هكذا تجاوزت قطر صدمة الحملة ضدها

هكذا تجاوزت قطر صدمة الحملة ضدها

13 يوليو 2017
اتسم رد الفعل القطري عامة بالهدوء (كريم جعفر/فرانس برس)
+ الخط -

لا يمكن للمراقب أن يفهم النهج الدبلوماسي لقطر في التعامل مع كل مراحل الحملة السعودية-الإماراتية، من الانفجار إلى الحصار، مروراً بالحملات الإعلامية المبرمجة، من دون الوقوف على حقائق "ما خلف المشهد". وإن كانت دول الحصار قد خططت لتفجير الأزمة تحت جنح الظلام، فجر الخامس من يونيو/حزيران الماضي، بأسلوب "الترويع والصدمة" الأميركي، لترويع قطر وإرباك دوائر الحكم في الدوحة، إلا أن قطر تمكّنت من امتصاص "الضربة الأولى"، من دون مفاجأة، ولكن بصدمة مردها توقيت الهجمة وأسلوبها والذرائع والأكاذيب التي تجاوزت حدود الخلاف السياسي الرسمي، وحرقت كل الخطوط الحمراء، حتى وصلت إلى قعر غير مسبوق.

الصدمة
ما صدم القطريين فجر الخامس من يونيو/حزيران الماضي، لم يكن اندلاع الأزمة، لأن الدوائر السياسية في الدوحة كانت تتوقع انفجار الأزمة مع دول الجوار، إن لم يكن هذا العام، فالعام المقبل أو الأعوام التي تليه. غير أن الصدمة جاءت من عوامل عدة، أولها التوقيت، إذ إن الأزمة المفتعلة تم تفجيرها بعد أيام قليلة من قمة الرياض، التي جمعت زعماء خمسين دولة عربية وإسلامية، من بينها قطر، مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وكان شعارها التنسيق لمواجهة الإرهاب، ومواجهة النفوذ والتمدد الإيراني في المنطقة، وإذ إن مُستضيف القمة يجيرها في الخفاء لمواجهة قطر.

ثم إن الدوحة صُدمت من الأسلوب الذي انتهجته الرياض وأبو ظبي في تفجير الأزمة، بدءاً من اختراق الموقع الرسمي لوكالة الأنباء القطرية، وتلفيق تصريحات على لسان أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، وصولاً إلى الحملات الإعلامية التي لا يخفى أنها كانت مبرمجة سلفاً، وقد تم الإعداد لها والاستعداد لمراحلها مسبقاً. والأمر الآخر الذي صدم الدوحة الرسمية والشعبية، هو المضمون الإعلامي الذي روجّه إعلاميون وسياسيون سعوديون وإماراتيون على شاشات القنوات الفضائية، وعبر منصات التواصل الاجتماعي، وقد اتسم بالهبوط الأخلاقي، والافتراء، ومس حرمات البلاد والعباد في قطر. وأخيراً صُدمت قطر بالتصعيد الكبير للأزمة، مع حرق المراحل، وصولاً إلى فرض حصار لا عقلاني ولا إنساني، استهدف حياة الناس وأرزاقهم وأعمالهم والعلاقات الأسرية بينهم، ليس في قطر وحسب، ولكن في دول الحصار نفسها.
وربما كانت ذريعة "دعم الإرهاب" التي وظّفها خصوم الدوحة لتحشيد العالم ضدها، هو أكثر ما صدم قطر، لا سيما أن قطر شريك في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، ومن الأراضي القطرية تنطلق الطائرات الأميركية لضرب معاقل الإرهاب في اليمن والعراق وسورية. ناهيك عن أن ذريعة الإرهاب التي رُفعت في وجه قطر، جاءت من الرياض التي طالما اعتبرتها الدوائر الغربية منبعاً للتطرف.

