أميركا ــ ترامب: شعبان في بلد واحد

أميركا ــ ترامب: شعبان في بلد واحد

02 نوفمبر 2019
ديمقراطيان من نيويورك يطالبان بعزل ترامب (توم ويليامز/Getty)
+ الخط -
بين مسارٍ دستوري تسلكه الولايات المتحدة للمرة الثالثة في تاريخها الحديث، في محاولة لعزل رئيسٍ أميركي مثير للجدل، ورئيسٍ جعل السياسة الأميركية برمتها تدور في فلكه، يتحوّل المشهد العام في الدولة العظمى إلى شبه مسرحية هزلية، رغم ما يؤكده المتابعون عن معركة "دولة عميقة للإطاحة بالرئيس". كان يكفي أمس، أن يخرج خبر نقل دونالد ترامب مقر إقامته الشخصي من نيويورك إلى فلوريدا، ليشعل وسائل التواصل الاجتماعي. شنّ الرئيس حرباً على المدينة التي يتحدر منها، منتقداً سياسييها الذين "حاربوه". وبعد ما بدا لوهلة حرباً ديمقراطية-جمهورية، لما بات يُعرف بتحوّل نيويورك إلى عقر للديمقراطيين التقدميين الذين يصفهم ترامب بـ"الشيوعيين"، انكشف سبب الانتقال، وهو محاولة رجل الأعمال-الرئيس التخلص من ضرائب الدخل الهائلة التي تفرضها مدينته الأصلية. هكذا، وفيما يتحوّل التحقيق في مجلس النواب لعزل ترامب، إلى معركة حقيقية، تُوسِّع الشرخ بين الحزبين الرئيسيين في البلاد، الديمقراطي والجمهوري، من جهة، والانقسام بين قاعدتيهما، من جهة أخرى، قد لن يخرج مستفيداً من هذه المعركة، في النهاية، سوى ترامب نفسه.

أول من أمس الخميس، عاد التحذير من "الحرب الأهلية" مجدداً، ليقتحم المشهد السياسي الداخلي المتوتر في الولايات المتحدة، بعدما صوّت مجلس النواب لصالح مشروع قانون مُنظّم لمسار التحقيق في فضيحة أوكرانيا الذي أطلقه الديمقراطيون، والذي يهدف في نهايته إلى عزل الرئيس الأميركي. هذا التحذير، الذي جاء على خلفية الانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين حول التحقيق، والذي عكسه التصويت الذي لم يحظ بدعم أي جمهوري في المجلس الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، لا يزال يبدو في غير محلّه وسط اتّباع كلا الطرفين المسلك الدستوري في الحرب المشتعلة بينهما منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض. لكن خطره الفعلي هو على الأميركيين أنفسهم، الذين تشير استطلاعات الرأي إلى تعادلهم بين مؤيدٍ ومعارض لعملية العزل، مع حفاظ الرئيس على شعبيته.

ولا تزال محاولة عزل ترامب بمثابة سيف ذي حدين بالنسبة للديمقراطيين، على الرغم من تصويت الخميس الذي سيجعل من التحقيق مكشوفاً للرأي العام بكل تفاصيله، ويسمح في المقابل للرئيس، الذي يُلاحَق بتهمة استغلال السياسة لأغراض شخصية، ما يعني انتهاكه للدستور الأميركي، بالدفاع عن نفسه. فمن ناحية تطبيقية، يحدد مشروع القانون الذي تمّ تبنيه، الحقوق والآلية التي سيسير بها التحقيق، بما فيها كشف الأدلة أمام الرأي العام، وكيف سيدير ترامب ومحاموه آلية الدفاع. وفيما يبرر الديمقراطيون في المجلس بأن هذه الآلية تأتي رداً على الانتقادات الجمهورية للتحقيق، والتي تصفه بـ"السرّي وغير الشرعي"، يعتقد معظم المراقبين أن الحقيقة تكمن في مكان آخر، وهي أن الحزب الديمقراطي، الذي يعيش هلع بقاء ترامب في البيت الأبيض أربعة أعوام إضافية، راكم ما يكفي من الأدلة والبراهين، التي يعتبر أنها تدين الرئيس في فضيحة أوكرانيا، ومحاولته الضغط على كييف عبر لجم المساعدات العسكرية، للتحقيق بقضية فساد متورط فيها هانتر بايدن، ابن منافسه في رئاسيات 2020، جو بايدن. وتأتي هذه الأدلة من استماع مجلس النواب حتى الآن إلى 12 شاهداً، هم دبلوماسيون ومستشارون للبيت الأبيض، كان آخرهم الخميس، تيموتي موريسون، وهو خبير في الشأن الروسي في مجلس الأمن القومي الأميركي، قدّم إفادته في مبنى الكابيتول، مؤكداً أن السفير الأميركي لدى الاتحاد الأوروبي، غوردون سوندلاند، أخبر مسؤولاً أوكرانياً رفيعاً أن المساعدات الأمنية لبلاده سوف يجري تعليقها حتى تلتزم كييف بتحقيقات الفساد التي طلبها ترامب، مشيراً إلى عملية مقايضة سياسية يقودها الرئيس الأميركي لتحقيق أهداف انتخابية.

