التحديات الأميركية الأبعد من معركتي "العزل" والانتخابات

التحديات الأميركية الأبعد من معركتي "العزل" والانتخابات

27 ديسمبر 2019
عملية عزل ترامب تطغى على الأحداث (سبنسر بلات/Getty)
+ الخط -

في مثل هذا الوقت من السنة تدور معظم مداولات وقراءات الدوائر والأوساط المعنية في واشنطن حول محورين: حصيلة العام المنصرم، ومحاولة استشراف تطورات العام المقبل، واستحقاقاته الموعودة والمحتملة.

وبذلك كان من الطبيعي هذه المرة أن تطغى عملية عزل الرئيس دونالد ترامب، وانتخابات الرئاسة المقبلة على الجدل الدائر، في هذا الخصوص. التقويمات والتوقعات بشأنهما تسيطر على المشهد بصورة كاسحة.

لكن الانشغال بهذين الملفين لا سيما موضوع العزل، فتح الباب للحديث عن الخلل الأوسع في الوضع الأميركي والتراكمات السلبية التي ساهمت أو قادت إلى أزمته السياسية الراهنة التي تعكس تفاقم تحدياته العاتية، وما تثيره من مخاوف تتردد بشأنها لو تعثرت معالجتها، حسب تحذيرات المخضرمين والمؤرخين.

فالمسألة من وجهة النظر هذه، تتعدّى حسابات الربح والخسارة السياسية والمناكفات وحسم الجولات والمواجهات لصالح هذا الطرف أو ذاك. هي في كنهها مسألة "ثقافة سياسية واقتصادية سائدة أدت إلى التراجع" في الوضع الأميركي على الصعيدين الداخلي والعالمي وبات من الصعب، إن لم يكن من المستبعد، تصحيحها في الآتي القريب، "بصرف النظر عن المآل الذي ستنتهي إليه كل من عملية العزل وانتخابات الرئاسة".

نظرة غير خالية من التشاؤم وربما من المبالغة، لكنها تستند إلى أرقام ومؤشرات وحقائق صلبة على الأرض.

من الهموم المتداولة في هذا السياق، وبكثير من القلق، وإن اقتصر على بعض النخب وأهل الاختصاص، قضايا تجاوزات الدستور والتشكيك في دور المؤسسات ومسألة التفاوت الطبقي المتزايد، وتفاقم المديونية العامة وتغيّر التوازن الديمغرافي، فضلاً عن التباس وارتباك الدور الأميركي الخارجي.

وما يحمل هذه الجهات على التخوف الحقيقي، هو أنّ هذه الاختلالات تحصل في زمن ازدهار اقتصادي وزمن سلمي لا تسوده حروب خارجية. مفارقة يرى كثيرون أنّها تؤشر إلى عطب عميق ناتج من تضافر عوامل عدّة، منها تقادم الزمن والتشبث بالماضي ومقارباته، وما أدى إليه ذلك من تكلّس في آليات النظام وصمامات أمانه، بحيث انتهى ذلك إلى تراكم القصور في التكيف مع التطورات المستجدة وموجباتها.

على سبيل المثال، لم يجد رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونيل، غضاضة في الإعلان قبل أيام أنه "لن يكون محايداً" في محاكمة الرئيس ترامب في هذا المجلس، وذلك في تعارض صارخ مع الدستور الذي ينص على ضرورة التزام أعضاء مجلس الشيوخ "بالحياد" في مثل هذه الحالة. وهذا نموذج من نمط سائد، أخيراً، تتقدم فيه اعتبارات السياسة وبصورة غير مألوفة على مستلزمات الدستور.

وكذا هي الحال بالنسبة للمؤسسات خاصة العدلية والأمنية التي تعمق النزاع بينها وبين الإدارة، بحيث صارت علامات الاستفهام مرسومة ولو جزئياً فوق هذه الأعمدة في تركيبة النظام الأميركي.


يواكب ذلك مخاوف جديّة من توسع هوّة التفاوت الطبقي، موضوع مستجد وغير مألوف تداوله في الخطاب الأميركي باعتباره ينتمي إلى قاموس الاشتراكية المنبوذة.

لكن الفجوة صارت واسعة إلى حدّ أنها باتت تتطلب لفت النظر إلى وجوب معالجتها قبل استفحالها الذي يطيح بمبدأ التوازن الذي تحققه "قوانين السوق". فالطبقة الوسطى "تتقلص مداخيلها لصالح الفئات العليا"، حسب استبيان أجرته قبل أشهر مؤسسة "بيو" للأبحاث.

ويعود ذلك إلى أسباب منها "ركود الأجور منذ عقود" وتمركز الثروة بيد الطبقة العليا التي "تمثل 1 في المائة من عدد السكان والتي تملك 60% من الثروة الوطنية"، حسب إحصاءات يرددها مرشحون للرئاسة مثل بيرني ساندرز، ولا يوجد ما ينقضها.

والمعلوم أنّ عدد المليارديارية في الولايات المتحدة الأميركية، ازداد إلى 702. وهو موضوع أفرز له "منتدى اسبن للأمن" في مؤتمره الأخير بولاية كولورادو، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أكثر من ندوة لمعالجة أسباب هذا الخلل قبل استعصائه.

وفي هذه المناسبة رفع أكثر من 160 من المدراء التنفيذيين لشركات كبرى، كتاب تحذير من مغبة التمادي في هذا الجنوح، ووجوب تدارك تداعياته قبل فوات الأوان. خاصة في زمن تعدّت فيه المديونية العامة مقدار الإنتاج القومي السنوي (18 تريليون) بحيث صارت في حدود 23 تريليون دولار مفتوحة على زيادة تريليون دولار في السنة، وعلى امتداد العقد المقبل.

أرقام انعكست في اشتداد الصراع في الكونغرس بين المحافظين الداعين إلى تقليص البرامج الاجتماعية والهجرة وبين الليبراليين الدافعين بالاتجاه المعاكس. يفاقم ذلك التأزم الثقافي الذي بدأت مظاهره تتجلى بتنامي خطاب التمايز العرقي الذي يحاول استباق اختلال التوازن القريب لغير صالح البيض.


أما على الصعيد الخارجي، فكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الاستعصاءات المحلية على تعامل واشنطن مع الملفات الدولية، الاضطراب الداخلي كانت ترجمته بلبلة خارجية، من الشرق الأقصى في كوريا الشمالية والصين إلى الشرق الأوسط في إيران وسورية والعراق والخليج وتركيا وحتى لبنان وليبيا.

إدارة ترامب من البداية تعطي إشارات متذبذبة تتراوح بين تأكيد الدور والانسحاب وما بين بين. هي مرتبكة قبل ترامب، معه صارت أقرب إلى الزئبق المتماوج، وفي الاعتقاد أنّ الترميم متى تيسرت ظروفه لن يكون سهلاً في المدى المنظور. الحليف ضعفت ثقته بواشنطن والخصم تضاعفت جرأته على التحدي. معادلة يتحدث عنها خبراء السياسة الخارجية بكثير من التحسّر.

هذه الرزمة من التحديات والهموم الأميركية الثقيلة، يتحدث عنها المعنيون في سياق المتابعة لمجريات العزل والانتخابات، بكثير من القلق في غياب قوالب الحلول في الوقت الراهن.