ترامب مدان رسمياً: نصف عزل

ترامب مدان رسمياً: نصف عزل

20 ديسمبر 2019
يتمسك ترامب بالقول إنه يتعرض لمطاردة (كايل مازا/الأناضول)
+ الخط -
أقل من خمس سنوات قضاها دونالد ترامب في البيت الأبيض، كانت كافية لإيصال الولايات المتحدة إلى واحدة من أكثر مراحلها انقساماً في التاريخ، فهذا الرئيس الذي لم يتوانَ يوماً عن مهاجمة كافة خصومه والحديث عن تعرضه لحملة مطاردة، اعتمد منذ وصوله إلى سدة الحكم على تأجيج التوترات الحزبية وشد عصب جمهوره اليميني. ولا تخرج إجراءات العزل التي باتت رسمية بإقرارها مساء الأربعاء من مجلس النواب، عن هذا المنحى لدى ترامب، الذي يبدو أنه سيستغلها لتصوير نفسه كضحية وإثارة موجة من الغضب في صفوف اليمين لهزيمة معارضيه، وبالتالي الفوز بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

تصويت تاريخي
في خطوة تاريخية من شأنها تأجيج التوتر الحزبي في بلد يعاني انقسامات عميقة، أحال مجلس النواب الأميركي ليل الأربعاء ترامب إلى المحاكمة أمام مجلس الشيوخ بتهمتي استغلال السلطة وعرقلة عمل الكونغرس، ليصبح بذلك ثالث رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يواجه إجراءً رسمياً لعزله. وبأغلبية 230 صوتاً مقابل 197 وامتناع نائب واحد عن التصويت، وافق مجلس النواب الذي يهيمن عليه الديمقراطيون على توجيه تهمة استغلال السلطة إلى الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. وبعدها بدقائق وجّه المجلس إلى ترامب تهمة ثانية هي عرقلة عمل الكونغرس والتي أقرّت بأغلبية 229 صوتاً مقابل 198 وامتناع نائب واحد عن التصويت.

التهمة الأولى مرتبطة باستغلال ترامب سلطته من خلال الضغط على أوكرانيا للتحقيق مع خصمه السياسي جو بايدن، وهو من الوجوه البارزة الساعية لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي لخوض انتخابات 2020. وقال الديمقراطيون إن ترامب حجب عن أوكرانيا مساعدات أمنية بقيمة 391 مليون دولار، ومنع اجتماعاً طلبت أوكرانيا أن يعقده رئيسها فولوديمير زيلينسكي بالبيت الأبيض، وذلك كوسيلة ضغط لإرغامها على التدخل في انتخابات 2020 من خلال تلطيخ صورة بايدن. ويتهم البند الثاني ترامب بعرقلة عمل الكونغرس من خلال توجيه مسؤولي الإدارة والأجهزة لعدم الامتثال لطلبات استدعاء قانونية أصدرها مجلس النواب لتقديم الشهادة والوثائق المتصلة بالمساءلة التي كانت تطاوله.

وقالت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي، عند بدء الجلسة، إنّه "من المأساوي أن تصرفات الرئيس الطائشة جعلت من الضروري البدء بإجراءات العزل"، مضيفة "ما نناقشه هو الحقيقة الراسخة بأنّ الرئيس انتهك الدستور. ومن المؤكد كحقيقة أنّ الرئيس يمثل تهديداً مستمراً لأمننا القومي ونزاهة انتخاباتنا". ورد النائب الجمهوري داغ كولينز عليها، وقال "الرئيس لم يرتكب خطأ"، مؤكداً أنّ الديمقراطيين "قالوا لأنفسهم، إذا لم نستطع هزيمته (في الانتخابات) فدعونا نحاكمه لعزله... الأميركيون سيرون ذلك بوضوح". أما ديبي ليسكو الجمهورية من أريزونا، فقالت إن ترامب يتعرّض "لعملية هي الأكثر ظلماً وتحيّزاً سياسياً شاهدتها في حياتي". وأضافت "لا يوجد أي دليل على أنّ الرئيس ارتكب مخالفة توجب العزل... هذه عملية عزل هي الأكثر حزبية في تاريخ الولايات المتحدة".
من جهته، قال النائب الديمقراطي آدم شيف، الذي أشرف على التحقيق، إنّ ترامب "كان مستعداً للتضحية بأمننا القومي... في سبيل تعزيز فرصه في إعادة انتخابه"، واتهم الرئيس بأنّه "حاول أن يغش وافتضح أمره"، مؤكداً أن "الخطر ما زال قائماً".

