها، وهو ما أثار مخاوف من تصعيد في هذا الملف، على الرغم من انشغال البلدين بقضايا أخرى، مثل الأوضاع السياسية الهشة في السودان، وصعوبات الانتقال من حكم نظام عمر البشير إلى حكم ديمقراطي، وتحقيق السلام ووقف الحرب في عدد من الجبهات، وإجراء إصلاحات عاجلة لإنقاذ الاقتصاد المنهار، فيما تنشغل إثيوبيا بقضية سد النهضة كتحدٍ تنموي كبير، إضافة إلى تمتين وحدة القوميات الإثيوبية المعرضة للخطر.
وفيما تختلف التفسيرات حول وجود دوافع سياسية وراء التأزم الجديد، إلا أن كثيراً من المتابعين يستبعدون تصعيداً كبيراً في هذا الملف، ويرجّحون انتهاء التوتر القائم بتفاهم سياسي بين الطرفين، قد لا ينهي الأزمة بشكل دائم.

خلفية النزاع
يمتدّ الشريط الحدودي الرابط بين السودان وإثيوبيا على مسافة تقدر بنحو 256 كيلومتراً، ويحاذي السودان إقليما الأمهرا وتغراي، بينما تحاذي إثيوبيا 4 ولايات سودانية هي القضارف وسنار وكسلا والنيل الأزرق. لكن حدود كل دولة ظلت محل خلافات مستمرة، إذ يعتقد بعض السودانيين أن الدولة المهدية (1885-1899) تنازلت عن بعض الأراضي السودانية لإثيوبيا، بما في ذلك إقليم بني شنقول الذي تُنشئ فيه إثيوبيا في الوقت الراهن سد النهضة، فيما يعتقد مواطنو إقليم الأمهرا الإثيوبي بأن أراضيهم يجب أن تمتد إلى داخل العمق السوداني، وتصل حتى منطقة أبو حراز في ولاية الجزيرة وسط السودان.

كل تلك الادعاءات والمزاعم أنهتها اتفاقية بين البلدين في عام 1902 حددت بوضوح الحدود الحالية، وهي اتفاقية أبرمت في عهد الاستعمار البريطاني للسودان، وبعد انتهاء الاستعمار من أفريقيا عامة، اتفقت الدول بقرار من منظمة الوحدة الأفريقية على الإبقاء على الحدود التي ورثتها من المستعمر تجنباً لأي نزاعات مستقبلية. وعلى الرغم من اتفاق 1902 ظل الخلاف بين أديس أبابا والخرطوم مستمراً حول وضع العلامات النهائية التي تقول إثيوبيا إنها وضعت بواسطة المستعمر البريطاني من جانب واحد، مع مزاعم بملكية منطقتي الفشقة وأم بريقة الحدوديتين.

في الستينيات، تفجر النزاع بدخول أكثر 300 مزارع إثيوبي إلى أراضي الفشقة للزراعة مدعومين من الجيش الإثيوبي، وألقي القبض عليهم من الجانب السوداني، وهو ما أدى إلى أزمة جاءت أيضاً في سياق تبادل الاتهامات بين البلدين بإيواء جماعات معارضة، لكن تم تجاوز الأزمة بمساعٍ دبلوماسية. وفي عام 1972، حقق السودان نصراً دبلوماسياً عبر اتفاق جديد مع إثيوبيا اعترفت فيه الأخيرة باتفاقية 1902 وبسيادة السودان على منطقتي الفشقة وأم بريقة، مع التزام البلدين بالإسراع في ترسيم الحدود على الأرض بشكل نهائي.
لكن واقعياً لم يكن هناك التزام بالاتفاق، إذ تواصل التغول الإثيوبي على الأراضي السودانية بالسيطرة على المزيد من الأراضي الزراعية، لا سيما في موسم الزراعة، وأنشأت إثيوبيا عدداً من المدن داخل العمق السوداني، منها مدن سفارى وخورحمر وابو طيوروبرخت، وغيرها، كما أقامت نقطة جوازات في منطقة اللقدي. وأقيمت تلك المناطق بكامل الخدمات الصحية والتعليمية والطرق المعبدة.

وصل التغول مراحل بعيدة بعد انسحاب الجيش السوداني من المنطقة في عام 1995، لأسباب غير مفهومة، منها تركها للإثيوبيين حتى لا تستخدمها قوات المعارضة السودانية كمركز لشن هجماتها، لا سيما مع انشغال الجيش بجبهات قتال أخرى. هذا الأمر أغرى المزارعين الإثيوبيين لمزيد من السيطرة على الأراضي الزراعية، حتى وصلت المساحة الكلية للأراضي المحتلة إلى أكثر من مليون فدان، وتم كل ذلك بمساندة مليشيات إثيوبية في إقليم الأمهرا المجاور وهي مليشيات شبه رسمية ومعترف بها من قِبل الحكومة المركزية في أديس أبابا.

ومع التمدد الإثيوبي الذي وصل ما بين 9 و22 كيلومتراً داخل الأراضي السودانية، تم تقييد حركة المواطنين السودانيين وحركة الجيش السوداني نفسه إلا بتنسيق مع الجيش الإثيوبي، وذلك حتى في الحالات التي تتطلب تدخلاً عاجلاً، مثل مقتل مواطنين أو اختطافهم من عصابة الشفتة المنتشرة في المنطقة. ويحمّل السودانيون وأهالي المنطقة نظام عمر البشير مسؤولية التفريط والتهاون مع الإثيوبيين لحسابات سياسية بحته في السنوات الماضية.

