قلق تونسي من "عودة الإرهابيين": سجالات سياسية وأمنية ودستورية

قلق تونسي من "عودة الإرهابيين": سجالات سياسية وأمنية ودستورية

29 ديسمبر 2016
تخوّف من تفاعل بين العائدين والخلايا الموجودة(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
تحوّلت قضية عودة الإرهابيين المحتملة من بؤر التوتر، إلى كابوس حقيقي يؤرق التونسيين، أحزاباً ومواطنين وأمنيين، وسط تحذيرات من تبعات هذه العودة. ويُعقد اليوم الخميس، اجتماع وزاري، بعد سلسلة اجتماعات مع الخبراء، للنظر في تفاصيل هذا الموضوع الذي أصبح الشغل الشاغل للتونسيين. ولم يكن منطلق هذه الأزمة التونسية الجديدة تصريحاً رسمياً أو معطيات دقيقة قدّمتها الحكومة، وإنما انطلقت أولاً بكلام للرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، خلال زيارته إلى بروكسل، إذ قال في حوار تلفزيوني، إن الدستور لا يسمح بمنع أي تونسي من العودة إلى بلاده. ثم استدرك بعد فترة ليؤكد خلال اجتماع المجلس الأعلى للجيوش أنه لا مجال للتسامح مع هؤلاء وأنه سيتم التعامل معهم وفق قانون الاٍرهاب.
ثم خرج زعيم حركة "النهضة"، راشد الغنوشي، ليثير الموضوع في تصريحات مختلفة، ويعلن أيضاً أن الدستور لا يمنع التونسيين من العودة إلى بلادهم، قبل أن يؤكد هو أيضاً أن قانون الاٍرهاب هو الفيصل. ولكنه أثار جدلاً كبيراً بعد الاستشهاد بمثل تونسي شعبي مفاده أن "الابن الضال مصيره العودة إلى عائلته". ودخل الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي، على الخط، داعياً لـ"استرجاع أبنائنا المغرّر بهم لإدماجهم في المجتمع، لكن بعد التأكد من كونهم لا يمثلون أي خطر". وأضاف في تصريح مكتوب أنه على هذا الأساس "لا ترفض تونس أياً من أبنائها ويمكنهم العودة، لكن شرط القبول بمدة مراقبة في مراكز مختصة تُستحدث بقانون"، لافتاً إلى أنه "لا مجال لحرمان تونسي من جنسيته أو منعه من العودة لبلاده".

ويقف السبسي والغنوشي في مواجهة البقية، بمن فيهم "نداء تونس"، في طرح إمكانية عودة هؤلاء، ولكنّ التقاءهما أيضاً على الموقف نفسه وبالمصطلحات نفسها تقريباً، يشير إلى وجود إمكانية حقيقية لهذه العودة المحتملة، وقد يكشف عن وجود "أفكار دولية" بهذا الخصوص، وعن اتفاقات دولية بخصوص ما يُطلق عليه بؤر التوتر، واقتراب الحسم في بعض المناطق وضرورة تهيئة المناخ لعودة المقاتلين من جنسيات مختلفة إلى بلدانهم.
وفي الداخل التونسي، خرجت منظمات المجتمع المدني، يوم السبت الماضي، لتعبّر بوضوح عن رفضها لهذه العودة، وانضمت إليها أحزاب سياسية بمواقف مختلفة تؤكد جميعها على التبعات الخطيرة التي تتهدد البلاد على أكثر من صعيد، وخصوصاً التجربة الديمقراطية بإدخال تونس في أتون العنف.
وأكد المتحدث الرسمي باسم "الجبهة الشعبية"، حمّة الهمامي، في تصريح إذاعي، أن عودة الإرهابيين قد تحصل لأنه "تمّ التخلي عنهم بعد فشل المهمّة"، وأن "إعادتهم إلى بلدانهم تندرج في إطار خطة إقليمية جديدة"، مشدّداً على أن المقاتلين العائدين "يمثّلون خطراً كبيراً على بلادنا". واعتبر أن "عودة الإرهابيين مسألة رأي عام وعلى غاية من الأهمية ووجب عدم الانسياق وراء ردود الأفعال المتباينة حولها"، لافتاً إلى أن العناصر التي سافرت إلى بؤر التوتر كانت غايتها إحداث حروب أهلية والمساهمة في مخطّطات تهدف إلى تدمير الدول.
هذا الرفض لا يقتصر على المعارضة فقط، وإنما شمل أيضاً الأحزاب المشاركة في الحكومة، إذ أكد حزب "آفاق تونس" في بيان له، أن عودة الإرهابيين من بؤر التوتر هو "ملف أمن قومي بالغ الخطورة ولا مجال فيه للتفاوض أو المقايضة تحت أي ضغط أو غطاء دوليين". وطالب الحزب الدبلوماسية التونسية بالتحرك الفاعل باتجاه محاكمة هؤلاء المقاتلين في البلدان التي ارتُكبت فيها جرائمهم، مشدداً على أهمية مواصلة تفكيك وكشف شبكات التسفير وتتبّع ومحاسبة كل المتورطين في تنظيمها وفق قانون مكافحة الإرهاب لحماية التونسيين منهم في المستقبل خصوصاً فئة الشباب. كذلك رفع عدد من نواب كتلة "نداء تونس"، في جلسة عامة للبرلمان، يوم الثلاثاء، شعارات مكتوبة رافضة لعودة المقاتلين من بؤر التوتر.



