محتجو الريف المغربي... من هم وماذا يريدون؟

محتجو الريف المغربي... من هم وماذا يريدون؟

07 يونيو 2017
مواجهات بين المحتجّين وقوى الأمن بالحسيمة يوم الجمعة(جلال مرشدي/الأناضول)
+ الخط -
عندما طحنت آلة فرم النفايات في شاحنة قمامة ذات مساء في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بمدينة الحسيمة الواقعة في أقصى الريف المغربي، بائع السمك الشاب، محسن فكري، وأردته قتيلاً على الفور، لم يكن أحد يدري أن موجات الاحتجاجات ستستمر بوتيرة مختلفة منذ ذلك الحين إلى اليوم، ولتشكل حراكاً اجتماعياً لم يخمد بعد.

كانت البداية حين اجتمع عدد من شباب الحسيمة في إحدى ساحات المدينة في وقت متأخر من الليل، محتجين على الطريقة التي قتل فيها بائع السمك الذي صادرت السلطات بضاعته. فجاء عامل (محافظ) إقليم الحسيمة السابق، محمد الزهر، (الذي تم توقيفه عن مهامه في المنطقة وأحيل للعمل في المصالح المركزية لوزارة الداخلية في الرباط في مارس/ آذار الماضي)، برفقة الوكيل العام للملك في محكمة الاستئناف (مسؤول قضائي) لمحاولة تهدئة احتقان نفوس الغاضبين. من وسط الشباب الغاضبين في تلك الليلة على مقتل فكري في شاحنة القمامة، لا سيما بعد شيوع أنباء عن أوامر مسؤول أمني بطحنه وهو ما تبين لاحقاً أنه مخالف للحقيقة، نهض ناشط مغمور حينها، يدعى ناصر الزفزافي، ليتحدث مباشرة وبصوت عالٍ إلى المحافظ والمسؤول القضائي، فنال إعجاب الحاضرين الذين صفقوا لجرأته.

مطلب هؤلاء الشباب في مدينة الحسيمة ونواحيها، انحصر في البداية، وطيلة الأسابيع الأولى، بعد الحادثة المؤلمة لطحن بائع السمك، في معاقبة المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن تلك الفاجعة. وجاء التحول في مطالب ناشطي الحسيمة في الريف بعدما اتجه القضاء إلى معاقبة "مسؤولين صغار" في قضية فكري، ما دفع الغاضبين إلى تشكيل "لجنة الحراك" لتتوسع المطالب وتتحوّل من مطلب معاقبة المتسببين في مقتل فكري إلى مطالب اجتماعية واقتصادية وأمنية أكبر بكثير من قضية فكري.

وطالب المحتجون بإقرار مشاريع تنموية في الحسيمة لوضع حد للتهميش الذي تعاني منه المدينة الريفية، وتأمين وظائف للشباب العاطلين عن العمل، وأيضاً تشييد مستشفى تخصصي تفتقده الحسيمة، فضلاً عن مطلب رفع مظاهر العسكرة عن الريف.

متزعمو الاحتجاجات
هذه المطالب وحدت أطيافاً كثيرة ومختلفة من ناشطي الحسيمة والمدن المجاورة لها. وكان الزفزافي الناشط الأبرز الذي ينطق باسم الحراك في الحسيمة، إلى جانب أسماء أخرى منها الناشطون ياسمينة الفارسي، والمرتضى أعمارشا، ومحمد جلول ونوال بن عيسى وآخرون. وحمل هؤلاء الناشطون بدرجات مختلفة على كاهلهم مواصلة الاحتجاجات في الحسيمة، حتى لا تنطفئ جذوة الحراك. بيْد أن الخلافات حصلت وسط متزعمي الحراك الريفي، حتى إن بعضهم أعلن انسحابه من لجنة تنظيم الحراك.

وانسحبت الناشطة ياسمينة الفارسي من "لجنة الحراك" لخلافها في المواقف والرؤى مع الزفزافي، إذ اتهمته بطريقة ضمنية بأنه حوّل الحراك إلى موضوع شخصي، وهو الأمر نفسه الذي قام به أعمارشا الذي انتقد اتخاذ قرارات تهم المنطقة من دون تشاور مع باقي النشطاء. واستمر شباب آخرون حول الزفزافي، لا سيما محمد جلول ونوال بنعيسى. لكن القائد الأبرز الذي حظي باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام المحلية وحتى الدولية، هو الزفزافي، العاطل عن العمل، والمنحدر من حي عمالي بالحسيمة. واستأثر الزفزافي بالأضواء المسلطة على أحداث الريف، بسبب خطاباته الحادة تجاه الحكومة التي يصفها بـ"العصابة السياسية"، والأحزاب التي ينعتها بـ"الدكاكين السياسية"، والدولة التي يتهمها بتهميش الريف وإذلاله، لكونه أنجب الزعيم التاريخي الراحل، محمد عبد الكريم الخطابي، والذي سعى إلى إحداث جمهورية الريف في الفترة التي تلت استقلال المملكة.
وتحول الزفزافي في وقت قصير من ناشط مغمور، شارك في إحياء تظاهرات حركة 20 فبراير/ شباط 2011، ومن حارس ملهى ليلي وبائع هواتف، إلى قائد لاحتجاجات الحسيمة. وبات سكان الريف ينتظرون قرارات الزفزافي في تحديد مواعيد المسيرات والوقفات الاحتجاجية.


