جدل تعديل الدستور مستمر في الجزائر: مطالبات بآلية جديدة

جدل تعديل الدستور مستمر في الجزائر: مطالبات بآلية جديدة

07 يونيو 2020
الحراك أنتج معطيات تفرض العودة للإرادة الشعبية(رياض قرامدي/فرانس برس)
+ الخط -


يتطور النقاش السياسي في الجزائر حول مسودة التعديلات الدستورية، من المضمون والمواد المثيرة للجدل، إلى نقاش حول ما تعتبره قوى سياسية توقيتاً غير مناسب. لكن النقاش الأهم بات يتوجه أيضاً إلى الآلية التي يتم عبرها تعديل الدستور، إذ تتصاعد المطالبات السياسية والمدنية باعتماد صيغ أخرى، عبر لجنة توافقية أو هيئة تأسيسية، أو انتخاب برلمان جديد بولاية تأسيسية توكل له مهمة انتخاب لجنة لصياغة دستور توافقي.

ولم تقنع مسودة الدستور، التي أعدتها لجنة خبراء وطرحها الرئيس عبد المجيد تبون، جزءاً كبيراً من الفاعلين السياسيين والمدنيين والرأي العام في البلاد، بحسب المواقف المعلنة حتى الآن، بسبب ما اعتُبر تباعداً كبيراً بين المسودة والتطلعات السياسية المعبّر عنها طيلة عام كامل في تظاهرات الحراك الشعبي، والنقاشات التي دارت في تلك الفترة من جهة، وطبيعة الوعود الـ54 التي أعلنها تبون نفسه عشية الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي، من جهة أخرى.

وإذا لم تكن بعض القوى السياسية ترى حرجاً عند إعلان تبون تشكيل لجنة خبراء في القانون الدستوري، تتولى طرح أرضية تكون قاعدة للنقاش حول المضمون الدستوري والصيغة النهائية، فإن مخرجات اللجنة الدستورية، دفعت الكثير من القوى السياسية والمدنية إلى مراجعة موقفها بشأن آلية صياغة الدستور نفسها. "جبهة العدالة والتنمية" (إسلامية)، التي يقودها الشيخ عبد الله جاب الله، وتعتبر من أبرز قوى المعارضة، تجاوزت سريعاً مناقشة مضمون المسودة المطروحة، وطالبت، في بيان أخيراً، تبون "بإعادة النظر في هذا المسار، خصوصاً ما تعلق بمنهجية إعداد المشروع التمهيدي لتعديل الدستور، الذي ينبغي أن يكون محل حوار ومناقشة بعيداً عن سياسة فرض الأمر الواقع والتقاليد البالية". ودعت إلى "استبعاد عودة اللجنة التي أعدت المسودة، والسير نحو التوافق على مسار آخر، بتعيين لجنة أخرى أكثر توافقية وتمثيلية، وتوفير جو حر يسمح للجميع بالولوج إلى كل وسائل الإعلام من دون إقصاء وتمييز".


ويطرح بيان الجبهة فكرة تشكيل لجنة توافقية، على اعتبار أن مجموع التجارب السابقة في صياغة مسودة تعديلات دستورية عبر لجان تقنية مغلقة تشكّلها السلطة، لم ينجح في توفير دستور يستمر لعقود من دون الحاجة إلى تعديله مجدداً. ولا تبتعد هذه الفكرة عن أخرى متقاربة يطرحها حزب "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية"، بأن يسبق صياغة الدستور "عقد ندوة وطنية شاملة، تناقش قضايا النظام السياسي وتنظيم الدولة والعدالة والاقتصاد والتربية والطاقة ودور الجيش، وتحقق التوافق حولها، على أن تظهر لوائحها في مشروع دستور، يأخذ بعين الاعتبار كل مطالب الشعب، التي عبّر عنها في الحراك، تحدّد توجهات الجزائر الجديدة. والكلمة الأخيرة تعود بالطبع للشعب الجزائري السيد، الذي يعطي موافقته على الدستور الجديد عبر استفتاء حُر وشفاف. وهذا هو المعنى الذي نعطيه للمسار التأسيسي".



