تونس: حكم قضائي يحيي اصطفافات 2012 ــ 2013

تونس: حكم قضائي يحيي اصطفافات 2012 ــ 2013

18 نوفمبر 2016
تونسيون يتظاهرون ضد عمليات الاغتيال السياسي (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
لم يتطلب الأمر كثيراً حتى تستعيد النخبة السياسية التونسية بسرعة البرق كل ظروف وملابسات الاحتقان الذي عرفته البلاد منذ أربع سنوات. وبمجرد إعلان المحكمة الابتدائية في سوسة حكمها بعدم إدانة المتهمين في قتل منسق نداء تونس في تطاوين جنوب البلاد، لطفي نقض، حتى استعاد التونسيون نفس الاحتقان والاستقطاب والشعارات والاتهامات التي سبقت قيام الحوار الوطني لتجنيب البلاد مواجهة حقيقية بين معسكريْن سياسيّيْن. غير أن المثير للاستغراب والمخاوف في الوقت ذاته، أن البلاد قطعت منذ ذلك الحين أشواطاً سياسية، يعتقد أنها كبيرة، كما سقطت تحالفات وبرزت أخرى. لكن هذه القضية أعادت القطع المتناثرة إلى مواضعها السابقة، وتموضعها القديم، ما يعكس هشاشة التحالفات الجديدة التي عرفتها البلاد بعد انتخابات العام 2014 من ناحية، وصلابة الاستقطاب السياسي، وربما الأيديولوجي السابق الذي خيٌل لكثيرين أنه سقط مع الواقعية التونسية، حتى من داخل مكونات المعسكرين، اللذين أعادا اكتشاف نفسيهما، من ناحية أخرى.

واصطف نداء تونس مع حزب مشروع تونس وحزب المسار اليساري وعدد من الشخصيات والجمعيات في الجهة الأولى، فيما وقفت قيادات من النهضة وحراك تونس الإرادة في الجهة المقابلة، مع تنويع في الشعارات حول استقلال القضاء في الظاهر، لكنها في الحقيقة تختبر مشروعين سياسيين مختلفين، تم تأجيل مواجهتهما إلى حين، لكنها برزت مع أول اختبار للجروح القديمة. ويتساءل من يقف في الوسط، إذا كان هذا ما حدث مع أول حكم ابتدائي في قضية لطفي نقض، الذي لم يكن زعيماً سياسياً "كبيراً"، وربما عرفه كثيرون بعد موته، فكيف بقضيتي اغتيال المعارض اليساري، شكري بلعيد، والسياسي محمد البراهمي، وماذا يمكن أن يحدث بعد صدور الحكم في قضيتهما؟

ويكفي القيام بجردة للبيانات والمواقف والتعليقات التي تلت الإعلان عن الحكم، ليتبيّن حجم الحساسية من فتح جروح قديمة. وأعلن حزب نداء تونس، في بيان، أنه "مصدوم بمؤسساته ومناضليه ومناضلاته من الحكم الابتدائي في قضية الشهيد لطفي نقض، والقاضي بتبرئة المتهمين وحفظ القضية''، معتبراً أن ما حصل "استهزاء بدم الشهيد وانحياز مفضوح للقتلة والمجرمين، رغم قناعاته المبدئية بضرورة استقلالية القضاء وأحكامه". وندد بعودة ما يسمى بـ"روابط حماية الثورة المنحلّة قانونياً، والظهور المفاجئ لعناصرها بخطابها الإقصائي والمتطرف". لكن "النداء" التفت إلى حليفه حركة النهضة، وطالبها "بتوضيح موقفها الرسمي من هذه المليشيات ومواقف بعض قياداتها". وفي دعوة صريحة لحلفاء الأمس، طالب الحزب ''القوى الوطنية والديمقراطية بالالتفاف حول المبادئ الوطنية التي قامت من أجلها الثورة، والوقوف صفاً واحداً ضد قوى الردّة والمليشيات الداعية للفوضى".