وتفيد جميع المعلومات التي تسربت من هذه الجلسات، بأن السفراء والمسؤولين الكبار الذين جرى الاستماع إليهم، أدلوا بإفادات مقلقة، بعضها يدين البيت الأبيض، كاشفين الجهود التي بذلها لأشهر عدة، مقربون من ترامب، بمن فيهم محاميه الشخصي رودي جولياني، على هامش القنوات الدبلوماسية الرسمية، لدفع كييف إلى تقديم معلومات محرجة بشأن بايدن. يذكر أن موريسون استقال عشية الجلسة، وكان يعمل مع مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، الذي دعي للإدلاء بشهادته في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، ولكنّه قد يرفض الحضور. وبرزت إلى العلن أخيراً انتقادات بولتون لما قد يوصف بـ"سياسة الظل" للبيت الأبيض، والتي يديرها خصوصاً محامو ترامب، وتهدد الأمن القومي الأميركي.

وكانت رئيسة مجلس النواب الأميركي، الديمقراطية نانسي بيلوسي، قد عارضت بدايةً إطلاق إجراءات عزل ترامب، خشية انعكاسها على الانتخابات الرئاسية. لكن، ومع تبدل المعطيات، ووفرة الأدلة، يأمل الديمقراطيون اليوم باستغلالها، أولاً للتأثير على الرأي العام، خصوصاً المترددين منهم، أو من يعرفون بـ"المستقلين"، وثانياً الضغط على الجمهوريين من خلال وضع التحقيق تحت مجهر الشعب الأميركي، وجعله علنياً، وتبديل رأيهم الملتفّ اليوم حول دعم الرئيس.

وأظهر استطلاع لصحيفة "واشنطن بوست" وشبكة "أي بي سي" أمس، أن 49 في المائة من المستقلين يرفضون عزل ترامب، فيما يؤيد ذلك 47 في المائة منهم. ويراهن الديمقراطيون على أن تأييد العزل ارتفعت نسبته بشكل واضح منذ أشهر، إذ كان يبلغ 39 في المائة في استطلاع سابق لـ"إيه بي سي" في يوليو/تموز الماضي، بينما وصل اليوم إلى 49 في المائة.

وفي انتظار التطورات، رأت صحيفة "نيويورك تايمز" أمس، أن تصويت الخميس، يزيل أيّ شك في أن الديمقراطيين سيبنون قضية مُحكمة ضد ترامب، بخلاف ما خلص إليه تحقيق روبرت مولر في التدخّل الروسي في انتخابات 2016، وسيخلصون إلى طلب عزله، لكن ما هو غير مضمون بعد مدى إسراعهم في تحويل اتهاماتهم إلى إدانة رسمية، ومدى قدرتهم، من خلال جلسات الاستماع العلنية والأدلة الجديدة المنتظرة، على استمالة عدد مطلوب من الجمهوريين، إذا ما خلصوا إلى طلب العزل. ولا يعطي الدستور الأميركي سوى الخطوط العريضة لعزل الرئيس، مكتفياً بتكليف مجلس النواب بتوجيه الاتهام إليه، ومنح مجلس الشيوخ، الذي يسيطر عليه الجمهوريون حالياً، صلاحية محاكمته.

في المقابل، فإن ما هو أكيد حتى الآن هو أنه في حال خلص التحقيق الذي ستتسلمه كذلك الاستخبارات الأميركية في مرحلة لاحقة، إلى طلب عزل ترامب، فإن الرئيس ستجري تبرئته في مجلس الشيوخ الذي يهيمن عليه الحزب الجمهوري. وأظهر التصويت على آلية التحقيق أول من أمس حجم الاصطفاف الجمهوري وراء ترامب، إذ لم يبق نائب جمهوري واحد إلا ودان التحقيق الديمقراطي، واصفاً إياه بغير العادل، ومتهماً الحزب الديمقراطي بالانقلاب على رئيس منتخب، والتأثير على الرئاسيات المقبلة.

ويواصل الحزب الجمهوري، الذي أصدر أول من أمس ما يمكن اعتباره "أمر اليوم" لنوابه، بعدم التصويت لصالح مشروع القانون في مجلس النواب، التزامه بالسير وفق غريزة قاعدته التي لا تزال متحلّقة بقوة حول ترامب. ويجادل الجمهوريون، بأن خصومهم يحاولون إسقاط نتائج انتخابات شرعية، والتأثير على نتائج الانتخابات المقبلة.

في المحصلة، قد تقود الاصطفافات الحزبية، التي تتقيد برغبات القاعدة، إلى تقليص الثقة الشعبية بإجراءات العزل، ما يسهل على الناخبين إهمال التحقيق برمته، باعتباره حرباً بين الحزبين من بين حروبهما الطويلة على مدى التاريخ. ووسط هذا الفصل الجديد من الحروب، الذي لن يصل بكل الأحوال إلى خواتيمه السعيدة بالنسبة للحزب الديمقراطي، كتب ترامب أمس مؤكداً نقل مقر إقامته الشخصي إلى فلوريدا: "اعتدت أيضاً أن أحب البيت الأبيض...الذي سأبقى فيه على الأرجح خمس سنوات إضافية". هذه الفرضية، قد تكون الحقيقة الوحيدة في ظل الضجة الأميركية القائمة.

 

المساهمون