الهدوء
بعيداً عن الصدمة، اتسم رد الفعل القطري عامة بالهدوء. ويمكن فهم هدوء الدوائر السياسية القطرية في التعاطي مع الأزمة المفتعلة بالتأكيد على حقيقة أن الدوحة لم تفاجأ بالأزمة، بل كانت تتوقع حدوثها في أي وقت. توقعات الدوحة تأسست على مجموعة حقائق جيوسياسية، تاريخية وراهنة. الحقيقة الأولى، هي أن دولة قطر، الصغيرة جغرافياً وديمغرافياً، كانت تعي أن الجغرافيا الطبيعية فرضت عليها جغرافياً سياسة قاسية التضاريس، ومعقدة المناخ. ولم تتجاهل قطر يومياً أن موقعها بين فكي إيران زعيمة الإسلام الشيعي، والسعودية زعيمة الإسلامي السني، يفرض عليها السير على حبل مشدود، يتهدده تصاعد الصراع السعودي-الإيراني على الجغرافيا، واتساع نطاق المواجهة بينهما على النفوذ. ولطالما أيقنت قطر أن تبنّي دبلوماسية الوساطة، ونهج استراتيجيات الحياد، والبقاء خارج لعبة المحاور، قد لا تحمي من زجّها في أتون صراع إقليمي يفرض عليها الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، وهو ما يعني الخصومة مع هذا الطرف أو ذاك.

والحقيقة الثانية التي حالت دون "تفاجؤ" الدوحة من الأزمة الراهنة، هو المعرفة المسبقة بتاريخ الإقليم المائج بالصراعات الجيوسياسية، بدءاً من حرب "الجهراء" بين الكويت وآل سعود في العام 1920، وصولاً إلى الخلاف السعودي الراهن مع الكويت على حقلي نفط "الدرة البحري" و"الخفجي البري"، مروراً بتاريخ حافل من الخلافات الحدودية وصل إلى ذروته بالاحتلال الإيراني لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى في العام 1971، والاحتلال العراقي للكويت في العام 1990. وكان للدوحة تجربة مريرة من الصراع الحدودي مع السعودية، وصل في العام 1992 إلى صدام مسلح عُرف باسم معركة "الخفوس" أدت إلى سيطرة السعودية على منطقة "الخفوس".


كما أن ما يصفه القطريون بـ"محاولة الانقلاب نسخة 2017"، لم تُفاجئ الدوحة، التي كانت تعلم أن عواصم في الخليج ومنها السعودية، وعواصم عربية منها القاهرة، لم تكن تنظر بعين القبول للتغيرات السياسية في قطر منذ العام 1995، عندما تولى، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، مقاليد الحكم. وقد اتهمت الحكومة القطرية أفراداً من قبيلة "بني مرّة" بدعم المحاولة الانقلابية عام 1996 بالتعاون مع السعودية. كما اتهمت الدوحة الرياض بتدبير محاولة انقلاب أخرى في العام 2005. ووصلت الأزمة بين الرياض والدوحة إلى حد القطيعة في العام 2014 عندما اتهمت السعودية والبحرين والإمارات، قطر بالتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول.

ولم تفاجأ قطر بالأزمة الراهنة مع جيرانها الخليجيين، كذلك، لأنها كانت ترى وتلمس على الدوام، عدم الارتياح الخليجي، والمصري، من تمدد الدور القطري، في الإقليم والعالم. وكانت الإشارات الصادرة عن عواصم دول الحصار توحي بعدم الرضى من نفوذ للدوحة يفوق حجمها الديمغرافي. وما فاقم "عدم الرضى" الإقليمي تجاه دور قطر، هو نجاح الوساطات القطرية حيث أخفق كثيرون، ومن ذلك في أزمة لبنان 2006، وفي الساحة الفلسطينية، حيث تبوأت قطر دور الوسيط بين الفصائل الفلسطينية. كما كان الحضور القطري الأبرز في نزاع دارفور في السودان، والصراع على السلطة في الصومال، والصراع بين الحوثيين والسلطة في اليمن. وكان للدبلوماسية القطرية دور ملموس في صراعات دول القرن الأفريقي. وأخيراً دور قطر في دعم ثورات "الربيع العربي"، وربما هذا ما "كسر ظهر البعير".

