توارث جرائم الإخفاء القسري: اليمن يرفض التصالح مع تاريخه

توارث جرائم الإخفاء القسري: اليمن يرفض التصالح مع تاريخه

13 مارس 2014
مطهر الإرياني في منزل أسرته (خاص - العربي الجديد)
+ الخط -
"في العام 2006، نزلت إلى المقابر، أبحث هناك عن قبر أبي لعلّي أجد هناك ما تستكين إليه روحي الفارة من بين أضلعي. كنت أتبع الرجل صاحب المقبرة، وقد وهب نفسه لمساعدتي رغبة منه في الحصول على كم قرش. كنت أضحك في نفسي، وهو يقول لي: إنّ علي قناف زهرة، موجود هناك عند البوابة الشرقية، لا بل هناك في أقصى اليمين. تعب الرجل، وضحكت أنا لأني أعلم في قرارة نفسي أني اتبع رجلاً كاذباً، لكني في تلك اللحظة، لم أملك أي خيار سوى أن أتبع هذا الرجل، لعليّ أستكين ولو الى كذبة، ...أصعب شيء في الحياة أن تظل تنتظر، تصرخ وتنادي بأسمائهم وأنت تعلم أن لا أحد سيجيبك".

بهذه العبارات، اختصرت سلوى علي قناف زهرة، في منشور كتبته على صفحتها على "فيس بوك"، بعضاً من فصول معاناتها وأسرتها المستمرة منذ اختفاء والدها قسراً، الذي كان يشغل منصب قائد سلاح المدرعات، واختفى يوم اغتيال الرئيس، ابراهيم الحمدي، في عام 1977، ضمن قائمة طويلة من المخفيين قسراً في اليمن، من الذين ترفض السلطات الكشف عن مصيرهم حتى اليوم. الملف يُتهم العديد من المسؤولين السياسيين والأمنيين بالتورط فيه، وهو يطال فترة ما قبل الوحدة، أي يشمل الشطرين الشمالي والجنوبي لليمن، وكذلك ما بعد الوحدة.
قبل الوحدة، في اليمن الشمالي، كانت فترة السبعينات هي الأصعب. وتركزت جرائم الإخفاء ضد اليساريين والناصريين، وخصوصاً بعد قيام التنظيم الناصري بمحاولة انقلابية على، علي عبد الله صالح. أما في اليمن الجنوبي، فإن حالات الاختفاء الأوسع انتشاراً كانت في عام 1986 الذي شهد اقتتال أعضاء الحزب الاشتراكي (الحزب الحاكم آنذاك) في ما بينهم. لكن السنوات السابقة لم تكن أقل سوءاً بفعل الاضطرابات السياسية في البلاد. ولاحقاً، بعد الوحدة، استمرت هذه الظاهرة، وخصوصاً بعد محاولة فرض الوحدة بالقوة في حرب 1994.

وإذا كانت مئات من الأسر، على غرار عائلة قناف، لا تملك كثيراً من الاجابات عن والدها، فإن عائلة، عبد المطهر الإرياني، تكاد تكون الاستنثاء.

قبل عام تقريباً من الآن، أعلنت عائلة الإرياني عن العثور على الوالد داخل دار السلام للأمراض العقلية والنفسية بعد اختفاء امتد من عام 1982. الإرياني وجد في وضع صحي سيء. وإلى جانب فقدانه الذاكرة، تبين أنه نصف مشلول ويعاني من ضرر عقلي نتيجة التعذيب الذي تعرض له في السابق، والظاهر إلى اليوم على جسده. حسم هويته لم يكن ممكناً بشكل قاطع ولا سيما أنه وجد في دار السلام تحت اسم مستعار هو طه الطاهري.

لكن تقاسيم وجه الارياني الذي تخطى عمره اليوم الـ71، وبعض الندوب القديمة التي في جسده كانت كافية لتعتقد العائلة أنه، هو نفسه، ولكي تنقله إلى المنزل، خوفاً عليه. ولقطع الشك باليقين، شرعت العائلة في إجراء فحوص الحمض النووي وأرسلتها إلى الولايات المتحدة، ممنيةً النفس أن أسابيع قليلة ستفصلها عن إسدال الستار على فصل عذاب طويل، امتد منذ لحظة اختفاء الناشط اليساري، وصولاً إلى لحظة العثور عليه.

لكن السلطات اليمنية، التي أمعنت في إخفاء حقيقة المخفيين قسراً، واصلت المضي في سياسة، علي عبد الله صالح، نفسها على الرغم من رحيله. حتى اليوم ترفض السلطات تسليم العائلة نتائج الفحوصات التي أجريت في مختبر أمريكي وسلمت إلى السفارة اليمنية ومنها إلى وزارة الداخلية.

قبل أيام من تغيير وزير الداخلية، عبد القادر قحطان، طُلب من الأسرة أن تحضر لتسلم نتائج الفحوصات. وعندما تواصلت مع الوزارة، قيل لها أن تتواصل من جديد بعد ساعة، من دون أن تتلقى رداً عن اليوم، في استمرار سياسة المماطلة الممتدة قرابة عام.

