عرسال اللبنانية... كي لا يغلب الصخر الكرز

عرسال اللبنانية... كي لا يغلب الصخر الكرز

26 يوليو 2017
عرسال أكثر البلدات اللبنانية استضافة للاجئين السوريين(جوزف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
كانت بلدة عرسال على حدود لبنان الشرقية مع سورية قبل انطلاق الثورة السورية بلدة أُخرى، تُضاف إلى قائمة البلدات البعيدة التي تشارك في نشاطات قوى تحالف الرابع عشر من آذار، وبوصفها "بلدة سنية توالي الرئيس الشهيد رفيق الحريري". هكذا اختزل الرأي العام اللبناني عرسال التي رسم أبناؤها تاريخ بلدتهم بمناهضة "حلف بغداد" وبمُحاربة العدو الإسرائيلي في مُختلف الجبهات من الجنوب إلى بيروت والبقاع ضمن صفوف "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" (جمول) والحزب الشيوعي اللبناني.

لا يُقدّم مدخل البلدة الوحيد الضيق نسبياً، صورة حقيقية عن مساحة البلدة الشاسعة (حوالي 320 كيلومتراً) لمن يزروها أول مرة، لكنه يعكس بوضوح حالة الاحتقان الشديد بين بلدة أُلبست رداء الطائفية ثم رداء التطرف رغم تاريخها اليساري الطويل وبين محيطها الذي يعاكسها أو تعاكسه في السياسة وفي الانتماء المذهبي. يعيش في عرسال اليوم حوالي 40 ألف مواطن لبناني، وأكثر من 100 ألف لاجئ سوري دفعتهم آلة القتل النظامية في سورية إلى اللجوء إلى أقرب جيرانهم في لبنان، بلدة عرسال.

تقع عرسال، أو "عرش الإله" باللغة الآرامية على ارتفاع وسطي قدره 1500 متر عن سطح البحر، وتتوسط مجموعة تلال وجبال تحيط بها ويتجاوز ارتفاع بعضها 2500 متر. هي توأم الجغرافيا لمدينة يبرود السورية التي لجأ أهلها إلى عرسال، بعد أن كانت لقاءات أبناء المنطقتين تقتصر على المناسبات الاجتماعية والعلاقات التجارية الشرعية وغير الشرعية التي سهلتها الحدود المفتوحة بين المنطقتين.

ونتيجة موقعها الجغرافي البعيد والإهمال الرسمي المزمن لها، عاشت عرسال قطيعة رسمية دائمة، خرقها أهل البلدة دوماً من خلال انخراطهم في كافة الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى التي شهدها لبنان من ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون ومواجهة الاجتياحين الاسرائيليين للبنان عامي 1978 و1982، وصولاً إلى الأحداث السورية الأخيرة.

تبنّت البلدة ما كان يعرف بـ"الخط الوطني" الذي مثله اليسار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وتصدرت مواجهة المشروع الأميركي وعلى رأسه الرئيس كميل شمعون الذي انضوى في "حلف بغداد". لم يُقلل موقع عرسال الجغرافي البعيد عن بيروت (نحو 130 كيلومتراً)، من أهمية دور أبنائها في مواجهة الحكم الشمعوني، فتم إرسال قوات عسكرية إلى البلدة التي تعرضت لقصف جوي ومدفعي لإخماد نفسها الثوري. انتهى حكم شمعون وسقط "حلف بغداد" وظل أهل عرسال على موقفهم. ولم تغيره حملة "المكتب الثاني" (اسم جهاز استخبارات الجيش في حينه، زمن الرئيس فؤاد شهاب) على البلدة خلال الانتخابات البلدية عام 1964 عندما أشعل المكتب فتنة داخلية بين العائلات ــ العشائر التي تراجعت سطوتها مع انتشار المبادئ اليسارية بين أبناء البلدة طوال سنوات طويلة، فتحولت العائلات من عُرف القبيلة إلى مبادئ اليسار.

ولم يشفع للبلدة بعدها بأعوام مناهضتها للمشروع الأميركي، فشنّ النظام السوري حملة مدرعة للسيطرة على البلدة بذريعة حماية الحدود بعد اندلاع الحرب الأهلية في بيروت (1975-1990) والتي بقيت أجزاء واسعة جداً من محافظة البقاع خارج دائرة أحداثها الطائفية. ولم تسفر هذه الحملة عن تدمير بعض منازل البلدة وإخضاعها لحكم سوري مؤقت فحسب، بل تحول أبناء عرسال إلى هدف للتوقيف والتعذيب على مُختلف حواجز الجيش السوري التي انتشرت في لبنان تحت عنوان "قوات الردع العربية". ولم يمنع خطر التوقيف، شباب عرسال من التوجه إلى مختلف الجبهات لمواجهة الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان عام 1978، وخاض الشبان معارك عدة في البقاع الغربي ضد الجيش الإسرائيلي ضمن صفوف "الحزب الشيوعي اللبناني". ولا تزال ذاكرة الأهالي حبلى بأسماء عشرات الشهداء الذين قدمتهم عائلات البلدة عامي 1978 و1982، وهو تاريخ الاجتياح الإسرائيلي الثاني.

