حوض الشام: إلدورادو الغاز محط الأطماع

حوض الشام: إلدورادو الغاز محط الأطماع

24 مارس 2020
تظاهرات في أثينا ضد التنقيب عن الغاز(لويزا غولياماكي/فرانس برس)
+ الخط -


أثار في بداية الألفية الثانية اكتشاف موارد غاز هامة في باطن شرق البحر الأبيض المتوسط أطماعاً لدى البلدان المحيطة به. ولكن استغلال هذه المنطقة البحرية المحدودة ما زال خاضعاً لنزاعات عديدة متعلقة بترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من البلدان المعنية.
في بداية 1999 ومع اكتشاف الحقل الغازي "نوح" قبالة سواحل إسرائيل (التي تحتلها إسرائيل/من المحرر)، انطلقت عملية واسعة للتنقيب في شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد سمح ذلك باكتشاف حقول ماري ـ بي، داليت، تامار، تنين على التوالي، وعند آخر العشرية حقل ليفياثان. وتقع جميعها في المنطقة الاقتصادية الخالصة (1) التي تطالب بها إسرائيل.
حقل ليفياثان وحده يحتوي على 18 تريليون قدم مكعبة (520 مليار متر مكعب من الغاز)، ويسمح استغلاله بتزويد إسرائيل بالكهرباء على مدى السنوات الثلاثين المقبلة. كما تسمح مجمل هذه الموارد بجعل إسرائيل في وضع المصدّر للغاز؛ وهو خيار يحظى بتقدير الاتحاد الأوروبي الذي سيكون بذلك أقل تبعية لروسيا، ولكنه في الواقع يتجاهل كون أنه سيصبح شريكاً في نهب جزء من الغاز الذي ستأخذه إسرائيل من موارد الفلسطينيين.

عند اكتشاف حقل نوح، راود الفلسطينيين أيضاً الكثير من الآمال في استغلال الغاز، واعتُبر حقل آمارين البحري للغاز عاملا رئيسيا في الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الطاقة. وصرح آنذاك رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات بحماسة: "إنها هبة من الله لشعبنا وأطفالنا ونسائنا هنا وفي المهجر، ولأولئك الذين يعيشون هنا على أرضنا". غير أن لا شيء صار كما كان مخططاً له. وفشلت مجموعة بريتيش غاز غروب وشركة اتحاد المقاولين، أكبر شركة بناء في الشرق الأوسط، وصندوق سيادي فلسطيني في إنجاز المشروع. ويعود ذلك في جزء كبير إلى العقبات التي وضعتها إسرائيل والتي لم تعد في حاجة لهذه الفرضية كون مواردها الذاتية تكفيها.

كما قامت السلطات اللبنانية هي أيضاً في إبريل/نيسان 2013 بإطلاق مناقصات لاستغلال كتل استكشافية في منطقتها الاقتصادية الخالصة. تحتوي المياه اللبنانية على احتياطي يقدر بما يقارب 25 تريليون متر مكعب. لكن التوترات مع إسرائيل تضع حقلي تمار وليفياثان الموجودين نظرياً ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة الإسرائيلية محل إشكال، كون الحدود بين المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين ليست ثمرة لأي اتفاق. ويعتبر لبنان أن هذين الحقلين هما نتاج جيب يوجد تحت البحر اللبناني وأن استغلاله من قِبل إسرائيل يعد اغتصاباً.

بخصوص سورية، ونتيجة للحرب، فإن استغلال مياهها الإقليمية معلّق في الوقت الحالي. تم بيع "كتل استكشافية" في المزاد في بداية 2011، ولم تبلّغ دمشق أبداً بقائمة الفائزين، غير أن محادثات متقدمة في 2013 مع روسيا والصين تعد إشارة على الأرجح إلى الفائز بالصفقة.
مصر هي أيضاً أحد الأطراف الحريصة على الاستفادة من موارد الغاز في عمقها البحري. وقد عهدت بمهمة التنقيب إلى شريكها الإيطالي لأكثر من ستين عاماً إيني. وصرحت إيني بأنها اكتشفت أكبر حقل غاز طبيعي في الشرق الأوسط. هذا الحقل الذي سُمي بحقل ظهر، تصل إمكاناته إلى 850 مليار متر مكعب على مساحة 100 كيلومتر مربع، ومن شأنه تلبية حاجات مصر من الغاز الطبيعي لمدة عقد على الأقل. وسينقل هذا الحقل مصر من موقع المستورد إلى موقع المصدر.

