القدس تسقط للمرة الثالثة... والعرب يتفرجون

القدس تسقط للمرة الثالثة... والعرب يتفرجون

14 مايو 2018
سيشارك سفراء 30 دولة بافتتاح السفارة (ليئور مزراحي/فرانس برس)
+ الخط -


هدّد الاحتلال الإسرائيلي، أمس الأحد، بموازاة نشر تقارير إعلامية موجّهة بشأن الدفع بآلاف الجنود إلى منطقة السياج الحدودي مع قطاع غزة، بإطلاق النار بهدف القتل، في "حال شعر الجنود بالخطر". ولوّح بعمليات وضربات جوية داخل القطاع غربي السياج الحدودي، في حال اندلع الغضب الفلسطيني في مسيرات عودة يشارك فيها عشرات ومئات الآلاف من سكان القطاع.

وحرص الاحتلال على الحديث علانية عن إلغاء تدريبات عسكرية لعدد من وحداته وألويته، ووضع جنود الاحتياط و"طلبة" المعاهد وكليات الإعداد، الحربية والعسكرية، في حالة تأهّب لمواجهة حرب في الجنوب، مع نشر قوات والآلاف من عناصر الشرطة وحرس الحدود في مدينة القدس المحتلة. ولا يستبعد أن ينصب اليوم حواجز عسكرية على مشارف الأحياء والقرى الفلسطينية المحيطة بالقدس، التي ضمها الاحتلال إلى نفوذ بلدية القدس، لمنع المقدسيين من الوصول إلى منطقة الحرم القدسي، وهو ما قد يُنذر باشتعال القدس كلها، خصوصاً بعد مواجهات المقدسيين أمس مع المستوطنين الذين اقتحموا باحات الأقصى منذ ساعات الصباح.
ويمثّل اليوم، من وجهة نظر الاحتلال، الخطوة العملية الأولى نحو تحقيق حلم دولة الاحتلال الإسرائيلي باعتراف دولي بمدينة القدس المحتلة عاصمة لها، مع فعاليات نقل السفارة الأميركية إليها، وسط صمت عربي ونكوص من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، فيما لم يهب أمس لمواجهة اقتحام أكثر من 1500 صهيوني باحات المسجد الأقصى سوى أبناء القدس المحتلة وتجارها.

وخلافاً للانطباع الأولي، فإن نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، غير المعترف بها كجزء من دولة الاحتلال، حتى في شطرها الغربي الذي وقع تحت الاحتلال في حرب النكبة في عام 1948، لا يشكل خطوة فردية، بل هو ثغرة هائلة في الموقف الدولي والأممي من مدينة القدس، في ما يبدو أنه جزء من صفقة كبرى تسمى اليوم بـ"صفقة القرن". ويعزّز هذا القول حقيقة مشاركة سفراء 30 دولة، بينهم سفراء أربع دول من الاتحاد الأوروبي، في الفعاليات اليوم، خلافاً للموقف الدولي العام الذي لم يكن يعترف حتى بالشطر الغربي من المدينة عاصمة لدولة الاحتلال. وتسنّى إحداث هذه الثغرة في الموقف الدولي في ظل انحسار وتراجع الفعل الفلسطيني المقاوم من قبل السلطة الفلسطينية في رام الله، وتراجع الأخيرة المرة تلو الأخرى عن التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية في مقابل تعهدات أميركية بخطة تسوية تقوم على أساس حل الدولتين. وفيما أضاعت السلطة الفلسطينية في رام الله فرص تكريس الحق الفلسطيني في القدس، في مراهنات متواصلة، منذ أوسلو، على تسوية تفرضها الولايات المتحدة على دولة الاحتلال، كانت الأخيرة تثبت أقدامها، ليس فقط بمزيد من الأحياء الاستيطانية وإنما بخطوات تشريعية و"دستورية" احتلالية وخطوات مادية على الأرض، منذ أقامت جدار الفصل العنصري في عام 2005 وصولاً إلى إقرار خطة خاصة لوزيرة العدل الإسرائيلية، تبيح لدولة الاحتلال بدء عمليات تسجيل أراضي الشطر الشرقي من المدينة في عام 1967 في دائرة الطابو الإسرائيلية، بما يسمح أيضاً لدولة الاحتلال بنسخ إجراءات المصادرة التي سبق لها استخدامها في فلسطين عام 1948، وأهمها مسألة ما تسميه "أملاك الغائبين"، وهو في حالة القدس مصطلح يضم آلاف الدونمات لفلسطينيين نزحوا خلال حرب يونيو/ حزيران إلى الأردن، وإن بقي خلفهم أبناء أو إخوة، إلا أنهم يدخلون، وفق القانون الاحتلالي، في باب "الغائبين"، وبالتالي لا يمكن لأبنائهم وأهاليهم حصر أملاكهم وأراضيهم في عمليات حصر إرث لتسجيلها باسمهم، حتى لو أظهروا وثائق وحجج تنازل عن الأرض والملك لمصلحتهم.