وكلّف حزب مشروع تونس، الخارج من رحم "النداء"، لجنة من المحامين لاستئناف الحكم، معتبراً أن "اغتيال الشهيد لطفي نقض ليس مجرد حدث جنائي قضائي، بل هو حدث سياسي عكسته عودة ما يسمى بروابط حماية الثورة والخطاب الإقصائي المتطرف". كما عبر حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي عن "قلقه الشديد من الاستخفاف بدماء الشهداء، وتراخي القضاء في الكشف عن المجرمين القتلة المسنودين من قبل روابط حماية الثورة".

في المقابل، اعتبر النائب، القيادي البارز في حركة النهضة، عبد اللطيف المكي، أن "القضاء أصدر حكمه في القضية، وأظهر الحقيقة تحت ضغط سياسي وإعلامي رهيب ممن يدعون الدفاع عن الفقيد وهم لا يريدون غير المتاجرة بدمه وتوظيفه ضد حركة النهضة وأنصارها". وأكد المكي، في تدوينة على صفحته الرسمية، أن حركة النهضة التزمت الصمت والهدوء وتركت القضاء يعمل، ولم تتناول القضية سياسياً، في ذروة الهجوم عليها، سعياً إلى ترك القضاء يعمل بكل استقلالية ويتحمل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية كاملة خلال إصداره الحكم. وهنأ المتهمين بعد الإفراج عنهم بالحصول على براءتهم، وقدم التعزية لزوجة وعائلة الفقيد. ونصح المتّهمين باغتيال لطفي نقض أن يكون احتفالهم معتدلاً وفي إطار العائلة والأصدقاء مراعاة لمشاعر عائلة الفقيد وتمهيداً للصلح بين الأهالي، متسائلاً "ماذا سيقول كل الذين استبقوا القضاء وروجوا الاتهامات ولم يحترموا استقلالية القضاء؟".

بدوره، عبّر الرئيس السابق ورئيس حزب حراك تونس الإرادة، منصف المرزوقي، عن سعادته بالحكم. وكتب، على صفحته في "فيسبوك"، "أنا سعيد بما أسفرت عنه محاكمة المتهمين في قضية المرحوم لطفي نقض، التي أقر محامو الطرفين بتوفر شروط التقاضي العادل فيها... أهنئهم جميعاً بإطلاق سراحهم، وخاصة الدكتور سعيد الشبلي". وأضاف "أعتقد أن الحكم الصادر عن القضاء يجب أن يكون منطلقاً للقطع مع مناخات التجاذب بين التونسيين ووضع حد لخطر العنف". وإذا كان المرزوقي متحفظاً نسبياً، فإن القيادي في الحزب، عماد الدايمي، كان أكثر هجومية معتبراً أن "الأحكام الصادرة تعدّ تحطيماً للأسطورة المؤسسة لنداء تونس، وإعلاء لراية العدالة ودخول القضاء مرحلة الانعتاق والاستقلال عن الضغط السياسي والحزبي". وأضاف "عاد رموز الفتنة والاستثمار في الدم، وعلى رأسهم محسن مرزوق، خائبين منكسرين من سوسة بعد خسارة رأسمالهم الحرام"، معتبراً أن روح الثورة لم تخفت وأن العد التنازلي للثورة المضادة انطلق.

وتشكل هذه المواقف عيّنة من مئات، وربما آلاف، التدوينات التي ألهبت مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام التونسية، مكتوبة ومرئيّة ومسموعة، ما يطرح أسئلة حقيقية حول ما إذا تجاوز التونسيون فعلاً عامي 2012 و2013، عندما حصلت المواجهة بين أحزاب الترويكا وجبهة الإنقاذ، التي انتهت بخروج الترويكا من الحكم. ويتساءل كثيرون عن ردود الفعل الممكنة بعد جلستي الاستماع لضحايا الاستبداد، بداية من اليوم الخميس، وما يمكن أن تثيره أيضاً من ردود فعل، وعن استعداد البلاد للتوجه موحدة إلى ضيوف مؤتمر الاستثمار، وإقناع الشركاء بأن المناخ التونسي سليم ويمكنه أن يشكّل فضاء اقتصادياً حقيقياً من دون مخاوف.

المساهمون