وباستثناء عدد ضئيل للغاية، فقد صوّت معظم النواب الديمقراطيين (عددهم الكامل 235 نائباً) لصالح الاتهامين، فيما كان النواب الجمهوريون ضدّهما، في حين شهدت الجلسة تبادل اتهامات بين الحزبين.
وعارض كل الجمهوريين في المجلس البندين، كما عارضهما ديمقراطيان هما كولين بيترسون وجيف فان درو. بينما عارض الديمقراطي جاريد غولدن بند عرقلة عمل الكونغرس مقابل تأييده بند إساءة استغلال السلطة. وأثبتت النائبة تولسي غابارد التي تسعى لترشيح الحزب الديمقراطي لها للرئاسة حضورها في التصويت على البندين، وأعلنت في بيان "لم أتمكن من التصويت بضمير مستريح بنعم أو لا". أما بايدن فكتب على "تويتر" بعد التصويت "الرئيس ترامب أساء استغلال سلطته وانتهك قسم المنصب وخدع أمتنا"، وأضاف "في الولايات المتحدة... ما من أحد فوق القانون، ولا حتى الرئيس".

وعلى الرغم من أن بعض ممثلي المناطق المحافظة قد يواجهون احتمال خسارة الانتخابات العام المقبل جراء مواقفهم، إلا أنهم اتخذوا موقفاً موحّداً. وقال ممثل منطقة في نيو جيرسي تميل لتأييد ترامب، ميكي شيريل، "علّمتني خدمتي في الجيش أن أضع بلدنا، لا السياسة، أولاً. وعلمتني الفترة التي قضيتها كمدع فدرالي أهمية حكم القانون والعدالة". وأضاف "سأصوّت لصالح مادتي العزل". وقال ديمقراطي آخر من دائرة انتخابية محافظة في نيويورك، هو أنتوني برينديسي، "أعرف أن البعض سيغضبون من قراري، لكنني انتُخبت لأقوم بما هو صحيح".


وسارع الرئيس الجمهوري إلى التنديد بالتصويت التاريخي الذي جرى ضدّه في مجلس النواب، متهماً خصومه الديمقراطيين الذين يسيطرون على المجلس بأنّهم مدفوعون بـ"الحسد والحقد والغضب" و"يحاولون إبطال تصويت عشرات ملايين الأميركيين" الذين انتخبوه رئيساً في 2016.
وفي الوقت الذي كان مجلس النواب يصوّت فيه على اتهام ترامب، كان الأخير يلقي خطاباً أمام حشد من أنصاره في تجمّع انتخابي في مدينة باتل كريك بولاية ميشيغان. وسارع ترامب إلى التنديد بقرار مجلس النواب قائلاً "بينما نحن نخلق الوظائف ونقاتل من أجل ميشيغان، فإنّ اليسار الراديكالي في الكونغرس ينهشه الحسد والحقد والغضب، وأنتم ترون ما يجري الآن". وأضاف أنّ "الديمقراطيين يحاولون إبطال تصويت عشرات ملايين الأميركيين" الذين انتخبوه رئيساً في 2016، متّهماً خصومه بأنّهم أقدموا لتوهم على عملية "انتحار سياسي". كما علّق ترامب على القرار عبر "تويتر" ونشر صورة له بالأسود والأبيض مشيراً بإصبعه وكتب تحتها "في الحقيقة هم لا يطاردونني. إنهم يطاردونكم. أنا فقط عقبة في الطريق".
ونددت المتحدثة باسم البيت الأبيض ستيفاني غريشام بتصويت مجلس النواب واعتبرته "أحد أكثر الفصول السياسية المخجلة في تاريخ أمتنا"، وقالت إن ترامب "جاهز للخطوات التالية وواثق من تبرئته تماماً".

القرار بيد الشيوخ
بموافقة مجلس النواب على الاتهامين، انتقلت القضية إلى مجلس الشيوخ. غير أنّه خلافاً لمجلس النواب فإنّ مجلس الشيوخ يهيمن عليه الجمهوريون بأغلبية 53 سيناتوراً مقابل 47 للديمقراطيين، وقد سبق للجمهوريين أن أكدوا أنّهم يعتزمون تبرئة ترامب من هاتين التهمتين. لكن مع ذلك يبقى التصويت الذي حصل في مجلس النواب الأربعاء تاريخياً، إذ إنه في تاريخ الولايات المتحدة بأسره لم يُحلْ إلا رئيسان للمحاكمة أمام مجلس الشيوخ، هما آندرو جونسون في 1868 وبيل كلينتون في 1998، وقد برّئ كلاهما في مجلس الشيوخ. أما ريتشارد نيكسون، فاستقال في 1974 قبل أن يصوّت مجلس النواب على إحالته إلى المحاكمة على خلفية فضيحة ووترغيت.
ولم يحدث طيلة 243 عاماً هي عمر الولايات المتحدة أن أزيح رئيس من منصبه بعد مساءلة برلمانية. وسيتطلب هذا أغلبية بواقع الثلثين في مجلس الشيوخ الذي يضم 100 عضو، مما يستلزم انضمام 20 جمهورياً على الأقل إلى الديمقراطيين في التصويت ضد ترامب، ولم يحدث أن أشار أحد إلى أنه سيفعل هذا. وتوقّع زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل، "ألا تسنح فرصة" في مجلسه لعزل ترامب عند انعقاد المحاكمة.