ويأتي نقل السفارة الأميركية إلى القدس اليوم دليلاً على حجم مأساة استمرار النكبة الفلسطينية، سياسياً أيضاً، إذ ليس بمقدور طرف فلسطيني أو عربي اليوم أن يعلن مفاجأته من الخطوة، بعد أن كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يتبنّى رواية الاحتلال بأكملها، بما في ذلك بفعل قواعده اليمينية المسيحيانية في الولايات المتحدة، قد أعلن خلال حملته الانتخابية عزمه الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وهو ما تم في السادس من ديسمبر/ كانون الأول 2017، وأتبع ذلك بتعهده بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وهو ما يتحقّق اليوم. ولا تقف نكبة القدس الجديدة، أو الثالثة إذا شئنا، عند هذا الإعلان وهذه الخطوة، بل يبدو أنه في ظل حالة التهاون العربية فإن ما هو قادم على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين أشدّ وأقسى، في ظل تسليم من النظام العربي، وعلى رأسه السعودية ومصر والأردن، بالعجز، إن لم يكن التسليم بالخطوة الأميركية وما يتبعها من خطوات لسلسلة من الدول الأخرى التي أعلنت عزمها السير على خطى ترامب ونقل سفاراتها إلى القدس، وبينها دول كانت تعتبر سابقاً في "المعسكر العربي". لكن النظام العربي وتآكل قوة ونفوذ وتأثير منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن بدأت السلطة الفلسطينية، بقيادة محمود عباس، تأخذ مكانها عنواناً دولياً للفلسطينيين (وللدقة للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، دون القدس التي تركت وحيدة)، ترك هذه الدول تتحرّر من التزاماتها حيال عدالة قضية فلسطين وشعبها، بعد أن رأت هذه الدول أن الحكام العرب لا يكترثون حقاً بما يحدث في فلسطين وما يحدث لفلسطين وعاصمتها القدس، سوى ببيانات الاستنكار والرفض الكلامي واللفظي.

وبموازاة ذلك، يبدو أن إسرائيل كانت تواصل "فتح" عواصم هذه الدول، على الرغم من "عدم أهميتها" وخفة وزنها النوعي، أو التاريخي، بدءاً من جزر ميكرونيزيا في المحيط الأطلسي وجزر المالديف، مروراً بدول الكتلة الشرقية سابقاً، وعلى رأسها رومانيا والتشيك والمجر، التي شكّلت رأس حربة إسرائيل، أول من أمس، في شق الاتحاد الأوروبي ومنع صدور مقترح قرار فرنسي يدين الخطوة الأميركية. ولم يقم العرب ولا الفلسطينيون، ممثلين بالسلطة الفلسطينية التي تملك الجهاز الدبلوماسي الواسع وعدداً أكبر من السفارات في الخارج من ذلك المتوفر لدولة الاحتلال، بالجهد الكافي لمنع الخطوة الأميركية. وكانت إسرائيل تجمع في العقد الأخير أصوات الدول "الصغيرة والنكرة"، بحسب القاموس العربي، إصبعاً وراء إصبع، لتراكم أغلبية لها، أو على الأقل تبطل أغلبية تلقائية مؤيّدة لفلسطين وقضاياها في الأمم المتحدة والمنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة. ولعله لا يمكن في هذه القراءة تجاهل ما لفت إليه المفكر العربي، عزمي بشارة، السبت الماضي، من أن نقطة التحوّل الأخطر في العقد الأخير على القضية الفلسطينية هي نفس نقطة التحوّل التي أودت بأحلام العرب بربيع عربي وتحرر من الأنظمة الاستبدادية التي تاجرت، ولا تزال، بقضية فلسطين. فقد شهد عام 2013 انطلاق الحرب المضادة للدول الرجعية والاستبدادية على الربيع العربي، بدءاً من الانقلاب على الثورة في مصر وليبيا وليس انتهاء بحرب هذه الأنظمة على الثورة السورية.

