قضية خاشقجي: حدود الصفقة التركية ــ السعودية

قضية خاشقجي: حدود الصفقة التركية ــ السعودية

14 أكتوبر 2018
ستواصل أنقرة تحقيقها الخاص بالقضية إلى جانب التحقيق المشترك(الأناضول)
+ الخط -
كان الاتجاه العام في قضية إخفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، يسير حتى مساء الخميس الماضي نحو إعلان وشيك للنائب العام التركي، يقدّم فيه التفاصيل النهائية للجريمة، بعد أن حفلت وسائل الإعلام على مدار أكثر من أسبوع بكمّ كبير من التسريبات، عن مصادر متعددة، ما بين أمنية ودبلوماسية وإعلامية، ليس من بينها أي مصدر رسمي. وتغيّر هذا الاتجاه منذ مساء الخميس، بعد أن حصل تطوّر هام لم يكن في الحسبان من خلال إعلان السلطات التركية عن تشكيل لجنة تحقيق مشتركة، تركية سعودية، من أجل التحقيق في القضية. وسبق ذلك في صباح اليوم نفسه، رفض السلطات السعودية السماح للشرطة التركية تفتيش منزل القنصل السعودي محمد العتيبي، بعد أن كانت أبدت موافقةً على تفتيش القنصلية وبيت القنصل الذي أشارت تسريبات إلى أنه استقبل جثة خاشقجي موضوعة في أكياس كبيرة، بعد أن تمّ تقطيعه في القنصلية. والملاحظ هنا أنّ العديد من الروايات تحدثت عن احتمال إخراج الجثة بسيارة "فان" من بيت القنصل، وكان يجري البحث عنها، ولكن تراجع الحديث لاحقاً عنها في الإعلام، مما يضع هذه النقطة في حساب الألغاز التي يبحث التحقيق عن حلّها، ويجعل مصير الجثة غامضاً حتى اليوم.

بوصول وفد سعودي إلى أنقرة أول أمس الجمعة في الثاني عشر من أكتوبر، تكون السلطات التركية حقّقت الهدف الأول من الاستراتيجية التي اتبعتها لإدارة هذه القضية، وهو استدراج الرياض رسمياً إلى صلب القضية، بعد أن حاولت التملّص منها أياما عدة عبر وسائل متعددة، بدأت بالتجاهل فالإنكار، ومن ثمّ التراجع التدريجي أمام سيل التسريبات الإعلامية. وهو السلاح الذي أعطى مفعوله في صورة كبيرة، لأن الطرف التركي يملك تفاصيل مهمة عمّا تعرّض له خاشقجي داخل القنصلية السعودية، وضع بعض إحداثياتها لدى جهات دولية رسمية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وتحت تصرّف بعض وسائل الإعلام المحلية والدولية، وخصوصاً صحيفة "واشنطن بوست" التي كان خاشقجي يكتب فيها بصورة دائمة. ولعبت هذه الصحيفة دوراً مؤثراً في تحريك القضية على مستويات عدة، داخل الإدارة الأميركية ولدى الرأي العام، وشكّلت عامل ضغط على إدارة الرئيس دونالد ترامب، بعد التسريبات التي نقلتها عن أوساط استخباراتية أميركية حول التقاط مكالمات بين مسؤولين سعوديين تتحدّث عن مخطّط لاستدراج خاشقجي إلى السعودية بطلب من ولي العهد محمد بن سلمان.

انتقلت القضية منذ يوم الجمعة رسمياً من مسار التصادم التركي السعودي إلى التعاون، بعد أن وصل وفد سعودي رفيع المستوى إلى أنقرة برئاسة مستشار خاص للملك سلمان بن عبد العزيز. وترجّح مصادر تركية أن يكون هذا المستشار هو أمير منطقة مكّة، خالد الفيصل، الذي يحتفظ بعلاقات جيّدة مع المسؤولين الأتراك على أعلى المستويات، وكانت تربطه علاقة خاصة مع خاشقجي الذي عمل معه في تأسيس صحيفة "الوطن" في أبها عام 2004، وترأّس تحريرها مرتين، وتم إعفاؤه في المرة الثانية عام 2010 بعد نشر مقال ينتقد السلفية. وقال مصدر إعلامي في اسطنبول إنّ الأمير خالد الفيصل التقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يوم الخميس، ونجم عن ذلك الاتفاق على تشكيل لجنة التحقيق المشتركة، وأنّ الفيصل مكلّف من الملك سلمان بهذه المهمة.