يقدّر الجيولوجيون أن حوض المشرق، المنطقة البحرية المجاورة للمياه الإقليمية المصرية ويحدها الساحل السوري والأردني واللبناني وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة وقبرص، قد يحتوي على 3454 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي على الأقل، أي أربعة أضعاف احتياطي حقل ظهر وحده.
في عام 2015 زار المدير العام لشركة إيني القاهرة ليحتفل بذلك مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قائلاً: "هذا الاكتشاف التاريخي بإمكانه أن يغيّر السيناريو الطاقوي في مصر". وهو خبر سار في بلد يعرف انقطاعات كهربائية متكررة.

قبرص، فاعل مركزي

قبرص، الجزيرة الصغيرة بمساحة 9000 كيلومتر مربع في حوض الشام والتي هي مقسمة بالخط الأخضر ـ المعروف باسم خط آتيلا ـ بين جمهورية قبرص في الجنوب (61 في المائة من الأراضي) وجمهورية قبرص التركية في الشمال. من المقرر إجراء انتخابات رئاسية في 26 إبريل/ نيسان 2020 في الجزء التركي من الجزيرة (تم تأجيلها بسبب كورونا/من المحرر).
ترشح الرئيس الحالي مصطفى اكينجي لولاية أخرى، ليواجه رئيس وزرائه أرسين تتار، المدعوم من تركيا. في الواقع يشكل هذا الاقتراع نوعاً من الاستفتاء. إما أن يقوم القبارصة الأتراك بتزكية فكرة أن الجزء التركي من الجزيرة هو، وفق خطاب أنقرة، "طفل تركيا" وأن هذه الأخيرة هي "أمه"، وإما سيؤيدون نظرة توحيد الجزيرة كما يتوخاها الرئيس المرشح.
ليس هذا الانتخاب روتينياً، بل رهان رئيسي بالنسبة لأنقرة. فعلى الرغم من حملة إعلامية تركية عنيفة وكلام حاد من قِبل السلطات التركية ضده، كرر اكينجي دعوته إلى هوية مشتركة للجزيرة وانضمامها، بعد توحيدها، بصفة كلية إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر واقع بالنسبة للجزء اليوناني وقانوني بالنسبة للجزء التركي. وإذا نجح في ذلك سيقلل بصفة هائلة من قدرة تركيا على الوصول إلى الثروة الغازية المحيطة بالجزيرة؛ وهي تقدّر بـ5765 مليار متر مكعب من قبل هيئة مسح جيولوجي أميركية.

كانت جمهورية قبرص هي أيضاً أحد أكبر المستفيدين من الاكتشافات البحرية في بداية الألفية الثانية. وقد سمح الحقل الغازي آفروديت، والذي اكتشفته الشركة الأميركية نوبل إينرجي في 2001، بزيادة احتياطاتها المقدرة بـ7 تريليون م3 أي مداخيل تزيد عن 8 مليارات يورو خلال 18 سنة.
ومنذ ذلك الحين بدأت نوبل إينرجي بحفر بئر جديدة وكل شيء يدعو إلى أمل اكتشاف كمية من الغاز تسمح بالوصول إلى 30 أو 40 تريليون متر مكعب في المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة. من جهة أخرى، أوكلت السلطات القبرصية اليونانية كتل استكشاف للشركة الإيطالية إيني وللشركة الكورية للغاز وشركة توتال الفرنسية.


وهناك اكتشاف آخر وارد جداً، يتمثل في حقل أفروديت 2 في الجانب الإسرائيلي من الحدود البحرية مع قبرص. وإذا ما تأكد أن هذا الحقل يأتي من نفس التكوين الجيولوجي لحقل آفروديت، فهذا من شأنه دفع إسرائيل وقبرص إلى تعزيز علاقتهما الثنائية قصد الاستغلال الأمثل لهذه الطاقة الأحفورية في المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما.
في 2018 اتفقت قبرص وإسرائيل اللتان التحقت بهما كل من اليونان وإيطاليا وبدعم من الولايات المتحدة، على مشروع إيست ـ ميد لبناء خط أنابيب غاز طوله 2200 كيلومتر لنقل الغاز الإسرائيلي نحو اليونان وإيطاليا حيث يمكن نقله نحو أوروبا. ومن المتوقع أن يربط خط الأنابيب هذا بين حقلي ليفياثان وآفروديت، وهما على التوالي أكبر الحقول في إسرائيل وقبرص.