تحتفل دولة الاحتلال اليوم بوضع استراتيجي وبقوة عسكرية لم تكن تحلم بها منذ قيامها على أنقاض الشعب الفلسطيني في نكبته الأولى في عام 1948. وها هي دولة الاحتلال تؤسس اليوم لنكبة جديدة تطاول تحديداً، وعلى نحو خاص، القدس المحتلة كلها، وليس شطرها الغربي فقط، الذي تبرع العرب، حتى قبل بدء مفاوضات جادة وقبل مؤتمر مدريد، بالتنازل عنه لدولة الاحتلال، من خلال عبارات ومعادلات دولتين لشعبين، وعاصمتين، الغربية لإسرائيل والشرقية لفلسطين، حتى عندما كان المجتمع الدولي يصرّ على موقفه الرسمي وقرارات الشرعية الدولية بأن تبقى القدس، وفق قرار التقسيم، منطقة وصاية دولية.

ويستقوي الاحتلال بقرار أميركي بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلة، على مقربة من قرية جبل المكبر التي احتلها الاحتلال عام 1967، وحولها إلى جزء من المدينة، وعلى أرض تابعة لفلسطينيين من جبل المكبر. لكن هذا الاستقواء لم يكن حاصل إدارة أميركية مؤيدة للاحتلال في كل طموحاته بقدر ما هو أيضاً نتاج حروب عربية داخلية، على الاتجار بما تبقى من القدس، في شطرها الشرقي المحتل قبل 51 سنة. وقد اقتصر الرد الفلسطيني على الخطوة الأميركية المقرر تنفيذها اليوم، على بيانات الاستنكار والشجب، باستثناء قلة قليلة من المقدسيين المرابطين في القدس وفي جنبات المسجد الأقصى ممن خاضوا حرب البوابات الإلكترونية خلال الصيف الماضي، ويخوضون يومياً مواجهات مع اليهود المتدينين الاستيطانيين الذين يقتحمون المسجد الأقصى يومياً تحت حراسة شرطة وجنود الاحتلال، وتحت سمع وبصر الدول العربية، بما فيها التي تملك سفارات لها في تل أبيب، والتي قد تجد نفسها قريباً مطالبة بنقلها هي الأخرى إلى القدس، حتى تكتمل دائرة الطموحات الإسرائيلية. ولكن الأسوأ من ذلك ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية عن نشاط نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ومحاولة الاستخبارات المصرية ممارسة ضغوط على حركة "حماس" لتقليل وتيرة ووهج مسيرات العودة على الجانب الفلسطيني في قطاع غزة من السياج الحدودي مع فلسطين التاريخية، خوفاً من اندلاع الغضب الفلسطيني. ويبدو أن عقيدة التنسيق الأمني هي صاحبة القول الفصل في الضفة الغربية المحتلة التي تحكمها السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عباس، والتي من المتوقع أن يقوم عناصرها، كما في حالات ومناسبات فلسطينية سابقة، بمنع الناس من التظاهر والوصول إلى نقاط الاحتكاك مع عناصر جيش الاحتلال وعند خطوط التماس بين البلدات الفلسطينية والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة.