إقرار ماكرون بجريمة أودان لا ينهي ملفات الذاكرة الجزائرية

إقرار ماكرون بجريمة أودان لا ينهي ملفات الذاكرة الجزائرية

15 سبتمبر 2018
زار ماكرون عائلة أودان مقراً بمسؤولية فرنسا(طوماس سامسون/فرانس برس)
+ الخط -


بقدر ما عبّرت الكثير من الأطراف الرسمية والسياسية والفعاليات المدنية في الجزائر عن ارتياحها للخطوة "الجريئة" من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الإقرار بخطف وتعذيب وقتل المناضل الفرنسي موريس أودان عام 1957 في الجزائر بسبب مساندته لثورة التحرير، بقدر ما استاءت للانتقائية في المواقف والاعتراف التي تعالج بها فرنسا ملفات الذاكرة في علاقة بتاريخها الاستعماري في الجزائر، خصوصاً في ظل بقاء ملفات أخرى أكثر دموية معلّقة.
ودفع إقرار ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن إخفاء أودان في يونيو/ حزيران 1957، الجزائر الرسمية والسياسية إلى تجديد مطالبة باريس بإعلان اعتراف كامل يشمل مسؤوليتها عن كل الجرائم وعمليات الإبادة والقتل الجماعي والتعذيب التي تعرض لها الشعب الجزائري قبل عام 1954 وخلال ثورة التحرير بين 1954 حتى الاستقلال في الخامس من يوليو/ تموز 1962.

وزير المجاهدين (محاربي ثورة التحرير) الطيب زيتوني، وصف في تصريح صحافي، الخميس، اعتراف الدولة الفرنسية بالمسؤولية عن تعذيب واختفاء أودان بـ"الخطوة الإيجابية التي يجب تثمينها". وأضاف زيتوني أن "الجرائم التي اقترفتها السلطات الفرنسية إبان الحقبة الاستعمارية في حق الجزائريين لا ينكرها إلا جاحد وجاهل للتاريخ، وخطوة الرئيس الفرنسي دليل على أنه ستكون هناك المزيد من الاعترافات". لكنه طالب في الوقت نفسه الحكومة الفرنسية بسرعة إنهاء الملفات العالقة من ثورة التحرير والذاكرة، بينها ملف استرجاع الأرشيف الوطني المتعلق بالحقبة الاستعمارية وجماجم زعماء المقاومة الجزائرية الموجودة في متحف الإنسان في باريس، وتعويض ضحايا التجارب النووية بالصحراء الجزائرية.

لكن فاعلين سياسيين في الجزائر اعتبروا أن إقرار ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن تعذيب وقتل أودان وتأسيس آلية للتعذيب في الجزائر، هو اعتراف انتقائي اقتصر على مناضل فرنسي ولم يشمل كل الضحايا الجزائريين الذين قُتلوا بالطريقة نفسها، وبينهم الزعيم الثوري العربي بن مهيدي. وقال رئيس حركة "مجتمع السلم" عبد الرزاق مقري: "لا شك أن موريس أودان بطل من أبطال الثورة التحريرية الجزائرية، ونحن نعتز به، حتى وإن كان اسمه موريس. ولكن حينما يعتذر الرئيس الفرنسي لعائلة موريس أودان فقط يُظهر حقيقة العنصرية الفرنسية، وعدم اعتباره للملايين من الجزائريين الذين عُذبوا وقُتلوا، بشراً". وأضاف: "سيدرك الرئيس الفرنسي يوماً ما أن الانتهاكات التي وقعت للإنسان الجزائري هي كذلك جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب لا تتقادم بمرور الزمن"، مشيراً إلى أن "تصرف الرئيس ماكرون هذا يدل على قلة احترام للمسؤولين الجزائريين ولكل الشعب الجزائري".

من جهته، قال البروفسور المتخصص في علم الاجتماع السياسي، محمد طيبي، إنه "بقدر ما كانت هذه الخطوة مهمة وتنبئ بتطور في موقف باريس بسبب عوامل في الداخل الفرنسي، لا يجب أن نغفل أنها لم تشمل اعترافاً كاملاً بمسؤولية فرنسا عن اختفاء عدد كبير من المناضلين الجزائريين".


