أوروبا تستبق القرصنة الروسية الانتخابية: استنفار سياسي وإلكتروني

أوروبا تستبق القرصنة الروسية الانتخابية: استنفار سياسي وإلكتروني

18 يناير 2017
سيكون بوتين مستفيداً لو ضعفت ميركل في الانتخابات(إيمانويل كونتيني/Getty)
+ الخط -
تبدو دول أوروبية عديدة، خصوصاً غربية وإسكندنافية، وكأنها تعيش "صحوة أمنية" استباقية ضد حرب إلكترونية روسية محتملة ضدها، على غرار ما حصل مع التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عبر القرصنة. التأثير على نتائج الانتخابات العامة المقررة في عدد من الدول الأوروبية يبقى الخشية الأكبر بدءاً من ألمانيا وفرنسا والسويد والدنمارك وهولندا وبلجيكا وتشيكيا. والعامل المشترك بين هذه "الصحوات" الإلكترونية الأمنية والسياسية، هو تشكيل لجان وأجهزة استخبارات جديدة تجمع ما بينها ضرورة وجود استراتيجية دفاعية حاسوبية ضد روسيا.

استهداف القرصنة للأنشطة والاتصالات والمراسلات السياسية، تدفع الألمان إلى الاشتباه بأن روسيا، برئاسة فلاديمير بوتين، هي من ينظم ضد بلادهم هجمات إلكترونية تهدف إلى التأثير على الرأي العام الألماني في الانتخابات التشريعية المقبلة. والاشتباه يتحول إلى اتهام سياسي مباشر، تحت حجة أن بوتين متضرر من أداء وسياسة المستشارة أنجيلا ميركل، وتصديها لسياسة الكرملين الخارجية. وسيكون بوتين مستفيداً لو ضعفت ميركل، في الانتخابات التشريعية المقبلة، علّ ذلك يحول دون فوزها بولاية رابعة كمستشارة ألمانية.

وتحول موضوع "القرصنة الإلكترونية"، أو "الهجمات الإلكترونية الروسية"، إلى حديث الساعة لدى الأوساط الألمانية. ويتفق الناشط في الحزب الاجتماعي الديمقراطي، يورغن شميت، والناشطة في "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" آنا كوهل، في حديث لـ"العربي الجديد"، على وجود مخاوف جدية لدى الألمان من "التغلغل الروسي عبر القرصنة" قبل أشهر من الانتخابات.

لهذه المخاوف دوافع سياسية، ذلك أن جيل الشباب الألماني يخشى على "الإنجازات السياسية" التي تحققت منذ نجاح المستشار هيلموت كول، بتوحيد ألمانيا، بين شرق وغرب. ويخشون على المعادلة السياسية الداخلية التي كرستها المستشارة ميركل من خلال انفتاحها على التعاون مع الحزب الاجتماعي الديمقراطي، وعلى نجاحها في توفير ظروف اقتصادية وسياسية وضعت ألمانيا في ريادة الاتحاد الأوروبي. وهذه الإنجازات ستكون مهددة، في نظر ناشطين ألمان، إذا نجح الرئيس الروسي بالتدخل في الانتخابات، عبر القرصنة، وكذلك عبر العلاقة بشخصيات وأحزاب سياسية ألمانية.


ويقول الناشط السياسي المعارض لميركل، توبياس كرانسكي، المنتمي إلى حزب "البديل" اليميني المتطرف، إنه يأمل "بتغيير جذري يعيد لألمانيا ما خسرته بعدما أولت اهتماماً أكبر لمسائل الاتحاد الأوروبي على حساب مصالحنا الوطنية"، وفق تعبيره. كرانسكي، المتحدر من أصول بولندية - ألمانية، ليس قلقاً من التدخل الروسي، كونه يعتبر أنه "يجب أن تكون لألمانيا علاقات مميزة مع روسيا". ويلفت إلى أن "الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، يريد إصلاح العلاقة مع موسكو"، ويعرب عن اعتقاده بالتالي بأنه "يجب أن تقيم (ألمانيا والغرب) تحالفاً مع روسيا وسط كثير من الأزمات التي يواجها الغرب"، بحسب تعبيره.

