جريمة كردفان تهدّد التفاوض مع العسكر... وتجدِّد دماء الانتفاضة

جريمة كردفان تهدّد التفاوض مع العسكر... وتجدِّد دماء الانتفاضة

30 يوليو 2019
خلال تظاهرة بالخرطوم السبت الماضي (أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -
فجّر مقتل سبعة متظاهرين سودانيين بحسب الحصيلة الأولية، وإصابة عشرات آخرين في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان، أمس الإثنين، على يد قوات تابعة للجيش والدعم السريع التابعة لنائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، غضباً وسخطاً واسعين في الشارع السوداني، المحتقن أصلاً بسبب النتائج المخيبة للآمال لتقرير لجنة التحقيق الحكومية حول مجزرة فض اعتصام محيط قيادة الجيش في الخرطوم، في 3 يونيو/حزيران الماضي. وأعادت المجزرة الجديدة، التي تأتي في وقت يواجه "حميدتي" ضغوطاً بسبب الاستياء الواسع من أدائه داخل الجيش وبسبب دوره في مجزرة فض اعتصام الخرطوم،  التساؤل عن مغزى المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى "إعلان الحرية والتغيير" المعارضة، والتي كان من المقرر أن تُستأنف اليوم الثلاثاء، لبحث موضوع الوثيقة الدستورية التي ستحكم البلاد خلال الفترة الانتقالية، من دون أن يحسم مصير الجلسة التفاوضية وإن كان موقف المعارضة من مجزرة أمس حمل إشارات كافية إلى أنها لن تُعقد على الأرجح. وحملت المعارضة المجلس العسكري المسؤولية عن المجزرة، داعية إلى خروج تظاهرات تنديداً بالمجزرة وللمطالبة بتقديم الجناة للعدالة ونقل مقاليد الحكم إلى سلطة مدنية، وسحب قوات الجيش من الشوارع.

تفاصيل المجزرة

وخرج طلاب المدارس الثانوية في مدينة الأبيض في ولاية شمال كردفان أمس الإثنين في تظاهرات سلمية، احتجاجاً على ندرة الخبز ووسائل النقل وشح المياه نتيجة ضعف الإمداد المائي، بالإضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي، وقبل ذلك للمطالبة بسقوط المجلس العسكري وتشكيل السلطة المدنية. غير أن مواكب المحتجين قوبلت، حسب شهود عيان، بوابل من الرصاص، ما أدى، حسب لجنة أطباء السودان المركزية، إلى سقوط ستة قتلى، أربعة منهم من الطلاب، إثر تعرضهم لإصابات مباشرة برصاص قناصة، بعد خروجهم في موكب الثانويات السلمي. كما أصيب نحو 39 آخرين، إصابة 4 منهم حرجة، توفي واحد منهم لاحقاً متأثراً بإصابته ليرتفع عدد القتلى إلى 7. وعلى الفور، ساد التوتر مدينة الأبيض طوال نهار أمس، حيث أضرم المحتجون، عقب سقوط القتلى والجرحى، النار بمبنى أحد البنوك اعتقاداً منهم بأن القناصة أطلقوا الرصاص على المتظاهرين من على سطح البنك، فيما شيع الأهالي جثامين ضحاياهم في مواكب حاشدة. وأظهرت تسجيلات مصورة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي التلاميذ يتظاهرون خارج مستشفى الأبيض الرئيسي احتجاجاً على سقوط قتلى وجرحى. وفي اللقطات المصورة، ردد مئات المراهقين، الذين يرتدون الزي المدرسي، هتافات منها "الدم قصاد الدم" و"لن نقبل الدية".

وبحسب شهود عيان، فإن وحدات من الجيش السوداني انتشرت في شوارع الأبيض لحفظ الأمن ومنع انزلاق المدينة نحو الفوضى، فيما تم سحب قوات الدعم السريع منها. وأعلن حاكم ولاية شمال كردفان اللواء الركن الصادق الطيب عبد الله، في بيان، فرض حظر تجوّل ليليّ في الأُبيض وثلاث مدن أخرى. وقرر "حظر التجول بمدن الولاية الأٌبيض وأم روابة والرهد ابو دكنة وبارا اعتباراً من الإثنين (أمس) بين التاسعة مساء والسادسة صباحاً حتى إشعار آخر". كما قررت لجنة أمن الولاية تعليق الدراسة بجميع مدارس الولاية "حفاظاً على أرواح الطلاب والمواطنين".