ولكن في مواجهة هذا المشروع سبق أن قامت روسيا وتركيا فعلياً بعمل مضاد من خلال التدشين في 8 يناير/كانون الثاني 2020 لخط أنابيب الغاز توركستريم، بطول أكثر من 900 كيلومتر والذي سينقل الغاز الروسي إلى تركيا ثم إلى أوروبا. وقد بدأ بالفعل توركستريم بتزويد بلغاريا وسيتم تمديده إلى صربيا والمجر. ومع ذلك تواصل تركيا نداءها بأن تكون قضية الموارد الطبيعية البحرية جزءاً من اتفاق شامل مع قبرص.

دبلوماسية المدافع
كما أن أنقرة قلقة أيضاً من الدور المتزايد للأميركيين. ففي 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وقّع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، ووزير الخارجية القبرصي اليوناني، نيكوس كريستودوليديس، على إعلان نوايا من أجل تعزيز وتطوير "العلاقات الأمنية الثنائية، والأمن في البحر وعلى الحدود، وكذا على تعزيز الاستقرار الإقليمي". ثم في 29 نوفمبر، قامت السفيرة الأميركية في قبرص، كاتلين دوهيرتي، ووزيرا الطاقة والشؤون الخارجية القبرصيان، جورج لاكوتريبيس ونيكوس كريستودوليديس، بزيارة سفينة إيكسون موبيل التي تقوم بالحفر، على الرغم من احتجاجات أنقرة.

وقبل هذه اللقاءات قررت في يناير 2019 حكومات كل من قبرص ومصر واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين إنشاء "منتدى الغاز في شرق المتوسط" من أجل التحكّم في بروز سوق للغاز في المنطقة. ولم تُدع أي من تركيا ولبنان وسورية إلى هذا المنتدى.
واجتمع منتدى الغاز لشرق المتوسط مرة أخرى في يوليو/تموز 2019، وحضرت الولايات المتحدة كإحدى الدول المؤسسة، في حين قام الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه بإعلان دعمه لليونان وقبرص ضد تركيا، وأدان الأعمال التركية في شرق المتوسط.

من جهته، حذر رئيس البرلمان التركي (حينها)، بن علي يلدريم، من أن "الشركات الكبرى التي تقوم ببحوث عليها أن تعرف حدودها... سترد تركيا على أي محاولات تهدد مصالحها المشروعة في شرق البحر الأبيض المتوسط وحقوق الجمهورية التركية لشمال قبرص. وستقوم بكل ما يتعين فعله... يجب أن يعلم الجميع أننا لن نتخلى عن شبر واحد من حقوقنا ومصالحنا المشروعة في البحار".

منذ اكتشاف حقل آفروديت واصلت الإدارة القبرصية اليونانية تكثيف أنشطة التنقيب في شرق المتوسط. وردت تركيا في فبراير/شباط 2018 بإرسال سفن حربية لمنع شركة إيني من الحفر قبالة الساحل القبرصي. وبعد ذلك بأشهر، أرسلت سفينة تنقيب سميت بالفاتح، نسبة إلى السلطان محمد الفاتح قاهر الإمبراطورية البيزنطية، مخفورة بسفن حربية. وفي إجراء غير مفاجئ وداعم لجمهورية قبرص في نزاعاتها الإقليمية والبحرية مع تركيا، قرر الكونغرس الأميركي في ديسمبر/كانون الأول 2019 رفع حظر بيع الأسلحة إلى نيقوسيا الذي يعود إلى 1987. وأدان الكونغرس أنقرة بخصوص نشاطات تنقيبها حول الجزيرة، مما أضاف خلافاً جديداً إلى تلك الموجودة في العلاقات التركية الأميركية.

من جهتها، حسب وزارة الدفاع القبرصية، حصلت نيقوسيا على أربع طائرات إسرائيلية من دون طيار (50 ألف دولار للواحدة)؛ وسيسمح ذلك لجمهورية قبرص بتحسين مراقبة منطقتها الاقتصادية الخالصة حيث تقوم شركات دولية بعمليات بحث وتنقيب. وحسب مُصنِّعها الإسرائيلي، آيرونوتيكس غروب، هذه الطائرات من دون طيار هي الأفضل أداءً في فئتها، ربما مثيلة لنظيرتها التركية "بيرقدار".