أما رئيس منظمة "مشعل الشهيد"، التي تعمل في مجال حفظ الذاكرة التاريخية، محمد عباد، فأكد لـ"العربي الجديد"، أن "الخطوات التي قام بها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، ويستكملها ماكرون، مهمة على صعيد تصحيح التاريخ والاعتراف بمسؤولية فرنسا عن جرائمها في الجزائر، لكن ذلك يظل سياقاً سياسياً لم يصل إلى سقف المطالب الجزائرية"، لافتاً إلى أن "هناك خطوات عملية يجب القيام بها غير التصريحات، مثل الاعتراف الكامل بجرائم الاستعمار، والاعتذار الرسمي عن سنوات من العذاب التي عاشها الشعب الجزائري، وتعويض الضحايا، وإعادة الحقوق المادية والتاريخية للجزائر، كالوثائق والمسروقات، ثم يمكننا أن نتحدث عن علاقات بتطبيع كامل في المستقبل".

ويطالب مختصون في ملف التاريخ الدولة الفرنسية بخطوات أخرى أكثر جرأة بشأن الملفات التاريخية العالقة. وفي هذا السياق، قال محمد القورصو، رئيس جمعية الثامن من مايو، التي تدافع عن حق الاعتراف بمسؤولية فرنسا عن إبادة 45 ألف جزائري في يوم واحد في مدن جزائرية في الثامن من مايو/ أيار 1945، لـ"العربي الجديد"، إن "ملفات الذاكرة والجرائم الاستعمارية لا يجب أن تتجزأ، وتستدعي شجاعة سياسية للاعتراف بها كاملة من دون انتقائية"، مشيراً إلى أنه "ما زال هناك الكثير من الملفات التاريخية بحاجة إلى معالجة وتسوية، كملف جرائم الثامن من مايو التي توقفت عند حدود تصريحات سياسية"، مضيفاً أن "هناك ملفاً هاماً آخر يجب أن تستكمل الدولة الجزائرية تسويته وهو ملف الأرشيف الوطني، إذ تم نقل أكثر من طنين من الوثائق إلى فرنسا".

وإضافة إلى ملف الأرشيف وضحايا مجازر الثامن من مايو، يظل ملف التفجيرات النووية التي نفذتها فرنسا في 13 فبراير/ شباط 1960 في منطقة رقان في ولاية أدرار، (900 كيلومتر جنوبي العاصمة الجزائرية)، واحداً من الملفات العالقة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، والتي خلّفت إشعاعات نووية امتدت لمحيط 100 كيلومتر في مكان التفجير. وقال برقان الهامل سيد أعمر، الذي يدير جمعية 13 فبراير 1960 في منطقة رقان، جنوبي الجزائر، لـ"العربي الجديد"، إن "ضحايا التفجيرات النووية الذين بلغ عددهم 150 ألف شخص على امتداد ثلاثة أجيال وعائلاتهم ما زالوا ينتظرون اعترافاً فرنسياً بمأساتهم"، مضيفاً أن "التفجيرات النووية جريمة مكتملة الأركان ضد الإنسانية، والسكان ما زالوا يتجرعون مآسيها حتى الآن، بدليل ارتفاع حالات الإصابة بمختلف أمراض السرطانات وأمراض العيون التي تُسجل من سنة إلى أخرى في المنطقة"، آملاً "أن يستكمل الرئيس الفرنسي خطواته لإعلان اعتراف كامل بالمسؤولية عن جريمة التفجيرات واستخدام الجزائريين كفئران تجارب".

الخطوة الأخيرة لماكرون تأتي بعد سلسلة مواقف أعلن عنها قبل وبعد توليه لمنصب الرئاسة، ففي يناير/ كانون الثاني 2017، وقبل انتخابه رئيساً لفرنسا، قام ماكرون بصفته مرشحاً للرئاسة بزيارة إلى الجزائر، وزار مكان النصب التذكاري المخصص لموريس أودان في قلب العاصمة الجزائرية، كما أقر لاحقاً خلال زيارة أخرى إلى الجزائر بأن "الاستعمار ظلم وجريمة في حق الجزائريين". لكن مطالبته للجزائريين بطي الصفحة والتوجّه إلى المستقبل، ما زالت تثير النقاش في الجزائر، إذ ترفض الجزائر الرسمية والشعبية طي صفحة الماضي قبل تسوية جملة الملفات التاريخية العالقة، وقبل تحمُّل الدولة الفرنسية المسؤولية عن عدد من جرائم الإبادة والقتل الجماعي والتعذيب وضحايا التفجيرات النووية، وتطالب باستعادة الأرشيف الوطني المسروق وتقديم اعتذار رسمي وتعويضات مادية لازمة.

المساهمون