"تطييف البلدة"

تعرّضت البلدة بعد الحرب ومعها كل منطقة البقاع الشمالي لحملة تنميط حولتها لدى الرأي العام إلى مأوى للخارجين عن القانون. واختصرت البلدات الحدودية بجرودها التي وُصفت بأنها مأوى للطفار (المطلوبين للسلطات). استمر هذا التنميط إلى أن اقتضت المرحلة السياسية التي تلت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري شد العصب الطائفي. استُحضرت البلدة في الحسابات السياسية دون التنموية وباتت مضرب مثل طائفي. وانتقل مع هذا الواقع، عدد من نشطاء العمل اليساري في البلدة إلى أحضان الأحزاب وتحديداً "تيار المستقبل"، وذلك بسبب تراجع الحركات اليسارية بشكل أساسي، وتبعاً للحسابات الشخصية لبعض هؤلاء.

دفعت البلدة كاملة ثمناً اجتماعياً باهظاً تمثّل في ارتفاع حدة الخلافات مع محيطها الجغرافي، وتعرضت مواكب الحافلات التي أقلت أهل عرسال إلى مهرجانات الرابع عشر من آذار للرمي بالحجارة والتكسير من قبل مناصري "حزب الله" و"حركة امل" في البقاع الشمالي. ولم تشهد البلدة أي حركة إنماء جدية، وبقيت طرقاتها في حالة يرثى لها، ومنازلها دون شبكة صرف صحي. كما ظلت مصادر الدخل الاقتصادي بسيطة وبدائية تتمثل في زراعة الكرز العرسالي المشهور بجودته وفي قص الأحجار والصخور من جرود البلدة وبيعها لتزيّن القصور في لبنان والخارج. وفي عام 2006 قاوم المهربون العراسلة العدوان الإسرائيلي على لبنان على طريقتهم، فزودوا بمادة المازوت المهربة من سورية مستشفيات محافظة البقاع التي عزلها القصف الإسرائيلي عن بيروت. وعوض المهربون نقص المواد الغذائية بالمواد المهربة من سورية. لم يكن كل ذلك مهماً في إزالة الصبغة الطائفية عن البلدة. وهي نفس الصبغة التي شكلت مع الموقع الجغرافي عاملاً في لجوء العائلات السورية القلمونية إلى البلدة.

تضخم عدد المقيمين في البلدة بشكل سريع بعد عام 2011. وتفشت مشاكل اللجوء الناتجة أساساً عن تخلي الدولة اللبنانية عن أطرافها البعيدة. تُركت الحدود مفتوحة وبقيت المخيمات من دون تنظيم. وتحول المجلس البلدي لعرسال إلى مجلس إدارة أزمة وطنية. حوّل اللجوء البلدة إلى محط أنظار الرأي العام، مع حرص الأحزاب السياسية المتحالفة مع النظام السوري على تجاوز أسباب أزمة اللجوء وتحميل أهل عرسال وزر الأزمة السورية وأثرها على لبنان. ومن أسباب الأزمة تهجير النظام السوري، بضغط العنف والقتل، مئات آلاف السكان من منطقة القلمون، ومشاركة "حزب الله" في المعارك هناك، وتخلي الدولة عن مسؤولياتها.
وبعد حملة التطييف في عرسال بدأت حملة تحويلها إلى ما يشبه "قندهار" لبنانية، في تجاوز مقصود للواقع الجغرافي الذي تبتعد فيه عرسال عن جرودها لمسافة تزيد عن 20 كيلومتراً. شكلت تلك الجرود مأوى لـ"داعش" و"النصرة" التي قاتلت الجيش السوري الحر وساهمت في خنقه، ودفعها تقدم النظام السوري و"حزب الله" في القلمون للإقامة في الجرود. لم يبال التنظيمان بإقامة عشرات آلاف اللاجئين في عرسال، وحاولوا تحويلها إلى قاعدة عمل خلفي لهم من دون أن يلقوا تجاوباً شعبياً من الأهالي، فاستنسخوا الأعمال الأمنية للنظام السوري، وأعدوا كشوفات أسماء بـ"العملاء" وخطفوا بعضهم وقتلوهم.

ومع ذلك، بقي خيار أهالي عرسال ينادي بالدولة ويدعو لحماية الأهالي اجتماعياً واقتصادياً بعد أن حرمتهم التطورات الميدانية من مصدر رزقهم في جرود البلدة. استوى الكرز على أغصان الشجر ولم يقطفه العراسلة، وحلت أصوات القصف المدفعي محل أصوات تفجير الصخور لبيعها في ورش الحجر الجردية. وإمعاناً في تطييف البلدة باتت سيطرة عناصر "حزب الله" على جرود البلدة تحمل عنوان "تذوق المقاومين للكرز العرسالي". وهي تجربة مشابهة لقطع بعض أهالي البقاع الشمالي لحقول المشمش في بلدة القصير السورية التي احتلها مقاتلو "حزب الله" عام 2013. بيعت أشجار المشمش في القصير حطباً، وأُطلق الرصاص على مزارع وابنه حاولا قطاف موسم الكرز في أرضهم في عرسال العام الماضي. كما قُتل أحد المفاوضين الرئيسيين في البلدة - نائب رئيس البلدية السابق أحمد الفليطي - قبل أيام بصاروخ موجه في جرود البلدة. يُرجح كثيرون أن أمير "فتح الشام" المعروف بـ"أبو مالك التلي" (نسبة إلى مسقط رأسه بلدة التل في ريف دمشق)، غدر به، رغم عدم تجاهل تزامن إعلان "حزب الله" عن استهداف سيارة في نفس موقع إصابة الفليطي وفي نفس التوقيت. شيع الآلاف الفليطي ولم تُطلق رصاصة واحدة في الهواء، وهو أمر نادر الحدوث في منطقة البقاع الشمالي التي تشهد يومياً إطلاق نار خلال تشييع مقاتلي "حزب الله" العائدين من سورية أو خلال الأعراس والمناسبات "ابتهاجاً". 

دلالات

المساهمون