وتأتي تقارير الاستخبارات الألمانية، في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لتؤكد مخاوف الألمان من تدخلات روسيا. وتقول الناشطة آنا كوهل، والتي هي أيضاً خبيرة في مجال الاتصالات، أن فرص التدخل الروسي في الانتخابات الألمانية، "قائمة وممكنة". ورداً على سؤال حول "ماذا سيستفيد الروس من ذلك؟"، يجيب زميلها في حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، فليمنغ وولفانغ، بأنه "إذا استطاعت روسيا التأثير، من الآن وحتى الانتخابات، فهي ستكسب الكثير في جذب أحزاب وتيارات نحو السلطة ممن هم على علاقة جيدة ووثيقة بالكرملين، بل وتعتبر موالية أكثر لروسيا"، مضيفاً أن اللعبة الأخطر ستكون من خلال "اللعب على وتر شرق ألمانيا".

وتكشف السلطات الرسمية الألمانية، شأنها شأن حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، عن تعرض ألمانيا لهجمات إلكترونية ومحاولات قرصنة ودخول إلى الأنظمة المعلوماتية تابعة لمؤسسات رسمية وحزبية. ويحذر مدير الاستخبارات (أو ما يسمى جهاز حماية الدستور)، غيورغ ماسن، من استثمار القرصنة الروسية للتأثير على الانتخابات الألمانية، ويعتبر ذلك كـ"تهديد حقيقي للأمن في ألمانيا". وكانت الاستخبارات الأميركية حذرت الألمان من هجمات إلكترونية مماثلة لما حصل في الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي نظر الألمان، هناك إثبات فعلي على كل ذلك، يتمثل في تسريب أكثر من ألفي وثيقة سرية برلمانية، عبر "ويكيليكس"، من خلال هجمات إلكترونية ضد الأنظمة المعلوماتية للبرلمان الألماني. ويعتقدون في هذا الصدد، كما يقول وولفانغ، أن "لا أحد له مصلحة في المسألة سوى بوتين".

استثمار روسي في المستقبل
وعن أهداف القرصنة الإلكترونية الروسية المحتملة ضد ألمانيا خصوصاً، وأوروبا عموماً، تعتقد كوهل أن ألمانيا كانت في مقدمة الدول التي فرضت عقوبات على موسكو، خصوصاً بعد الأزمة الأوكرانية. أغلب الظن، لدى الأوساط الألمانية، أن "الهدف الروسي هو إضعاف فرص نجاح ميركل في الفوز (بولاية رابعة)، أو على الأقل تقييدها بتقدم اليمين الموالي لموسكو".

وتشعر الدول المحيطة بألمانيا أيضاً بحجم التهديد الروسي في القرصنة والتأثير. ويقول الباحث الدنماركي في الشؤون الأوروبية، جون برامسن، لـ"العربي الجديد"، إن "استماتة بوتين باتباع سياسة أمنية وقرصنة وتأثير، من خلال استعراض كل وسائل القوة الدبلوماسية والعسكرية والأمنية، تثير مخاوف دول كثيرة في شمال أوروبا". ويضيف أن "المسألة هي وجود نهج شبه إمبريالي، باتباع سياسة التفرقة والتقسيم. فألمانيا قوة أساسية وديناميكية في الاتحاد الأوروبي، وبوتين لن يذرف ولا حتى دموع تماسيح إذا ما رأى الاتحاد الأوروبي يتفكك". ويتابع أن "ميركل شكلت العقدة القوية في حبال العقوبات وفرملة أحلام بوتين، منذ عام 2014، لذا وفي حال خسارتها، يحقق عدداً من الأهداف دفعة واحدة، تتجاوز حدود ألمانيا، بإضعاف أوروبا عبر قوى محلية"، وفق تعبير الباحث الدنماركي.