قد يكون التجمّع الذي يتبنى أفكاراً علمانية، والدفاع عن القضية الأمازيغية، قد طوّر تصوره السياسي لآلية صياغة الدستور من مجلس تأسيسي إلى ندوة وطنية، بعدما ظل لسنوات يدعم فكرة انتخاب مجلس تأسيسي يتولى صياغة دستور جديد للبلاد، لكن "جبهة القوى الاشتراكية"، وهي أقدم حزب معارض في البلاد منذ العام 1963، ما زالت تتمسك بخيار المجلس التأسيسي السيد، الذي يعيد صياغة النص الدستوري، على أساس توافقي وتشاركي بين كل الجزائريين. وتربط الجبهة طرحها بكون السلطة التي حكمت الجزائر منذ الاستقلال لم تُتح أي فرصة للجزائريين للتوافق على صياغة دستور مشترك. ويتبنى حزب "العمال" اليساري الطرح نفسه في مجموع أدبياته السياسية ومواقفه المعلنة.

في بداية الحراك الشعبي وحتى ما قبل ذلك، كان مطلب الذهاب إلى مجلس تأسيسي في الجزائر، محل اعتراض رسمي من قبل السلطة والقوى الحليفة لها. وتم ضخ فكرة لدى الرأي العام أن الذهاب إلى مجلس تأسيسي ينطوي على مخاطر ومخاوف، من فتح الباب لمناقشة قضايا الهوية وموقع الشريعة والإسلام واللغة العربية والفدرالية وغيرها في الدستور. ومثل هذه المخاوف كانت تمثل هواجس سياسية مقلقة بالنسبة للقوى الإسلامية والمحافظة، بيد أن نجاح تجربة المجلس التأسيسي في تونس، وتحقيقها تقدماً لافتاً على صعيد الانتقال الديمقراطي وشفافية الانتخابات وتوازن السلطات وإنهاء التغول السياسي والرئاسي، شجع الكثير من القوى المعترضة سلفاً على مراجعة موقفها من فكرة المجلس التأسيسي.

وفي هذا السياق، أكد أستاذ القانون الدستوري في جامعة العفرون قرب العاصمة الجزائرية، مختار خميلي، لـ"العربي الجديد"، أن مصطلح المجلس التأسيسي لطالما استخدم كفزاعة سياسية، إذ كانت تُطرح مخاوف من أن جمعية تأسيسية منتخبة ستعيد النظر في الأساسات وتطرح إشكالية الهوية. وأضاف "دائما كان يقال لنا إن أي بناء تأسيسي سيعيد نقاش الهوية ويضرب في مقتل المبادئ الأساسية للدولة، بينما انتخاب برلمان، بعهدة تأسيسية يتولى صياغة الدستور بالاستعانة بمستشارين في أغلب المجالات، يعد الخيار الأمثل".

ولفت خميلي إلى أن "الحراك أنتج معطيات مغايرة تفرض العودة للإرادة الشعبية الحقيقية، بعيداً عن الغرف المغلقة التي تكتب المسودات وتعدلها. وبالتالي تبقى الأولوية، في اعتقادي، أن الحل يتم عبر تعديل قانونَي الانتخابات والأحزاب السياسية، بما يسمح بانتخابات تشريعية تأسيسية، يعرض فيها المرشحون، أحزاباً وقوائم حرة، رؤاهم لحلول مشاكلنا التنموية وتصوراتهم لدستور المستقبل، ليفرز في ما بعد البرلمان المنتخب لجنة تمثيلية من بين نوابه، تتوسع إلى خبراء وكفاءات في كل المجالات ذات الصلة بمضامين الدستور. وتمكن كتابة دستور جديد لجزائر جديدة في أجل معقول، سنة مثلاً، يناقشه البرلمان ويصوت عليه مادة مادة، ثم يُعرض للاستفتاء الشعبي".