وبعيداً عن الجدل السياسي، يثير هذا الموضوع جدلاً دستورياً كبيراً، إذ يؤكد الدستور التونسي في الفصل 25 على أنه لا يمكن للدولة التونسية أن تمنع أي تونسي من العودة إلى بلاده. غير أن معارضي العودة يطرحون في المقابل حلولاً دستورية مختلفة، فقد أشار النائب عن "الجبهة الشعبية"، الجيلاني الهمامي، في تصريح إذاعي، إلى أن "الجبهة تقترح على النواب الرافضين لعودة الإرهابيين إلى تونس، تقديم مبادرة تشريعية لتنقيح الدستور وتضمينه إجراءات لسحب الجنسية التونسية عنهم وتوقيع اتفاقية دولية مع سورية لمحاكمتهم على أراضيها".
كما قال نواب من كتلة "نداء تونس" في البرلمان، إنهم يعكفون على طرح مبادرة تُجرّم عودة المقاتلين من بؤر التوتر، مؤكدين أن "الأحزاب الديمقراطية وكل الكتل الديمقراطية ضد عودة هؤلاء الإرهابيين، لأن مكانهم الطبيعي ليس تونس وهم يُشكّلون خطراً كبيراً على الوطن والمجتمع".
ويستند المعارضون إلى الفصل 49 من الدستور التونسي، الذي يشير إلى أن القانون "يحدد الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها، بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العامة أو الآداب العامة وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها... وتتكفّل الهيئات القضائيّة بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك... ولا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحريّاته المضمونة في هذا الدستور".
ويؤكد معارضو العودة أنه إذا كان الفصل 25 يضمن حرية العودة إلى الوطن والتمتع بالحقوق الدستورية (يحظر سحب الجنسية التونسية من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن)، فإن الفصل 49 يشير إلى إمكانية وضع ضوابط قانونية، لأن عودتهم تمس بمقتضيات الأمن العام والدفاع الوطني.
وعلى الرغم من أهمية الجدل السياسي والدستوري، لكن المقاربة الأمنية تبقى شغل التونسيين وأولويتهم القصوى. وعلى هذا المستوى، أصدرت نقابات أمنية متعددة بيانات رافضة لعودة المقاتلين، آخرها بيان النقابة العامة للحرس الوطني (الدرك) التي طالبت باستحداث خلية أزمة تتكوّن من وزارات الدفاع والداخلية والعدل والخارجية لمعالجة قضية عودة المقاتلين، بالإضافة إلى مراجعة التعيينات في الأمن الخارجي التي كانت حسب الولاءات والمحاباة. وأكدت النقابة ضرورة إدماج إدارة مكافحة الإرهاب وإدارة الاستعلامات للحرس الوطني في إدارة موحّدة، بالإضافة إلى إرجاع الكفاءات الأمنية التي لم تجد حظها من قبل، بحسب نص البيان.
غير أن ما يؤرق التونسيين هو إشارة السبسي إلى أن تونس ليس فيها ما يكفي من السجون لعودة كل هؤلاء، وهي بالفعل مشكلة حقيقية، ولكنها تطرح سؤالاً حول كيفية التعامل مع آلاف الأشخاص، بحسب الأرقام المتداولة، عُرفوا بتشددهم الفكري، وتورطوا في العنف مع تنظيمات إرهابية أبرزها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، ويشكّلون على هذا الأساس خطراً حقيقياً على البلاد، خصوصاً بالنظر إلى الخلايا الموجودة أصلاً في تونس.
وفي مراجعة للأرقام التي قدّمتها وزارة الداخلية التونسية، فقد تم الكشف خلال هذا العام عن 1989 قضية إرهابية (قضايا إرهابية وقضايا شبكات التسفير) خلال الفترة المتراوحة بين 1 يناير/ كانون الثاني و30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، مقابل 1744 قضية إرهابية خلال الفترة من عام 2015، أي بزيادة 245 قضية، بنسبة تفوق 14 في المائة. كما تم خلال هذه الفترة من عام 2016 إحالة 2789 عنصراً إلى العدالة مقابل 3179 عنصراً خلال الفترة نفسها من سنة 2015.
وتؤكد مصادر أمنية لـ"العربي الجديد"، أن قوات الأمن (الشرطة والدرك) قامت خلال هذه الفترة بأكثر من مائة ألف عملية مداهمة وتعقب، وتم الاحتفاظ بأكثر من ألفي عنصر تكفيري، بالإضافة إلى وجود حوالي 800 عنصر عائد من بؤر التوتر، بحسب تأكيد وزير الداخلية الهادي المجدوب نفسه. وتشير هذه الأرقام إلى وجود أرضية ملائمة قد تتيح تفاعلاً بين هؤلاء العائدين والخلايا الموجودة في تونس، ما يبرر تصاعد مخاوف التونسيين.

المساهمون