تحوّلات في الحراك
ويُحسب للمحتجين في الريف أنه طيلة سبعة أشهر منذ مقتل محسن فكري، لم يحدث شغب أو حوادث دامية بين المتظاهرين وقوات الأمن، إلا في حالة واحدة فقط، لكن دونها سجّل كثيرون سلمية الاحتجاجات ورقيّ التظاهرات بالريف. لكن التحول الكبير الذي حدث في حراك محتجي الريف تمثل في اللغة الحادة للزفزافي التي بات يُخاطب بها الدولة، بل أقحم حتى أعلى سلطة في البلاد، الملك محمد السادس، في مطالب "حراك الريف"، ودعاه مباشرة إلى زيارة المنطقة لمشاهدة التهميش الذي يعيشه فيه أبناء الريف.

التحوّل في خطاب بعض ناشطي "حراك الحسيمة"، علاوةً على رفع أعلام الريف في مختلف التظاهرات الاحتجاجية، من دون رفع الأعلام الوطنية، زيادةً على شعارات معينة من قبيل "عاش الشعب"، ووصف الأمن بالأجهزة القمعية، كلها عوامل دفعت الدولة إلى اتخاذ قرار بمواجهة الحراك، والقطع مع سياسة "التفرج عن بعد"، والتي كانت تنتهجها. ويبدو أن السلطات المغربية تخشى من أن تتحول تلك الشعارات المرفوعة، وحدّة خطابات بعض النشطاء، وكذلك تنظيم احتجاجات بوتيرة كبيرة في الحسيمة، وتوسعها إلى مناطق مجاورة في الريف، إلى كرة ثلج تكبر مع الوقت، وحينها يصعب الحد من تداعيات هذا المد الاحتجاجي.

اتهامات التخوين والانفصال
وطيلة الأسابيع والأشهر التي مرّت منذ بداية الاحتجاجات في الحسيمة، لم تُسمع اتهامات بتخوين ناشطي وقادة الحراك، إلا بعدما تغيّر مجرى الاحتجاجات وبعدما أصبحت أكثر قوة وكثافة. وأضحت تستقطب إليها العديد من سكان الريف. وكانت أحزاب الأغلبية الحكومية أول من رمت بعض كوادر احتجاجات الحسيمة بتهم التخوين والانفصال، من دون أن تحدد طبيعة التمويل الخارجي الذي تحدثت عنه في بلاغ رسمي قبل أيام مضت، ولا الأشخاص الذين ينفذون هذه الأجندة.

تهمة التخوين وزرع الفتنة سرعان ما أثارت مواقف متوزعة بين رافضين لهذه الاتهامات التي اتهمت نشطاء الريف بالخيانة والتواطؤ مع جهات أجنبية ضد وحدة واستقرار المملكة، وبين من دافعوا عن هذه التهم وعمدوا إلى شيطنة حراك الريف. وتنقسم دوافع شيطنة حراك الريف إلى قسمين، وهي تعبر عن اتجاهين مختلفين. الأول يقوم بذلك خشية حدوث انفلات أمني خطير، وتكرار سيناريو بلدان عربية مجاورة، مثل مصر وسورية، ويستدلون برفض المحتجين رفع أعلام الوطن، والتمسك بأعلام الريف والأعلام الأمازيغية، والثاني متمثلاً في السلطات التي تريد وضع حد للاحتجاجات التي بدأت تتعاظم في الريف.

الحكومة التي ألقت تلك التهم ضد متزعمي الحراك في الريف بعد الاطلاع على تقرير وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، سرعان ما عادت لتليّن موقفها وتخفّف من اتهاماتها، وتحاول مسك العصا من الوسط، عبر إطلاق وعود للسكان بالتنمية، والتحذير من الانزلاقات وإشعال نار الفتنة بالمنطقة. ولم يفلح تحرك وفد حكومي رفيع المستوى إلى منطقة الحسيمة، ولقائه عدداً من شباب المدينة ومنتخبيها وبرلمانييها، في أن يوقف الاحتقان الاجتماعي المتصاعد في "جوهرة الريف"، بل زادت الأمور تعقيداً.