وانسحب التوتر على مناطق أخرى في السودان، إذ خرجت تظاهرات في مدينة بحري في الخرطوم. وقال شهود عيان، لوكالة "الأناضول"، إن "متظاهرين أغلقوا الطرقات الرئيسية بالمتاريس في مدينة بحري، وأضرموا النار في إطارات السيارات".

وتُعد مدينة الأبيض واحدة من مدن الحراك الثوري الذي أطاح في إبريل/نيسان الماضي بنظام الرئيس عمر البشير. وتمتد جذور محمد ناجي الأصم، القيادي الأبرز في "تجمع المهنيين السودانيين" المعارض، إلى المدينة التي تعلم فيها في كل مراحله الدراسية فضلاً عن دراسته في كلية الطب بجامعة غرب كردفان.

وعلى الرغم من التقارب بين المجلس العسكري وقوى "إعلان الحرية والتغيير" المعارضة، إلا أن حوادث اعتراض المواكب والتظاهرات السلمية لم تتوقف، ما أدى إلى سقوط مزيد من القتلى، إضافة للعشرات من القتلى الذين سقطوا منذ بدء الاحتجاجات في ديسمبر/كانون الأول الماضي. وسبقت حادثة الأبيض بيوم إصابة عدد من المحتجين إصابات خطيرة أثناء تفريق القوات الأمنية لوقفة احتجاجية الأحد الماضي، أمام مقر "تجمع المهنيين السودانيين" في منطقة بري شرق الخرطوم. وقبلها بيوم سيرت "لجان المقاومة" في منطقة الحاج يوسف موكباً دعماً للاعب في فريق المريخ والمنتخب السوداني سيف تيري الموقوف على ذمة احتجاجات سابقة، إلا أن الموكب تعرض للقمع العنيف ومُنع من الوصول إلى وجهته النهائية.

ويثير تكرار الاعتداءات على المواكب السلمية جدلاً مستمراً يمتد إلى السؤال عن جدوى المفاوضات مع المجلس العسكري، والتي كان مقرراً أن تبدأ اليوم الثلاثاء الجلسات المباشرة بين المجلس العسكري وقوى "إعلان الحرية والتغيير" حول موضوع الوثيقة الدستورية التي تحكم البلاد خلال الفترة الانتقالية بعد توقف دام نحو أسبوعين بعد أن انتهت آخر جلسة، بالتوقيع على اتفاق سياسي حول ترتيبات الفترة الانتقالية. ولا يزال مصير جلسة اليوم غير محسوم بعدما اتهمت قوى "إعلان الحرية والتغيير"، في بيان، "قوات تابعة للجيش والدعم السريع بإطلاق الرصاص بلا وازع أو رادع وبكثافة على تظاهرات سلمية لتلاميذ المدارس الثانوية بمدينة الأبيض". واعتبر البيان أن "تلك الوحشية جاءت رداً على تظاهرات سلمية تطالب بأبسط مقومات حياتهم اليومية التي تتعلق بحضورهم للمدارس من مواصلات ورغيف خبز". وأشارت إلى أنه و"خلال حكم المجلس العسكري، وأثناء استمرار العملية السياسية بغرض نقل السلطة إلى سلطة مدنية انتقالية، استمرت عمليات القتل وإزهاق الأرواح بكافة مدن السودان من قوات واقعة تحت قيادة ومسؤولية المجلس العسكري، ويتحمل المجلس العسكري المسؤولية الكاملة عن إزهاق أرواح الشهداء بمدينة الأبيض". وأعلنت "تمسكها بالحق في التظاهر والتجمع والاعتصام والتمسك بمحاسبة كافة المسؤولين عن تلك الجرائم ومحاكمتهم محاكمة عادلة، أمام قضاء قادر مستقل ومؤهل وليس أمام قضاء ونيابة النظام الذي ورثه المجلس العسكري ويستثمره لمواصلة الإفلات من العقاب". ودعا البيان "كل الثوار في العاصمة والأقاليم للخروج إلى الشوارع في كل مكان وتسيير المواكب من أجل المطالب الثورية بنقل السلطة إلى المدنيين فوراً، لإقامة الحكم الانتقالي الذي سيقتص من كل الجناة ويؤسس دولة العدالة والسلام"، مشدداً على "ضرورة إنهاء المظاهر المسلحة من كل المدن والقرى والبلدات، وضمان حماية المواكب والتظاهرات كحق مدني أصيل، والكف عن التستر على المجرمين ومرتكبي الجرائم بحق الشعب".

