الرقة السورية... مدينة الرشيد من سواد "داعش" إلى المجهول

الرقة السورية... مدينة الرشيد من سواد "داعش" إلى المجهول

14 أكتوبر 2017
عاشت الرقة بأقل من5 سنوات تجارب متناقضة(ديلي سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
من المتوقع أن تنتهي اليوم السبت أو غداً، أسطورة تنظيم "داعش" في مدينة الرقة شرقي سورية، بعد سنوات من الصراع الذي أفضى إلى تدمير أغلب هذه المدينة التي انتقلت مع ريفها إلى مرحلة جديدة من مسيرة صاخبة، ودامية خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً تناوبت خلالها عدة قوى عليها.

وعاشت الرقة خلال أقل من خمس سنوات تجارب متناقضة، حيث انتقلت من سيطرة النظام، إلى سيطرة المعارضة السورية المسلحة، ثم تنظيم "داعش"، ثم دخلت تحت سيطرة قوات يشكّل فصيل كردي عمادها، وهو ما يثير المخاوف على مستقبل محافظة يفتخر سكانها بالانتماء إلى قبائل عربية عريقة.

وباتت قوات "سورية الديمقراطية" التي تشكّل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي على وشك السيطرة على مدينة الرقة، التي ظلت لعدة سنوات المعقل البارز لتنظيم "داعش" في سورية، حيث كانت مقر قياداته، وممر قواته إلى مناطق مختلفة في البلاد، التي وقع أكثر من نصفها بيد التنظيم في عامي 2014، و2015.

وأعلنت "سورية الديمقراطية" اليوم، أنها توشك على إلحاق الهزيمة بالتنظيم، مشيرة إلى أن إعلان تحرير المدينة "ربما يكون يوم السبت أو الأحد"، منهية بذلك عملية "غضب الفرات"، والتي انطلقت بدعم مباشر من التحالف الدولي في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الفائت، في ريف الرقة الشمالي.

ومرت العملية بعدة مراحل قبل البدء بحملة انتزاع المدينة في السادس من يونيو/حزيران الماضي، والتي أدت الى مقتل وإصابة آلاف المدنيين، وتشريد نحو 50 ألفا من سكان المحافظة إلى مخيمات في عين عيسى شمال المدينة، التي تحولت إلى خراب نتيجة القصف الجوي والمدفعي.

وتضاربت الأنباء حول مصير المئات من مسلحي التنظيم، إلا أن من المؤكد استسلام السوريين منهم، فيما بقي مصير الأجانب معلقا حتى اللحظة، حيث يبدو أن التحالف الدولي يرفض خروجهم إلى معاقل التنظيم في ديرالزور ويريد القضاء عليهم.

وقد استشرس مسلحو تنظيم "داعش" في الدفاع عن معقلهم، خصوصاً بعد محاصرتهم من كل اتجاه منذ نحو أكثر من شهرين، حيث أفشل الروس منذ أشهر "صفقة" تتيح للتنظيم سحب عناصره إلى دير الزور.

ولم تمر مدينة سورية بما مرت به الرقة بتحولات دراماتيكية خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، حيث سيطرت عليها المعارضة السورية المسلحة في أوائل عام 2013 لتكون أول مركز محافظة تخرج عن سيطرة النظام في سورية.

 بقيت المعارضة في الرقة عاما واحدا لم تتمكن خلاله من ترسيخ وجودها فيها، حيث تحولت المحافظة إلى هدف لطيران النظام، وصواريخ "سكود" بعيدة المدى، فضلا عن عدم امتلاك المعارضة سابق تجربة في إدارة مدن كبرى، وهو ما فتح الباب أمام الفوضى التي أدت الى ظهور رايات تنظيم "داعش" السوداء في المحافظة أواخر ذاك العام.


في بدايات عام 2014، بدأ "داعش" تحركاً للسيطرة على المحافظة؛ فسيطر أولاً على مدينة الطبقة (غربي الرقة بنحو 50 كيلومترا)، ثم سيطر على مدينة الرقة إثر معارك مع "جبهة النصرة" وفصائل المعارضة التي انسحبت من الرقة، تاركة المحافظة لمصير دام، فسيطر التنظيم على كامل المحافظة في صيف ذاك العام إثر سيطرته على الفرقة 17، ومطار الطبقة العسكري، فدخلت المحافظة مرحلة جديدة طابعها العام التشدد الذي فرضه التنظيم، ما أدى الى خروج عدد كبير من المدنيين من الرقة.

ارتكب النظام مجازر في الرقة في عام 2014 بقصف جوي كثيف، حتى منتصف عام 2015، حيث بدأ التحالف الدولي عملياته، ثم تلاه أواخر ذاك العام، الطيران الروسي الذي ارتكب هو الآخر مجازر بحق المدنيين، ودمّر مرافق في المدينة.

