تونس بين ليبيا والجزائر: حرب مفتوحة وديمقراطية واعدة

تونس بين ليبيا والجزائر: حرب مفتوحة وديمقراطية واعدة

18 ديسمبر 2019
أكثر من نصف الجزائريين قاطعوا الانتخابات الرئاسية (العربي الجديد)
+ الخط -
في الوقت الذي تشير فيه التوقعات إلى أنّ الأيام القليلة المقبلة قد تشهد ميلاد الحكومة التونسية الجديدة حسبما صرح بذلك رئيس الوزراء المكلّف، حبيب الجملي، أخيراً، تزداد المخاوف من حرب تشتدّ ضراوة حول العاصمة الليبية طرابلس يقودها اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، في حين تدخل الجزائر مرحلة جديدة من السعي نحو تغيير نظامها السياسي. ونظراً لأهمية هذين التطورين على حدود تونس الشرقية والغربية، تتجه الأنظار نحو الرئيس قيس سعيّد باعتباره المسؤول دستورياً عن الدبلوماسية التونسية.

يتفق خبراء متخصصون في شؤون تونس على أنّ الأخيرة تضرّرت كثيراً من الفوضى التي اجتاحت ليبيا بعد سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011. إذ خلافاً لما توقعته عموم النخب المحلية التي ظنّت أنّ زوال حكم القذافي سيفتح المجال أمام مرحلة جديدة من التعاون والازدهار بين البلدين، حدث العكس تماماً بسبب اضطراب الأوضاع في ليبيا ودخولها في نفق لم تغادره إلى الآن، ترتّب عليه هروب مئات الآلاف من العمالة التونسية، خوفاً من تداعيات الحرب ولا سيما على تخوم العاصمة طرابلس وما حولها.

وعلى الرغم من احتدام المعارك الليبية، حافظت الدبلوماسية التونسية على موقفها السابق الذي اتخذته منذ عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، والقائم على دعم الشرعية الدولية التي تتمثّل في التعامل مع حكومة الوفاق الوطني، مع التأكيد على دعوة طرفي النزاع إلى الحوار تحت راية الأمم المتحدة. وهو الموقف الذي تحاول بعض الأحزاب التونسية تعديله على ضوء التطورات الحاصلة على الأرض. إذ تعتقد هذه الأطراف حالياً أنّ المصلحة الوطنية تقتضي مدّ الجسور باتجاه حفتر كذلك، باعتباره الأوفر حظاً في المعركة، كما ترى، وذلك في عملية استباقية تحمي مصالح تونس مستقبلاً في حال تمكّن هذا الأخير من حسم الحرب لصالحه.

لكن على الرغم من هذا التوجه لدى بعض الأحزاب، فإنّ وجهة النظر السائدة حالياً والتي تدعمها حركة "النهضة" إلى جانب أحزاب أخرى، تتمسّك بعدم سحب الثقة من الحكومة التي تعترف بها الأمم المتحدة، واعتبار أنّ ما يحصل في طرابلس عدوان يقوده حفتر لا بدّ من إدانته، بغضّ النظر عن التغيير الحاصل في موازين القوى العسكرية على الأرض. وقد بدأت تونس تستقبل شخصيات ليبية هامة قرّرت نقل محلّ إقامتها خوفاً من حدة المعارك، وهو أيضاً ما فعلته العديد من الأطراف الدبلوماسية الغربية التي شرعت بدورها في الانتقال إلى تونس.

وبين الموقفين، يتابع الرئيس التونسي قيس سعيّد الملف الليبي باهتمام بالغ، لكن من دون أن يصدر عن رئاسة الجمهورية ما من شأنه أن يوحي باحتمال تعديل الموقف الرسمي في وقت قريب.


على الجانب الشرقي، يتابع التونسيون بمشاعر مزدوجة ما يحصل في الجزائر. وكان خوفهم الشديد أن تتحوّل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في هذا البلد إلى مواجهة دامية بين الجزائريين، لكن حصولها في أجواء عادية، أعاد الثقة من جديد في قدرة الشعب الجزائري على إدارة خلافاته بعيداً عن العنف. لقد تأكّد أنّ الجزائريين أخذوا على أنفسهم عهداً لن يخلفوه بكونهم لن يعودوا أبداً إلى سنوات فترة التسعينيات من القرن الماضي، فهم استوعبوا بشكل كامل دروس تلك المرحلة الدامية، مثلما يفعل اللبنانيون الذين يديرون معركتهم السياسية حالياً بأدوات سلمية وحضارية.

واليوم، ينتظر الرأي العام التونسي، خصوصاً الطبقة السياسية، التطورات المحتملة للمشهد السياسي الجزائري الذي يبدو أنه يتهيأ لمرحلة انتقالية غير واضحة المعالم. إذ لا يمكن نسيان أنّ أكثر من نصف الجزائريين قاطعوا، عن وعي، حيثيات الانتخابات الأخيرة، لكن في المقابل هناك نصف الناخبين شاركوا في العملية الانتخابية التي اكتسبت حداً أدنى من المعقولية. فالذين طالبوا برحيل كامل المنظومة القديمة المرتبطة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، لم يضعوا خطة واضحة لتجنّب البلاد الدخول في فراغ قد يؤدي بالجزائر إلى فوضى عارمة. وصحيح أنّ الجيش نجح أخيراً في فرض أجندته، لكنّ القيادة العسكرية مدركة أنها غير قادرة على إسقاط نصف الجزائريين من حسابها، وهي تفهم جيداً انسحاب مناطق القبائل (الأمازيغ) كلياً من العملية الانتخابية. الشعب منقسم على نفسه، والديمقراطية هي الأسلوب الوحيد لإدارة الخلافات وتجنيب البلاد التصدع والتفتت، والخوف من أن تستعيد المنظومة القديمة قوتها وحساباتها.

استراتيجياً، ما حصل في الجزائر يخدم التجربة التونسية ويدعمها، وقد يحميها من المخاطر. فعندما تنتصر الديمقراطية في البلدين تزول الكثير من المخاوف، ويولد قاسم مشترك بينهما يزيد من توثيق العلاقات، ويحمي تونس من الانفراد بهذه التجربة التي يتربّص بها أعداء الديمقراطية. هذا الأمر يراود الكثير من السياسيين الذين كانوا من قبل يتعاملون بحذر شديد مع القيادات والأجهزة القديمة في الجزائر التي كانت تنظر بعدم الرضا إلى التطلعات الديمقراطية للتونسيين خوفاً من انتقال العدوى. اليوم تغيّرت أشياء كثيرة في الجزائر، وأصبح الجزائريون جزءاً لا يتجزأ من الحالة الديمقراطية الجديدة التي بدأت تكتسح العالم العربي.

ويبدو أنّ الوفاء بالوعد الذي التزم به قيس سعيّد حين أصبح رئيساً لتونس قد بات قريباً، حين أعلن أنّ أول زيارة رسمية له إلى الخارج ستكون إلى الجزائر. وهي الزيارة التي تأخّرت قليلاً، لأنه كان ينتظر المخاض الجزائري. أمّا اليوم، فلم يعد هناك مبرر لتأجيل القيام بتلك الخطوة الرمزية، والتي تكتسب أهمية خاصة بالنسبة للشعبين.