احتمالات التصعيد والتهدئة
يستبعد الخبير في شؤون القرن الأفريقي، عبد المنعم أبو إدريس، احتمال التصعيد بين السودان وإثيوبيا في الوقت الراهن، متوقعاً أن تنتهي الأزمة بالتفاهم السياسي. ويوضح أبو إدريس، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن قضية النزاع الحدودي هي محل تركيز من إقليم الأمهرا الحدودي الذي يتصرف في هذا الشأن باستقلالية عن العاصمة أديس أبابا، غير الراغبة أصلاً في الدخول بمواجهة مع السودان، مشيراً إلى أن حل النزاع يكمن في وضع العلامات الحدودية ونشر قوات مشتركة بين البلدين، ليس من أجل ضبط النزاع فقط بل لمواجهة تحديات أخرى، أهمها مراقبة عمليات تهريب السلاح إلى إثيوبيا ووقف الهجرة غير الشرعية وجرائم الاتجار بالبشر ومحاربة عصابة الشفتة المكونة من جنسيات مختلفة والتي تمارس شتى أنواع الجرائم من قتل ونهب وتجارة المخدرات.
وينبّه أبو إدريس إلى أن هناك جانباً آخر للأزمة يتعلق بتأجير مزارعين سودانيين أراضيهم لنظرائهم الإثيوبيين، إضافة إلى فراغ سكاني في الجانب الحدودي السوداني بعد نزوح أهالي المنطقة إلى المدن الكبرى، تقابله كثافة سكانية على الشريط الإثيوبي، ما أغرى الإثيوبيين بالزراعة في أرض يجدونها خالية، كما أن الشركات التي منحها نظام البشير أراضي شاسعة لم تهتم بزراعتها وتنميتها.

من جهته، يرى مبارك النور، وهو نائب عن دائرة الفشقة في آخر برلمان سوداني، أن المشكلة أعمق مما يتصور بعض الناس، إذ عمدت إثيوبيا إلى إجراء تغيير ديمغرافي واسع في المنطقة لصالحها، وأنشأت مدناً وقرى جديدة وأقامت مدارس وكنائس وطرقاً ونقاط جوازات، واستمر تدفق المزارعين، الذين وصل عددهم إلى 1659 مزارعاً بحسب آخر إحصاء، من عام 1991 إلى 2014، وتُقدّر مساحة الأراضي الزراعية المحتلة بنحو مليوني فدان.
ويقول النور، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الحل ووقف التصعيد يتطلبان موافقة الجانب الإثيوبي على ترسيم الحدود ميدانياً وإعادة كل الأراضي المحتلة وبسط سيادة الدولة السودانية عليها، ونشر الجيش بما يكفي لمنع تعديات الجيش الإثيوبي والمليشيات، وتنمية الشريط الحدودي وتوزيع الخدمات الضرورية فيه لضمان عدم نزوح الأهالي الذين باتوا هذه الأيام أكثر استعداداً للتصدي لقضيتهم والضغط على الحكومة لتجاوز حالة صمت القبور التي مارسها النظام السابق حيال القضية، مؤكداً أنهم كأهالي وكدولة سودانية "ليست لدينا الرغبة في دخول حرب مع إثيوبيا بل يريد الجميع حلولاً ودية، لكننا لن نقبل باستمرار الابتزاز لسنوات طويلة".

من جهته، يقول السفير السابق في وزارة الخارجية السودانية، إدريس سليمان، إن الأجواء المسمومة في الإقليم هي التي زادت الاهتمام بما يجري في الحدود الإثيوبية السودانية، موضحاً لـ"العربي الجديد" أن المشاكل الحدودية المرتبطة بالزراعة قديمة جداً وليس هناك خلاف حدودي بالمعنى الحقيقي، إنما فقط هناك أطماع إثيوبية في الزراعة خلال موسم الأمطار، بينما تعترف أديس أبابا بالحدود الدولية الموروثة لكنها تماطل في وضع العلامات النهائية. ويشير سليمان إلى أن أي تصعيد يحدث في الوقت الراهن ليس من مصلحة البلدين، مع عدم استبعاده رغبة جهات إقليمية في تغذيته، في ظل الأجواء المسمومة حالياً، مؤكداً أن لا مجال للحل إلا عبر الطرق الدبلوماسية.

أما رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النيلين، فتح أحمد، فيربط مباشرة بين ما يحدث على الحدود السودانية والإثيوبية، والصراع الدائر حول المياه في سد النهضة بين مصر وإثيوبيا، على وجه التحديد، وكذلك صراعهما على التأثير في الأوضاع السياسية في السودان، وتجاذبهما للمكون العسكري والمدني في السلطة الإنتقالية الحالية، مشيراً إلى أن الجانب الإثيوبي يفسر كل التحركات السودانية الأخيرة في الحدود على أن مصر وراءها. ويرى أحمد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المطلوب من الحكومة السودانية بمكونيها العسكري والمدني توجيه رسالة واضحة إلى القاهرة وأديس أبابا مفادها أن الخرطوم لا تعمل لمصلحة أي طرف وتتصرف وفقاً لمصالحها العليا ولا يمكن أن تتحول إلى معبر لتصدير المشاكل لأي طرف من الأطراف المتصارعة.