الثقة
اتسم رد فعل الدوائر السياسية القطرية على الأزمة الحالية منذ انفجارها بالثقة، ومرد ذلك، أولاً للاستعداد التام لاحتمالات وقوع الأزمة، وبالتالي انتفاء عنصر المفاجأة، وثانياً لأن قطر، التي كانت تتوقع وقوع الأزمة، استعدت، منذ سنوات، بتجهيز وبناء استراتيجية دفاعية، قوامها "القوة الناعمة"، المعززة بـ"القوة الصلبة"، مما يمنحها درعاً من "القوة الذكية". وتوزعت ترسانة القوة الناعمة التي راكمتها قطر عبر العقدين الماضيين على واجهات عدة، من "شبكة الجزيرة الفضائية" التي شكلت منذ انطلاقها في العام 1996 حالة فريدة في الفضاء الإعلامي العربي، إلى الخطوط الجوية القطرية التي وصلت إلى أكثر من 150 وجهة عبر العالم، وصُنفت في العام 2017 كأفضل شركة طيران في العالم، وما بينهما من ثروات قطر الطبيعية والاستثمارية التي وُظفت لحماية كيان قطر السياسي، وتعزيز مكانتها ودورها إقليمياً وعالمياً.

وعلى امتداد هذه الواجهات، وفّرت قطر لنفسها حماية بـ"درع" من الأدوات الاستراتيجية بات من الصعب معها الاعتداء على هذه الدولة الصغيرة في غفلة من العالم، وبات من الصعب أن تتعرض أراضي قطر أو سيادتها لخطر الاحتلال أو القضم أو الضم أو الاختراق، من دون تحرك كثير من دول العالم وشعوبها ومنظماتها الأهلية والثقافية والإعلامية، لأنها باتت ترتبط بمصالح اقتصادية، أو سياسية، أو إنسانية، أو أخلاقية، مع قطر ومؤسساتها الرسمية والأهلية. وقد ظهرت قدرات "القوة الناعمة" القطرية خلال الأزمة الراهنة، إذ لم تنل الحملة تأييد دول عربية وعالمية، استهجنت واستنكرت مطالب دول الحصار التي وصلت إلى حد المطالبة بإغلاق قناة الجزيرة، أو رفضت الحصار على قطر وشعبه.

وتعاضدت عناصر "القوة الناعمة" القطرية مع دعم قوى كبرى، أو عدم تأييدها على الأقل لدول الحصار ومطالبها، مما منح الدبلوماسية القطرية ثقة عالية تغلبت على أي شعور بالضعف بسبب الديمغرافيا المحدودة. ويمكن القول، إن الارتباك الذي امتاز به أداء خصوم قطر منذ بداية الأزمة، وخروج أداء وزراء خارجية دول الحصار عن كل قواعد اللياقة واللباقة الدبلوماسية، أكسب الدبلوماسية القطرية، ورقة قوية في المواجهة. فقد جاءت ردود الفعل العالمية، أكثر تقبلاً للرواية القطرية، من قبول ادعاءات ومزاعم دول الحصار. كما تفاعل المجتمع الدولي مع استعداد قطر لحل النزاع بالحوار والتفاهم على أسس القانون الدولي، وأصول العلاقات الدولية، أكثر من تفاعله مع مطالب وشروط دول الحصار التي جاءت مُستفزة، على حد تعبير وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل.

الدبلوماسية العامة
على الرغم من سخونة الحملات الإعلامية الموجّهة ضد قطر، وتصاعد الخطاب الرسمي لدول الحصار بالتهديد والوعيد، إلا أن الدبلوماسية القطرية لم تفقد توازنها في الدوائر الرسمية، بل عززت خطابها بدبلوماسية عامة، إذ تحركت مختلف القطاعات الحكومية والأهلية القطرية لإطلاق المشاريع والمبادرات، التي تؤكد من جهة على عدم نيل الحصار من رؤية قطر وخطواتها نحو المستقبل، ومن جهة أخرى تعزز دور قطر العالمي. وفي هذا السياق يمكن فهم الغاية من إعلان "قطر للبترول" رفع الطاقة الإنتاجية للغاز الطبيعي المسيل في قطر من 77 مليون طن إلى 100 مليون طن سنوياً، من خلال مضاعفة وتطوير القطاع الجنوبي لحقل الشمال، في خطوة وصفها خبراء الاقتصاد أنها ستعزز مكانة قطر عالمياً، وتجعل منها رقماً صعباً في المنظمات الدولية للطاقة. وفي السياق ذاته جاء إعلان الخطوط الجوية القطرية عن وجهات جديدة، وإعلان "موانئ قطر" عن تدشين خمسة خطوط بحرية جديدة.