وبدأ الوفد مفاوضات مع وزارتي الخارجية والعدل وكذلك النيابة العامة، من أجل تشكيل لجنة التحقيق المشتركة. وحسب أوساط إعلامية تركية، فإنّ هناك اتفاقاً مبدئياً على مباشرة عمل اللجنة بأسرع وقت ممكن، وسوف يشمل ذلك مسحاً كاملاً للقنصلية، وبيت القنصل الذي يبعد عنها قرابة 300 متر في منطقة بشتكاش. وربما يبدأ العمل يوم غد الأحد، وسط حالة من الترقب واستمرار التسريبات بجرعة عالية، حيث نشرت صحيفة "يني شفق" القريبة من حزب "العدالة والتنمية" الحاكم يوم الجمعة تفاصيل جديدة عن عملية تصفية خاشقجي جسدياً في مبنى القنصلية، وتقطيع جسده هناك ونقله لاحقاً إلى منزل القنصل. كما نشرت بعض الصحف والوكالات معلومات عن ساعة الـ"آبل" التي كانت بحوزة خاشقجي، ودورها في تسجيل ونقل التفاصيل إلى جهاز هاتف تركه في الخارج مع خطيبته خديجة جنكيز.

ويبدو للمراقب أنّ وصول الوفد السعودي لم يغيّر شيئاً في استراتيجية أنقرة للكشف عن تفاصيل قضية خاشقجي، ويتجلّى ذلك من خلال استمرار التسريبات الإعلامية للصحافة المحلية والدولية بجرعة عالية، حتى يعتقد البعض أنه لم يبق شيء إلا وتمّ الكشف عنه، وصار هناك رواية متكاملة العناصر لا تحتاج سوى إلى الإعلان الرسمي عنها.

في مقابل ذلك، يجري الحديث عن احتمال التوصّل إلى صفقة سعودية تركية تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً رئيسياً. وهنا، أكّد مصدر تركي مطلع أنّ "واشنطن هي التي ضغطت على الرياض لقبول تشكيل لجنة التحقيق المشتركة، وستكون قريبة من عملها على صعيد المشاركة في المسح الميداني". وهذا يؤكّد الحديث عن مشاركة وفد من "مكتب التحقيقات الأميركية الفيدرالي" (إف بي آي) المتخصّص بجرائم من هذا النوع، رغم النفي التركي الذي نقلته وكالة "الأناضول"، لوجود أيّ مشاركة أميركية في التحقيقات.

وتفيد أوساط مطلعة في اسطنبول بأنّ القضية سوف تسير في شقين: الشقّ الجنائي، والشقّ السياسي. وتقول المصادر إنّ القضية سوف تأخذ مجراها في الشقّ الجنائي حتى النهاية، وسيتم الكشف عن تفاصيل قضية الاغتيال كافة. وهذا أمر يكتسي ضرورة قصوى بالنسبة للرأي العام المحلي والخارجي الذي يريد أن يعرف ماذا حصل لخاشقجي، وهذا هو المنتظر من لجنة التحقيق المشتركة.

أمّا في الشقّ السياسي، فتبدو القضية أكثر تعقيداً، ويتداخل فيها أكثر من ملف، ولكنها تحتمل هي الأخرى أكثر من قراءة. فإذا كان الغرض هو اختطاف خاشقجي فقط من تركيا إلى السعودية، وأنه مات تحت التخدير، فإنّ المسؤولية هنا تقلّ عن حجم المسؤولية في حال كان القرار أساساً بالقتل، وصادر عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مثلما سبق أن تداولت وسائل إعلام ومنها رواية صحيفة "نيويورك تايمز". وفي الحالة الأولى يمكن للادعاء العام أن يكتفي بتوجيه الاتهام إلى المنفّذين المباشرين، ويترك للمستوى السياسي تحديد بقية التبعات. ولكن في جميع الأحوال، سوف تطلب أنقرة تسليم المتهمين المباشرين كي يحاكموا حسب القانون التركي على أراضيها.

وفي حال ثبت أنّ أوامر القتل صدرت عن بن سلمان، ففي هذه الحالة سوف يترتب على الادعاء توجيه المسؤولية المباشرة إليه، ومن المرجح أيضاً أنّ هذا الأمر متروك للمستوى السياسي التركي الذي يتوقّف عليه تقدير مدى خطورة الأمر، وما يترتّب عليه من آثار ونتائج، خصوصاً أنّ الأيام الماضية حفلت بشحن إعلامي وسياسي واسع ضدّ ولي العهد السعودي، على اعتبار أنه يقف وراء الجريمة في المحصلة النهائية.

وفي الختام، يقول مصدر إعلامي تركي، إنّ تشكيل لجنة تحقيق مشتركة لا يعني أنّ المسألة توقّفت هنا، أو أنها سارت في طريق الحلّ السريع. ويرى أنّ هذه الخطوة ليست سوى البداية، ويترتّب على مدى تفاهم الطرفين، حسن سير وتقدّم عملها. ويضيف المصدر أنّ أنقرة حذرة جداً من المماطلة السعودية، ولذا ستواصل تحقيقها الخاص بالقضية إلى جانب التحقيق المشترك، وستكون جاهزة لإعلان نتائج تحقيقها الخاص متى وجدت أن الضرورة تقتضي ذلك.

المساهمون