بعض الحركات السياسية الفتية التي ولدت من رحم حراك فبراير/شباط 2019 لا تطرح فكرة تغيير آلية صياغة الدستور فقط، لكنها تذهب إلى ضرورة تعديل الأولويات أيضاً. "التيار الأصيل"، وهو قوة سياسية فتية انبثقت من الحراك، يطالب في الوقت الحالي "بسحب المسودة، وتسريح اللجنة الدستورية، واعتماد آلية جديدة تسمح أولاً بتغيير كل القوانين العضوية والأطر المنظمة للانتخابات وقانون الأحزاب، وتنظيم انتخابات تشريعية تتيح انتخاب برلمان ممثل للشعب، يتولى الإشراف على النقاش المجتمعي والسياسي لكامل عملية وضع دستور توافقي يعبر عن الأغلبية الشعبية". وتذهب حركة "عزم"، أبرز القوى السياسية الشابة المنبثقة من الحراك، إلى نفس المقاربة، إذ تطالب هي الأخرى بمراجعة طريقة وآلية صياغة مسودة تعديل الدستور، وتعتبر أن "السلطة انتهجت النهج الخطأ، والرفض الشعبي لهذه المسودة نتيجة منطقية لمسار أعرج".

حتى الآن يظل السؤال مطروحاً عن سبب رفض السلطة السماح وتوفير ظروف مغايرة لصياغة مشتركة للدستور، خصوصاً بعد الحراك الشعبي منذ 22 فبراير 2019، والذي يفترض أنه أتاح مناخاً سياسياً مغايراً للأوضاع التي كانت سابقاً. الناشط السياسي وأستاذ القانون أحمد بطاطاش فسر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، ملابسات إصرار السلطة في الجزائر، وعلى مر المحطات التي تم تغيير الدستور فيها، على الاعتماد على اللجان الدستورية المعينة، بدلاً من مجلس أو هيئة تأسيسية. وقال إن "النظام يرفض المجلس التأسيسي لأنه يرفض أن يوقّع شهادة وفاته. يدرك صنّاع القرار في الجزائر أنهم لو تركوا الشعب ينتخب بكل حرية مجلساً تأسيسياً يتولى تحرير دستور، فإنهم بذلك سيفقدون كل سلطتهم، وهامش تحركهم، وبالتالي عليهم ألا يضيعوا مركز قوتهم المتمثل في منصب رئاسة الجمهورية الذي هو محور النظام السياسي الجزائري. وبالتالي أي تعديل للدستور يجب أن يمر عبر رئيس الجمهورية الذي يتحكمون فيه، لذا ففكرة قبول النظام بانتخاب مجلس تأسيسي مستبعدة حالياً". وإزاء هذه المخاوف رأى بطاطاش أن "الطبقة السياسية يجب أن تكون براغماتية، وعليها أن تسعى لحل توافقي يضمن تكريس الشعب لسيادته من دون الإطاحة مباشرة بالنظام. وبالتالي أعتقد أن انتخاب مجلس شعبي وطني بصلاحيات تأسيسية يضمن حلاً وسطاً".

ومقابل تصاعد المطالبات بتعديل آلية صياغة الدستور، تبدو الرئاسة الجزائرية مستعجلة في الانتهاء من المسودة. فقد أطلقت حملة إعلامية لشرح مسودة التعديلات الدستورية. وقال المكلف بمهمة لدى رئاسة الجمهورية محمد لعقاب، في سلسلة مداخلات تلفزيونية، إن تبون يعتزم الطلب من البرلمان إرجاء عطلته المقررة في الثاني من يوليو/تموز المقبل، للمصادقة على المسودة النهائية قبل طرحها لاستفتاء شعبي، ينظم على أساس هذه الأجندة الزمنية نهاية يوليو أو بداية أغسطس/آب المقبل، تليها انتخابات نيابية ومحلية قبل نهاية السنة الحالية.

المساهمون