شهر ثانٍ من الإغلاق الحكومي الأميركي: تنامي الأصولية السياسية

شهر ثانٍ من الإغلاق الحكومي الأميركي: تنامي الأصولية السياسية

23 يناير 2019
ضربت أزمة الإغلاق الحكومي الرقم القياسي في مدتها(شيب سوموديفيلا/Getty)
+ الخط -

انتهى النصف الأول من ولاية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ومعه أنهى الإغلاق الحكومي شهره الأول ودخل في الثاني. تزامن معبِّر يعكس حصيلة أول سنتين من ولاية ترامب، ترسخت خلالها "الأصولية السياسية" في أميركا، إذ حلّ التصلب الأيديولوجي مكان الحوار وأسلوب التسويات المعمول به تاريخياً في السياسة الأميركية الداخلية لحل الإشكالات وتجاوز الخلافات.

وتنبع هذه الأصولية، في أساسها، من الصراع الدائر بصور مختلفة، بين غلاة المحافظين الذين حصلوا على شحنة زخم مع مجيء ترامب والذين يريدون أميركا "بيضاء نقية" كما كانت في السابق، وبين خصومهم الذين يؤكدون وجوب حمايتها كبلد متنوع ومفتوح منذ البداية أمام المهاجرين واللاجئين. وعلى هذه الأرضية نشبت وطالت أزمة الإغلاق الحكومي التي ضربت الرقم القياسي في مدتها. ومنها انبثق التشبث المتبادل حولها وبالتالي الانسداد في معالجتها. في السابق كانت تعالج مثل هذه الحالة، التي تكررت أكثر من مرة منذ تسعينيات القرن الماضي، بالتراجع المتبادل والحلول الوسط للإفراج عن بنود الموازنة ومواصلة الإنفاق العام، وبالتالي تأمين استمرارية سير العمل في الدوائر الحكومية. لكن هذا النهج المتوارث لا مكان له في البيئة الراهنة، إذ إن الإيديولوجيا تتحكم اليوم بالقرارات. واختارت الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ التبعية لترامب، لأن النواة الصلبة لقواعد المحافظين ونخبهم، خصوصاً في صفوف الإنجيليين، متمسكة به. وهذه الكتلة ليست وازنة بحد ذاتها لترجيح الكفة الانتخابية للجمهوريين أو للرئيس، لكن لا غنى للاثنين عنها، فهي ركيزتهم الأساسية، خصوصاً أن العام الحالي مقبل على معركتين كبيرتين: صدور تقرير المدعي الخاص المكلف التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، روبرت مولر، الذي قد يثير أزمة طاحنة، وانطلاق حملة انتخابات الرئاسة لعام 2020. وهذه القوى متماسكة وعنيدة في دفع أجندتها، وترى في ترامب الحليف الاستراتيجي لها، وهي التي دفعته، بل حرضته، على التمسك بتمويل الجدار الحدودي مع المكسيك بأي ثمن، كتعبير رمزي ومادي عن إصرارها على تسييج أميركا. بل هي تدفع باتجاه تقليص الهجرة القانونية، وترامب يستقوي بها في معاركه الراهنة واللاحقة.

وحملت هذه الحسابات الجمهوريين، كأغلبية في مجلس الشيوخ، على التخلي إلى حدّ بعيد عن هامش التمايز الذي يتمتع به المجلس تاريخياً عن البيت الأبيض، حتى لو كان الرئيس من حزب الأكثرية فيه. وبذلك اصطفوا بانضباط حتى الآن، ما عدا بعض الانشقاقات المحدودة في صفوفهم، خلف ترامب. وكان بمقدور الجمهوريين في مجلس الشيوخ فك الإقفال بسرعة من خلال تصويت كاسح مع الديمقراطيين، وبما يكسر أي فيتو رئاسي. لكن تغليب، أو الاضطرار تحت ضغوط القاعدة، للإيديولوجيا على البراغماتية السياسية، أدى إلى التناحر السياسي عندما رد الديمقراطيون بالمثل ورفضوا الموافقة "سوى على دولار واحد" من باب التهكم، لتمويل الجدار، وهم ربحوا الجولة حتى الآن، إذ إن 56 في المائة من الأميركيين، حسب استطلاع رأي نشرت نتائجه قبل يومين، يحملون ترامب والجمهوريين مسؤولية الإغلاق.

ويواكب هذا التطاحن تنامي الدعوات والمطالبات للبدء في "إجراءات عزل الرئيس"، أو على الأقل للبدء في النظر "في جدارة وحيثيات هذا الإجراء". وليس سراً أن القابلية في مجلس النواب الجديد مفتوحة لمباشرة هذا التدبير الذي كانت سيرته متداولة سابقاً بالهمس، إذ أصبحت عناوين على غلافات مجلات مرموقة ومقالات في زاوية الرأي. وسواء انتقل هذا التوجه إلى حيز الترجمة أم لا، فإن مجرد طرحه في هذا الوقت المبكر من شأنه أن يؤجج "المناخ الأصولي" السياسي ويعمق الاستقطاب، الذي لا بد من أن يؤثر في صياغة القرار، بشقيه الداخلي والخارجي معاً. فلا سياسة أو موقفا أو توجها رئاسيا أميركيا في الوقت الراهن إلا وله صلة ما بقضية التحقيقات الروسية وتطوراتها وحساباتها.