مصدر أمني في مكتب وزير الداخلية، تواصل معه "العربي الجديد"، طلب عدم الكشف عن اسمه قبل أن يؤكد أن الداخلية تتبع الاجراءات القانونية في هذا الملف، وأنها تنتظر إشارة من النيابة العامة. وعند سؤاله عن أسباب كل هذا التأخر في تسليم النتائج حتى من النيابة، استمهل بعض الوقت للحصول على معلومات اضافية من الوزير شخصياً (الوزير المقال عبد القادر قحطان). لكن عندما تمت معاودة الاتصال به، لم يجب عن هاتفه. أما الوزير الجديد، عبده الترب، فلم يظهر بعد أي مؤشر حول كيفية تعاطيه مع القضية، وخصوصاً أنه لم يتواصل بعد مع الأسرة. أما الأسرة، فقررت أن تتابع الملف في النيابة علّها تصل إلى نتيجة. لكن المفاجأة حصلت يوم الثلاثاء، عندما أبلغتهم النيابة أنه لم يصلها أي ملف حول الموضوع.

الناشط الحقوقي، عبد الرشيد الفقيه، الذي يتابع القضية عن كثب، اوضح لـ"العربي الجديد" أنه كان يتواصل مع مكتب الوزير بشكل شبه يومي، من دون نتيجة، مشيراً إلى أن وزارة الداخلية تواصل مهمة تعذيب الأسرة. وأضاف "يؤكد سلوك المسؤولين أنهم مصممون على الاستمرار في جريمة الإخفاء القسري، التي يتوارثونها، مسؤول عن مسؤول ونظام عن نظام". ويرى الفقيه أنه "في موضوع الإخفاء القسري، يعتبر الشخص المخفي ضحية وأفراد أسرته ضحايا. وهو ما يجري تجاهله بشكل كبير".

ندى، ابنة مطهر الإرياني، تحدث إليها "العربي الجديد"، أكدت أن الأسرة على الرغم من متابعتها النتائج مع وزارة الداخلية علّها تفرج عنها، فإن لديها خيارات أخرى شرعت فيها لحسم هوية الارياني، من بينها اجراء فحص حمض نووي جديد بعيداً عن السلطات اليمنية.

وعن أسباب المماطلة من وزارة الداخلية، قالت لـ"العربي الجديد" "يُحتمل الخوف". وأضافت "من الممكن أن النتيجة إيجابية ويخشون من الأذى لأن العصابة ما تزال موجودة، لم تنته"، مشيرة بذلك إلى استمرار أبرز مسؤولي الأجهزة الأمنية والذين أصبح بعضهم يتولون مناصب سياسية.

ماذا لو كانت النتائج سلبية؟ ماذا سيكون موقف الأسرة، وخصوصاً أن الإرياني يعيش معهم منذ العثور عليه؟ تقول ندى: سوف أسلم أمري لله وأبحث عن والدي ولن أيأس أبداً، سأظل أبحث حتى ألقاه، ولو ميتا،ً أريد جثته ومحاكمة الجناة. لكنها تستدرك، كمن يرفض هذا الاحتمال، قائلة: بس كل من شافه قال هو، في علامات في جسده وبعض حركات شافها عمي، وقال هو مطهر.وتضيف: حتى لو طلع مش والدي، هذا الشخص كان مسجوناً في سجون صالح، عليه آثار تعذيب وما تزال تحكمه نوبات هستيريا، شتائم لصالح (الرئيس اليمني) وللدولة والقوات المسلحة". كما أشارت إلى أنه ما يزال "على حاله منذ ايجاده، اذ يقضي طول الليل وهو يصرخ ولا ينام".

وإن كانت هوية مطهر الارياني يحسمها فحص الحمض النووي، ماذا عن مصير باقي الملفات؟ تقول رئيسة الرابطة اليمنية لأسر المخفيين قسراً، سلوى زهرة قناف لـ"العربي الجديد": إن الرابطة في اطار محاولتها تحريك الملف تعكف على انجاز قاعدة بيانات حول المخفيين. وأوضحت لـ"العربي الجديد"، أن الرابطة قامت حتى اللحظة بتوثيق 57 ملفاً، فيما لا يزال 150 اسماً من دون توثيق أو ملفات". وأضافت يوجد لدينا مشكلة ظهرت، وهي حكاية السجون السرية، التي من خلال المعلومات التي تردنا يوجد فيها أفراد مخفيون من الثمانينيات.
وتوضح قناف، أنها ضمن عملها في الرابطة، "تواصلت مع المنظمات وطلبت خبيراً" لتقديم المشورة والمساعدة لهم حول، ما هي الاجراءات الواجب اتباعها بعد الانتهاء من التوثيق، لكن التعاون حتى اللحظة لا يزال من دون المستوى المطلوب. وتوضح أنه "حتى مكتب الأمم المتحدة، أبلغهم أن مشكلة اليمن أنه لا يوجد فيه لجنة مستقلة تعرض عليها الملفات، وأنّ القضية من أصعب القضايا دولياً". وأشارت إلى أنهم أبلغوا أن الوضع "من الممكن أن يكون أفضل اذا كان هناك قضاء مستقل أو نيابة مستقلة أو حتى وزارة حقوق الانسان مستقلة".

 

دلالات

المساهمون