دور الجزائر؟
وأصر متزعمو الاحتجاجات في الحسيمة بالخصوص، على عدم محاورة الحكومة لكونها لا تملك قرارها، وفق تعبير الزفزافي وعدد من مناصريه، فيما أبدى ناشطون آخرون قبولهم بالتريث إلى حين تنفيذ وعود الحكومة لتنمية المنطقة، وتشييد عدد من المشاريع. هذا التعنت الذي جوبهت به مبادرة الحكومة، وتمدد "الحراك" إلى مناطق أخرى مثل الناظور وإمزورن وبني حذيفة بمنطقة الريف، وأيضاً في مدن أخرى أبدى خلالها ناشطون رفضهم تهم التخوين للمحتجين بالريف، دفع بالدولة إلى اتخاذ قرارها الحاسم، وهو تشديد المقاربة الأمنية في حق متزعمي الحراك.

وحتى يكون لتدخلها المباشر شرعية، اغتنمت السلطات انتفاضة وسلوك الزفزافي يوم الجمعة 26 مايو/ أيار الماضي، داخل مسجد "ديور الملك" في الحي الذي يقطنه، ضد خطيب جمعة وصف متزعمي الحراك بالمفتنين، لتلقي بثقلها ضد هذا الناشط الريفي ورفاقه. وسرعان ما تم اعتقال الزفزافي وناشطين آخرين ممن يقودون أو يشاركون بكثافة في احتجاجات الحسيمة والنواحي، بتهم تبدو ثقيلة، منها "المسّ بالسلامة الداخلية للدولة، واستلام تحويلات مالية ودعم لوجستي من الخارج بغرض القيام بأنشطة دعائية من شأنها المساس بوحدة المملكة وزعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية ولمؤسسات الشعب المغربي، فضلاً عن إهانة ومعاداة رموز المملكة". تهمة تلقي أموال ودعم من الخارج لضرب وحدة البلاد، والتي جاءت في بلاغ رسمي للنيابة العامة، جاءت لتتوافق ضمنياً مع ما ذهبت إليه قبل ذلك أحزاب الأغلبية الحكومية، فيما لا تزال التحقيقات القضائية جارية لإثبات أو نفي هذه الشبهات.

وروج المناهضون للحراك في الريف أخباراً عن تلقي الزفزافي ورفاقه أموالاً من الخارج، خصوصاً من هولندا حيث يوجد معارضون للدولة، فضلاً عن لقاء جمع بين الزفزافي ومسؤول في الاستخبارات الجزائرية، في الوقت الذي تم فيه ضبط صحافي جزائري وسط تظاهرة في مدينة الناظور الريفية، قبل أن ترحله السلطات المغربية إلى بلاده. هذه الأخبار الرائجة عن تلقي الدعم المالي من الخارج سبق أن نفاها الزفزافي قبل أن يعتقل يوم الإثنين 29 مايو/ أيار الماضي، كما فنّدتها والدة الناشط نفسه عندما سمحت للكاميرات بمعاينة مسكنها الذي يؤوي ابنها العاطل، ومظاهر الفقر الذي تعيشها العائلة.

اتجاهات الحراك وحلول الأزمة
ويشبه الوضع الراهن والقائم منذ أسابيع قليلة في الحسيمة وباقي مناطق الريف احتجاجات حركة 20 فبراير/ شباط التي خرجت سنة 2011 للمطالبة بمحاربة الفساد والاستبداد في البلاد، قبل أن ينقذ الملك الموقف ويلقي خطابه الشهير في 9 مارس/ آذار 2011، والذي تضمّن وعوداً بإصلاحات سياسية ودستورية، منها دستور جديد أسفر عن انتخابات مبكرة فاز بها حزب "العدالة والتنمية" ذو المرجعية الإسلامية.

وترى أوساط مغربية أن حل هذه الأزمة بالريف هو بيد الدولة أساساً، من خلال تنقية الأجواء المتوترة، وعدم الجنوح إلى صب الزيت على النار من خلال الاعتقالات المتوالية، لا سيما إذا بادر العاهل المغربي إلى اتخاذ قرارات أو مبادرات يمكنها أن تحد النزيف في خاصرة الريف. ويمكن للنزيف أن يتقلص أيضاً بإقرار مشاريع تنموية مهمة كان قد أعلن عن إطلاقها الملك سنة 2015، وهو الذي سمي حينها "مشروع الحسيمة منارة المتوسط". لكن يبدو أن مشاريع عدة لم يتم تنفيذها على أرض الواقع، ما أجج الوضع النفسي والاجتماعي لدى أهالي الريف.

وإذا كانت العوامل التاريخية لا تؤدي دوراً في صالح علاقة وديّة بين الدولة ومنطقة الريف، بالنظر إلى علاقات متوترة بين الجانبين أبرزها انتفاضة الريف سنة 1958 وانتفاضة 1984، ثم سنة 2004، وأخيراً خلال عامي 2016 و2017، فإن كثيرين يطالبون الدولة بضرورة إرساء علاقات جديدة تمنح الثقة في نفوس الريفيين، لتزيل عنهم التوجس الحاضر دائماً في تعاملات الطرفين.

المساهمون