يعد هذا الملف ذا أهمية قصوى بالنسبة لتركيا. فمنذ 2013 أصبح الغاز أول مصدر طاقة مستهلكة في تركيا. وتشكل الجزر اليونانية المتعددة القريبة من سواحلها حاجزاً لتحديد منطقة اقتصادية خالصة كبيرة لها. وبهدف تجاوز هذا الضعف، تبرز تركيا وجودها في الجزء الشمالي من قبرص، بما في ذلك من خلال إرسال قوات إضافية، كما تحركت لتقديم المساعدة لحكومة الوفاق الوطني الليبية ورئيسها فائز السراج الذي يواجه قوات خليفة حفتر.

في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، مستندين إلى كون منطقة البحر المتوسط لم يتم تحديدها قانونياً لمدة طويلة، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الحكومة الليبية المعترف بها فائز السراج بإعادة رسم الحدود البحرية، مع إدماج المناطق التي تطالب بها كل من قبرص واليونان بحجة أنها تتجاوز الجرف القاري الليبي.
ولأن كتل التنقيب والاستكشاف القبرصية للغاز توجد جنوب جمهورية قبرص، فهذا يعد طريقة لكي يكون لتركيا أمل في الوصول إلى جزء من كعكة محتملة.

يعود تصميم أنقرة على تعديل المنطقة الاقتصادية الخالصة الليبية إلى ثراء باطن البحر، وقد تم في السنوات الأخيرة اكتشاف حقول غازية هامة فيه. فبالنسبة لحقل كاليبسو وحده، هناك حديث عن 6 مليارات متر مكعب من الغاز، أي ما يساوي 10 سنوات من الإنتاج الروسي.
فيما كانت أنقرة توقّع على اتفاق بخصوص الحدود البحرية مع طرابلس، أجبرت البحرية التركية سفينة بحث إسرائيلية على المغادرة وإنهاء حملة تنقيب في المياه الإقليمية القبرصية على الرغم من أن ذلك تم بالاتفاق مع نيقوسيا. لم تكن هناك صعوبة لليونانيين والقبارصة اليونانيين، الذين لهم صوتان في الاتحاد الأوروبي ويحظيان بدعم واشنطن، في الحصول على دعم الاتحاد الأوروبي ضد تركيا.

وقد فرض المجلس الأوروبي (الهيئة التي تجمع رؤساء حكومات الاتحاد الأوروبي) عقوبات مالية على تركيا بعد عمليات حفر اعتبرت غير قانونية في قاع البحر قبالة قبرص. في هذا الإطار، كما ورد في تقرير خاص للاتحاد الأوروبي، سيعاد النظر بالنسبة لسنة 2020 في المساعدة السابقة لانضمام تركيا للاتحاد بقيمة 800 مليون يورو (و9 مليارات بين 2007 و2020).

أطلقت أنقرة، التي بدا أنها تتجاهل هذه القرارات، أول عمليات تنقيب لها في المياه الإقليمية القبرصية بإرسالها في يناير/كانون الثاني 2020 سفينة الحفر يافوز. كما أعلنت عن مشروع إجراء خمس عمليات تنقيب بحرية "في مياه الجمهورية التركية لشمال قبرص"، أي بعبارة أخرى في المياه الإقليمية الرسمية لقبرص.
في 27 يناير 2020 أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعمه لليونان بإرسال وشيك لسفن بحرية إلى شرق المتوسط يكون لها دور "ضمان السلام". وأخيرا بينما طلبت تركيا من أثينا تجريد 16 جزيرة في بحر إيجة من السلاح، صرح وزير الدفاع اليوناني، نيكوس بانايوتوبولوس، بأن القوات المسلحة "تدرس جميع السيناريوهات بما في ذلك سيناريو الاشتباك العسكري".

يبقى النزاع المسلح مستبعداً لكون اليونان وتركيا عضوين في الحلف الأطلسي، ولكن ذكره يكفي ليشهد أن تركيا، هنا كما في أماكن أخرى، أصبحت معزولة بشكل متزايد على المستوى الدولي. وفي ظرف يتميز بفائض في الإنتاج وانخفاض في الطلب بسبب الاحترار العالمي ونتيجة لثمن بيعه الزهيد، كل هذه المناورات بخصوص الغاز لها طابع جيوسياسي أكبر منه اقتصاديا أو تجاريا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ تعد المنطقة الاقتصادية الخالصة وفقاً لقانون البحار منطقة بحرية تمارس عليها دولة ساحلية حقوقا سيادية في مجال التنقيب واستخدام الموارد. وهي تمتد انطلاقاً من خط الأساس للدولة إلى 200 ميل بحري (370,4 كلم) في أقصى حد وما وراء ذلك يعد مياها دولية.


ينشر بالتزامن مع Orient XXI

المساهمون