حوّل التنظيم الرقة إلى معقل بارز له، فحاول تغيير هويتها المنفتحة والبسيطة إلى هوية متشددة مستخدما أشد أساليب القمع والتنكيل بحق معارضيه، وهو ما أدى الى خروج أغلب كوادر المحافظة ومثقفيها، فجفت منابع الحياة في محافظة كانت مهملة أيام حكم الأسدين اللذين حوّلاها إلى مجرد داعم للميزانية ليس أكثر، حيث تتميز الرقة بغناها بالثروة البترولية، فضلا عن أهميتها الزراعية حيث كانت من أهم السلال الغذائية في سورية.

 أكثر من ثلاث سنوات من سيطرة التنظيم، أنتجت جيلاً أمياً، حيث أغلق التنظيم المدارس محاولا نشر ثقافة "الجهاد"، محاربا أي محاولة لإعادة فتح المراكز التعليمية. كما عانت المحافظة من نسبة بطالة عالية، وهو ما أدى إلى خروج أغلب الشباب منها بحثا عن الرزق داخل سورية وخارجها.

ولكن انتهاء وجود تنظيم "داعش" في الرقة وريفها فتح باباً آخر ربما يبدو مجهولاً حول مستقبل هذه المحافظة ذات الأغلبية العربية المطلقة، حيث تبدي فعاليات المحافظة المدنية والسياسية مخاوفها من محاولة الوحدات الكردية فرض ثقافة جديدة متناقضة تماما مع ثقافة أهل الرقة، مشيرة إلى أن القضاء على مسلحي التنظيم لا يعني بالضرورة انتهاء المأساة.

 ويؤكد مراقبون أن الرقة ربما تنتقل من تشدد إلى تشدد آخر لا يقل خطورة عن سابقه، وخاصة أن الوحدات الكردية تحاول تعميم عقيدة حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان في المناطق التي تسيطر عليها، مستغلة الحاجة المادية الملحة لأغلب سكان هذه المناطق، وبات هذا الأمر جليا في مدن وبلدات تتبع للرقة مثل الطبقة، وتل أبيض والمنصورة.

 ورغم أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يتخذ من وحدات الحماية ذراعا عسكريا له، لم يعلن حتى اللحظة ضم الرقة إلى مناطق "الإدارة الذاتية" التي يديرها في شمال وشمال شرقي سورية، إلا أنه خلق مجلسا محليا مرتبطا به لا يحظى بثقة الشارع الرقي، الذي لا يثق أيضا بمجلس مماثل يتبع للمعارضة السورية، وهو ما يعد بمثابة معضلة كبرى سوف تؤخر حسم مستقبل المحافظة التي تتطلع واشنطن إلى أن تكون منطقة نفوذ لها.

 وتحاول واشنطن دمج المجلسين لإدارة المحافظة بعد انتزاع السيطرة عليها، ولكن حجم الخراب في المدينة لن يساعد في استقرارها في المدى المنظور، وعودة أهلها المنتشرين في سورية وتركيا.

وتعد محافظة الرقة رابع المحافظات السورية الأربع عشرة من حيث المساحة بعد محافظات حمص ودير الزور والحسكة، وتبلغ مساحتها نحو 20 ألف كيلومتر مربع أي ما يعادل أكثر من 10% من مساحة سورية، وتمتد على مساحة أكثر من 150 كيلومترا من الغرب للشرق، وعلى مساحة 200 كيلومتر من الشمال إلى الجنوب، حيث تصل حدودها إلى قلب بادية الشام. 



فيما تمتد مدينة الرقة مركز المحافظة على مسافة تقدر بنحو 8 كيلومترات من الشرق للغرب، و4 كيلومترات من الجنوب الى الشمال، وتضم أكثر من عشرين حيا، و"حارة" تنسب لعائلات تقطنها، دمّر طيران التحالف الدولي أغلب هذه الأحياء والحارات لتمهيد الطريق أمام قوات "سوريا الديمقراطية"، ذراعه البرية في سورية.

وتتميز الرقة بالطابع القبلي، حيث ينتسب أهلها إلى قبائل عربية عريقة، كقبيلة الجبور، والبوشعبان، والدليم، وغيرها، والتي يتفرع عنها عشرات العشائر المنتشرة على طول نهر الفرات بضفتيه، وفي البادية التي يتبع جزء منها للرقة.

 ويفتخر أهل الرقة بتاريخها، حيث دارت بالقرب منها معركة صفين الشهيرة، ودفن فيها الصحابي عمار بن ياسر، والتابعي أويس القرني، وإلى الغرب منها رصافة هشام بن عبد الملك أشهر خلفاء بني أمية، كما كانت المصيف الأثير لدى الخليفة العباسي هارون الرشيد، وتعرف باسمه.

خرجت الرقة من تجربة تنظيم "داعش" المريرة، وهي أطلال مدينة دفنت عائلات بأكملها تحت أبنية مهدمة فيها "توحي إلى جيل الغد البغضاء"، كما بات من بقي من أهل الرقة إما نازحا في مخيمات البؤس أو لاجئا في بلدان الجوار، وأوروبا، فقد دفعوا الفاتورة الأقسى في صراع فُرض عليهم فرضا، وانتهى بالخراب الكبير.