من جهته، اعتبر حزب المؤتمر السوداني، في بيان، أن "استمرار استباحة دماء وأرواح السودانيين والسودانيات، وقمع مظاهر التعبير السلمي الديمقراطي يضع البلاد برمتها على حافة الانهيار، وهو هدف تسعى إليه جهات عديدة، تظن وهماً بأنها قادرة على هزيمة ثورة شعبنا المجيدة". وأضاف "نؤكد أن المجلس العسكري والأجهزة الأمنية تقع عليها مسؤولية هذه الدماء التي تسفك جوراً، وأن كل يوم تمر به البلاد وهي تعيش حالة الفراغ الدستوري يجلب المزيد من المآسي والكوارث التي تقع على كاهل الأبرياء من بنات وأبناء شعبنا، فهذه الجرائم لن تتوقف ما لم تُنقل السلطة فوراً إلى سلطة مدنية انتقالية تُعبر عن قوى الثورة، وتتولى مهمة حماية الناس وحقوقهم ورعاية أمور حياتهم، ومحاسبة المجرمين عن كل ما اقترفت أيديهم في حق الأبرياء من بنات وأبناء شعبنا".

وكان القيادي في حركة الاحتجاج بابكر فيصل أعلن، أول من أمس الأحد، أنّ مباحثات اليوم الثلاثاء ستتناول "الحصانة المطلقة" التي يطالب بها جنرالات الجيش و"صلاحيات المجلس السيادي" المشترك و"مظاهر الانتشار العسكري" في مختلف مدن البلاد. ويتألف المجلس السيادي من 11 عضواً، 6 مدنيين بينهم 5 من "الحرية والتغيير" و5 عسكريين. وينص الاتفاق الجديد على أن يترأس العسكريون أولاً الهيئة الانتقالية لـ21 شهراً، على أن تنتقل الرئاسة إلى المدنيين لـ18 شهراً.

وقال القيادي في قوى "إعلان الحرية والتغيير" شريف محمد عثمان إن "ما حدث في مدينة الأبيض يُمثل جريمة بشعة ضد أطفال قُصر، يتحمل المجلس العسكري الانتقالي مسؤوليتها كاملة، بغض النظر عن الجهة التي أطلقت الرصاص، سواء قوات مُنظمة أو مليشيات غير منظمة". وأوضح عثمان، لـ"العربي الجديد"، أن "المجلس العسكري الانتقالي فشل تماماً في حماية المدنيين عامة والمتظاهرين السلميين خصوصاً"، مؤكداً أن "الحادثة ستكون ضمن الملفات التي تتولاها لجنة وطنية مستقلة، ينتظر تشكيلها بعد تكوين الحكومة المدنية". ولم يستبعد القيادي في "الحرية والتغيير" تورط طرف ثالث في واقعة الأبيض بهدف قطع الطريق أمام الاتفاق المتوقع بين قوى "إعلان الحرية والتغيير" والمجلس العسكري، لكنه أكد أن "مثل تلك الفرضيات ينبغي ألا تعفي المجلس العسكري من المسؤولية، لسماحه بالانتشار الكثيف للقوات النظامية في المدن وشوارعها وانتشار السلاح والتلكؤ في اتخاذ إجراءات عملية وواقعية تجاه مليشيات النظام السابق".

من جهته، رأى الصحافي المقيم في مدينة الأبيض الرشيد يوسف أنه ستكون للحادثة انعكاسات سلبية في المدينة بسبب الخسائر الفادحة، والتي شملت طلاباً وتلاميذ لا ذنب لهم غير خروجهم للتعبير عن احتجاجهم على ندرة الخبز وشح المياه، مشيراً إلى أن "المسيرة الطلابية كانت في غاية السلمية، ولم تهدد الأمن بأي حال من الأحوال حتى يتم التعرض لها بهذه الطريقة البشعة وغير الحكيمة". وتوقع يوسف، في اتصال هاتفي، مع "العربي الجديد"، أن تؤدي الحادثة إلى مطالبة الأهالي بالحد من الانتشار العسكري في المدينة على غرار ما فعلوا في العام 2014 حين ضغطوا على السلطة المحلية لإبعاد قوات الدعم السريع من ولاية شمال كردفان مباشرة بعد مقتل امرأة في المدينة.

المساهمون