في دول شمال أوروبا، يطلق على القراصنة الروس اسم "عصابة دببة الهاكر (Hacker)". ولا يستخف الباحث في مجال "التجسس الإلكتروني"، من "أكاديمية الدفاع" في كوبنهاغن، العقيد ميكل ستورم ينسن، بقدرات روسيا. ويقول إنها "قادرة على التأثير في اللعبة الديمقراطية وانتخاباتنا المقبلة إذا لم يجر سد الثغرات". وعلى الرغم من اعترافه بأن بلاده، الدنمارك، ليست قوة كبيرة إلا أن "للروس مصالح أيضاً في الدول الصغيرة إذا ما ربطنا خيوط الموضوع، من (حلف شمال الأطلسي) إلى الاتحاد الأوروبي ومكانة أوروبا في العالم والرغبة الروسية في أن تكون مسيطرة". ويقول الباحث في الدراسات العسكرية، كريستيان كريستنسن، إن "الغرب مارس عمليات تجسس معلوماتية سابقاً، لكن سنة 2016 كانت سنة العدوانية الروسية الأبرز في هذا المجال بينما كان الغرب متفرجاً سلبياً". وعلى الرغم من أن تسريبات سابقة أشارت إلى تجسس الأميركيين حتى على ميركل، إلا أن كريستنسن يرى فرقاً بين الطريقتين الغربية والروسية. وعن هذا الموضوع، يقول إن "الروس في القرصنة والتجسس على الشخصيات والأحزاب يقومون بتسريب المعلومات للعامة لضرب المصالح الغربية والتأثير على الناخبين، بينما الطريقة الغربية تبقى في إطار مختلف يفيد في وضع استراتيجيات وخطط قد تكون أمنية واقتصادية".


ولا يمكن عزل عمليات "القرصنة الإلكترونية الروسية" عن الواقع السياسي الذي يحدد اليوم طبيعة العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي. ولا يتعلق الأمر بتباينات يمكن إدارتها واحتوائها، بل بصراع نفوذ يأخذ مع أسلوب ومزاجية بوتين طابعاً عدوانياً، ما أدى إلى فرض عقوبات متبادلة، وإلى تأهب عسكري من قبل كلا الطرفين، ويعيد إلى الأذهان سيناريو الحرب الباردة. وإذا كانت القرصنة الإلكترونية تهدف إلى "تدمير منهجي لإيمان المواطن الغربي بالديمقراطية وانهيار الثقة بمؤسساته"، كما يقول الخبير اليوناني في الشؤون الروسية، أنطونيس كلابسيس، فإن "بوتين يستخدم الأحزاب اليمينية المتطرفة لإضعاف الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ويذهب لتعزيز أجندته الخاصة في أوروبا". ويلفت إلى أن "لبوتين أيضاً أحصنة طروادة غربية ممثلة بحركات وأحزاب يمين متطرف تحقق له أهدافه من الداخل". ويتابع أن "بوتين يكره الليبرالية، وهو ملتصق بالفكر القومي المتشدد، ويعبر عن فكر اجتماعي محافظ، ويدافع وبقوة عن تقاليد وقيم مسيحية، وهي إذاً بالضبط ما تتوافق وخطاب تلك الأحزاب التي نعرفها متحالفة معه في الغرب"، بحسب كلابسيس.

في هذا السياق، يشعر اليسار الأوروبي "بأن صداماً مع الفاشية سيقع"، وفقاً لتعبير الناشط الألماني اليساري، جوني مكنام، في حديث لـ"العربي الجديد"، من مدينة هامبورغ (شمال ألمانيا). ويرى أن "قوى اجتماعية وسياسية غربية تدرك أكثر بأن المؤسسات القائمة، إنْ لم تسد ثغرة تقدم الفاشيين بدعم روسي، هناك بالتالي خشية من أن تأخذ المسألة أبعاداً أخرى، نحن بغنى عنها"، وفق تعبيره. وهنا يشير مكنام إلى أن "هذه العلنية في تحالف بوتين مع حركة منبثقة عن النازيين، كالحزب الوطني الديمقراطي، ليس فيها ما يؤشر إلى خير في مستقبل العلاقات السياسية الداخلية في ألمانيا، ولا غيرها من الدول".