في المقابل، برز إعلان بيلوسي بعد التصويت أنها ستتمهل في تحديد من سيدير المساءلة من أعضاء مجلس النواب الذين سيقومون بدور فريق الادعاء، لحين معرفة مزيد عن الإجراءات في محاكمة مجلس الشيوخ. ولم تحدد متى ستحيل البندين للشيوخ.
ويتعيّن على مجلس النواب تعيين "مديرين" لشرح التهمتين الموجهتين إلى ترامب أمام مجلس الشيوخ. وكان مكونيل، وزعيم الديمقراطيين في هذا المجلس السيناتور تشاك شومر، قد طرحا وجهتي نظر مختلفتين تمام الاختلاف عن كيفية سير المحاكمة. ومن المتوقع أن يحدث بينهما أخذ ورد في الأيام المقبلة. وسيشرح المديرون الذين يعينهم مجلس النواب اتهاماتهم لترامب وسيرد عليها الفريق القانوني للرئيس. ومن الممكن الاستماع أثناء المحاكمة لأقوال شهود في جدول جلسات مرهق تسير فيه الإجراءات ستة أيام في الأسبوع لمدة قد تصل إلى ستة أسابيع. وكان مكونيل قال إن أغلبية من مجلس الشيوخ يمكن أن تقر إجراءات أقصر، وذلك بالتصويت على بندي الاتهام عقب المرافعات الافتتاحية من دون الاستماع لشهود.

ولكن في حال لم تحدث أي تطورات غير متوقعة، يُتوقع أن يواجه ترامب في أوائل يناير/كانون الثاني المقبل محاكمة في مجلس الشيوخ لتحديد ما إذا كان يجب إدانته وعزله من منصبه، وذلك عندما يعود أعضاء الكونغرس إلى واشنطن في أوائل يناير. وسيرأس جلسات المحاكمة كبير القضاة الأميركيين جون روبرتس.

استقطاب حاد
بعيداً عن الهم السياسي في واشنطن وفيما كان مجلس النواب يقرر محاكمة ترامب، كان الرئيس الأميركي "يستمتع بوقته" في مهرجان انتخابي في مدينة باتل كريك الصغيرة في ولاية ميشيغان. واستغل ترامب هذا التجّمع الانتخابي لإثارة موجة من الغضب ضد الديمقراطيين وشد عصب جمهوره في محاولته الفوز بولاية رئاسية ثانية. وحتى قبل أن يخرج أمام نحو 7 آلاف من أشد مناصريه، وهم ناخبون من الطبقة العاملة جاؤوا منتعلين أحذية العمل وملابس الصيد، علت الهتافات "نريد ترامب، نريد ترامب". وأطلق الحشد هتافات شجب عندما طلب منهم ذلك. وصاحوا تأييداً مع كل مفاخرة رددها. واعتبر أنصار الرئيس إن ما يتعرض له الرئيس ظلم. وقالت إحدى المؤيّدات وتدعى ويندي تيمرمان "هناك رجل بريء يحاكم على كمّ من الهراء". من جهته، قال ترامب للجموع "أفضّل أن أكون هنا، هذه التجمّعات رائعة... أنتم مصدر إلهام".

وعلى الرغم من أن الاستطلاعات الوطنية تظهر أن ما يزيد عن نصف الأميركيين لا يؤيدونه، إلا أنه يعتمد على قاعدته للفوز بولايات رئيسية في انتخابات كبار الناخبين، مثل ولاية ميشيغان. والأربعاء تباهى بالاقتصاد القوي وبمسائل وطنية مثل الإنفاق العسكري. لكن أكثر من أي شيء قام بإثارة الحشد برؤيته المتشائمة عن متآمرين وقوى غامضة تسعى إلى قمع المواطنين الأميركيين العاديين. وهذه اللائحة المطوّلة من الأعداء تتردد الآن في كل خطاب. والأربعاء ذكرهم جميعاً من آدم شيف، رئيس اللجنة النيابية للاستخبارات في مجلس النواب، إلى هيلاري كلينتون التي هزمها في الانتخابات الرئاسية عام 2016. كما هاجم "المضللين"، ويعني بذلك الصحافيين الذين يغطون فعاليته.

خطابات ترامب وإجراءات عزله انعكست أيضاً في استقطاب حاد في الشارع. وبحسب استطلاع للرأي أجرته شبكة "فوكس نيوز"، قال 50 في المائة ممن شملهم الاستطلاع إنّهم يؤيدون عزل ترامب من منصبه، في حين أبدى 41 في المائة رفضهم لعزله. وفي استطلاع آخر أجرته شبكة "سي أن أن" قال 45 في المائة ممن شاركوا فيه إنّهم يؤيدون عزل الرئيس بينما قال 47 في المائة إنهم يرفضون ذلك. وفي استطلاع ثالث أجرته شبكة "أن بي سي" وصحيفة "وول ستريت جورنال" أتت النتيجة متساوية بين 48 في المائة يؤيدون عزله و48 في المائة يعارضونه. وسُجّلت تظاهرات مؤيّدة لعزل ترامب في عدة مدن بينها نيويورك وبوسطن ونيو أورلينز ولوس أنجليس.