في الجهة الأوروبية الغربية المقابلة، لا تقل المخاوف الفرنسية عن تلك الموجودة عند الألمان والإسكندنافيين. في هذا الصدد، يعتبر وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، أن بلاده "لها الحق بالرد بكل الوسائل التي نراها مناسبة". ويتساءل الوزير نفسه عما "إذا كانت فرنسا مجهزة بما فيه الكفاية لمواجهة القرصنة الروسية بمهنية عالية قبل أربعة أشهر من الانتخابات"، وفقاً لكلامه لصحيفة لو "جورنال دو ديمانش" الفرنسية. وفي عام 2016 وحده، سجلت السلطات الفرنسية المختصة بمكافحة القرصنة، 24 ألف هجمة افتراضية، "بضع مئات منها كان يمكن أن يكون ضررها فادحاً، لأنها استهدفت وزارات وأهداف استراتيجية كان يمكن أن تساهم بعمليات تجسس كبرى، وكان نظام الطائرات من دون طيار على رأس قائمة الهاكر"، وفقاً للوزير لودريان. وتتوقع وزارة الدفاع الفرنسية أنه "بحلول 2019 سيكون هناك 2600 محارب فرنسي ضد القرصنة بمساعدة 600 من الخبراء، مع توقع زيادة في هجمات تسلل الهاكر". وقد يشهد العام الحالي 2017 انطلاقة لمحطة إخبارية تلفزيونية روسية تبث باللغة الفرنسية على مدار الساعة. وفي هولندا، لا تبدو مشاعر القلق أقل مما هي عليه في بقية دول القارة من التصرفات الروسية. فأمستردام تدق ناقوس الخطر مثلها مثل الدول التي ستشهد انتخابات قريباً. فقبل شهرين من موعد الانتخابات البرلمانية الهولندية، قال وزير الخارجية بيرت كونديرس، يوم الخميس الماضي، في لقاء مع محطة "نوس"، إنه "على الحكومة أن تكون يقظة لاحتمال تعرضنا لهجمات قرصنة قبيل الانتخابات في 15 مارس/ آذار". 

في جمهورية تشيكيا أيضاً، أصبحت للحكومة "وحدة خاصة" لصد هجمات موسكو الإلكترونية والدعائية. فوفقاً لخبراء، فإن موسكو ومن خلال 40 صفحة متخصصة بلغات مختلفة، تحاول بث مواقف متشددة و"نظريات مؤامرة" ومعلومات غير صحيحة من أجل كسر التأييد الشعبي لتوجهات الحكومة غرباً، قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. كذلك الحال في السويد، بسبب تاريخ من "التحرش" العسكري والإلكتروني، مع أكثر من 100 ألف هجمة إلكترونية عام 2016. وبناءً عليه، يعقد رئيس الحكومة، ستيفان لوفين، قريباً، "مؤتمر دفاع وطني" خاصاً بمخاطر القرصنة.

في المحصلة، "على الغرب أن يختار بين الكرملين أو الفوضى"، بحسب تقدير الخبير في الشأن الروسي، توماس الكيير نيسين، كما نقلت عنه صحيفة "أنفارمسيون" في عددها الصادر يوم 7 يناير/ كانون الثاني 2017. فهل تتجه ألمانيا والدول الأوروبية لاعتماد سياسة "تقارب" مع روسيا، كثمن ستضطر لدفعه من أجل تجنب "الفوضى"، أم أنها ستتمكن من احتواء التدخلات الروسية؟