لبنان: بدعة الحكومة الموسعة والمحاصصة

لبنان: بدعة الحكومة الموسعة والمحاصصة

18 ديسمبر 2018
عون والحريري وراء فكرة حكومة من 18 وزيراً(حسين بيضون)
+ الخط -

ينقل اللبنانيون، عن طريق التندّر، مقارنات بين لبنان وبعض الدول الأخرى حول موضوع عدد أعضاء الحكومة اللبنانية. يقولون إن أكبر دول العالم لا تتعدى حكوماتها العشرين وزيراً، فيما لبنان بمساحته الصغيرة وعدد سكانه القليل تؤلف فيه حكومات من 30 وزيراً. تنطلق هذه المقارنات لتبيان الوضع في البلد الذي يسود فيه منطق المحاصصة الطائفية، بوصف ذلك أولوية تتجاوز حتى الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، في بلد يقال إنه يعاني من أزمة حقيقية تنذر بالانهيار، باعتراف قادة البلد.

بعد انتهاء الانتخابات النيابية قبل 8 أشهر، وشروع رئيس الحكومة المكلف، سعد الحريري، في تأليف حكومته الثلاثينية، وصلت إلى لبنان رسائل دولية تعبّر عن الاستياء من السياسات اللبنانية، خصوصاً لجهة عدد أعضاء الحكومة المقبلة، بوصفها رسالة سلبية للمجتمع الدولي، الذي وعد في مؤتمر "سيدر" بتقديم قروض لمساعدة لبنان، والنهوض به من أزمته الاقتصادية الحالية. الرسائل الدولية هذه، وفق معلومات "العربي الجديد"، أشارت إلى أن التزام لبنان بإصلاحات إدارية، وبمحاربة الفساد، يتعارض شكلاً مع مساعي تأليف حكومة ثلاثينية تؤدي عملياً إلى إلقاء تبعات مالية إضافية على الخزينة، خصوصاً أن رواتب المسؤولين في لبنان تُعتبر من الأعلى حول العالم، إضافة إلى أن الحكومة الموسعة تُدرج في خانة استمرار لبنان في سياساته السابقة المنطلقة من المحاصصة وليس من أولويات الإدارة ومحاربة الفساد.
الرد اللبناني على هذه الرسائل تمحور حول الحديث عن خصوصية الواقع اللبناني، وضرورة إشراك الجميع في حكومة "وحدة وطنية" يتطلبها البلد في هذه المرحلة الدقيقة، من أجل إقرار القوانين المتعلقة بـ"سيدر"، إضافة إلى التأكيد على استتباب الأمن والاستقرار الضروريين في أي خطة نهوض اقتصادي.

بغضّ النظر عما إذا كانت هذه المسوغات قد أقنعت المجتمع الدولي، أو بالأحرى من حاجج لبنان، فقد تقدّم، في الأسبوع الماضي، خيار تقليص عدد وزراء الحكومة، في خطوة يقول العارفون إنها ليس لحلحلة العقدة السنّية التي استجدت في الفترة الأخيرة، بقدر ما هي محاولة لإنتاج حكومة تعطي انطباعاً للمجتمع الدولي بأن لبنان، أو بالأحرى المسؤولين، جادون في وعودهم الإصلاحية.

ما طُرح في الأسبوع الأخير لجهة تأليف حكومة من 18 وزيراً يقف خلفه عملياً رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري. وفي شرح لخلفيات هذا الاقتراح، تقول مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" إنه لا يحل عملياً العقدة السنّية، خصوصاً أنه، وفق المنطق المحاصصاتي، يمكن لـ"حزب الله" أن يطلب تمثيل النواب السنّة الستة (التابعين لقوى 8 آذار) إضافة إلى النائب أسامة سعد، في حكومة من 18 وزيراً، بما أن أي مقعد وزاري في حكومة تضم هذا العدد، يتطلب أن يتمثّل كل 7 نواب بوزير.
ووفق ذلك، تتحدث المصادر عن أن الطرح مرتبط بـ"سيدر" أساساً وليس بالعقدة السنّية، التي يتطلب الالتفاف عليها حكومة مصغرة تضم فقط الكتل الأساسية الكبيرة الممثلة في البرلمان، وهو الطرح الذي يرفضه عموماً "حزب الله"، إذ يصر على الحكومة الموسعة وتمثيل أكبر عدد ممكن من الكتل النيابية، وهو الموقف الذي أبلغه لرئيس الجمهورية.

لكن على الهامش، ثمة أيضاً حسابات أخرى تؤكد أن ما طُرح ليس مدروساً، خصوصاً أن المحاصصة الطائفية في حكومة من 18 وزيراً ستؤدي إلى عقد جديدة، أبرزها عقدة درزية، بما أنه عادة يتمثل الدروز بعدد يوازي نصف ما يُمنح للطائفة السنّية أو الطائفة الشيعية، مثل أن يُمنح الدروز 3 وزراء في حكومة ثلاثينية، مقابل 6 وزراء للطائفة السنّية و6 للطائفة الشيعية. فيما حكومة من 18 وزيراً ستؤدي إلى أزمة حقيقية، ولا يمكن توزيع المقاعد الإسلامية الـ9 فيها بين السنّة والشيعة والدروز بعدالة، إلا عبر صيغة 4 لكل من السنّة والشيعة ومقعد وحيد للطائفة الدرزية، وهو ما لا يمكن أن تقبل به. الأكيد أن ما طُرح كان لجس النبض لجهة احتمال تخفيض عدد وزراء الحكومة، خصوصاً أن احتمال حكومة من 20 مقعداً تبدو فيه ثغرات أقل، لكنه أيضاً لن يلغي بروز عقد أخرى بسبب المحاصصة الطائفية.


في الأروقة السياسية التي تتحدث عن الحكومة المصغرة بغضّ النظر عن عدد وزرائها، يُستخدم تعبير حكومة "تقشف". عملياً، هذه ليست المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا التعبير في السياسة اللبنانية، ففي عام 1998 شكّل سليم الحص حكومة جاءت في ظل خلاف بين رئيس الجمهورية المنتخب آنذاك، إميل لحود، المدعوم سورياً، وبين رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. رفع الحص يومها شعار "التقشف"، فشكّل حكومة من 16 وزيراً فقط، في رد مبطّن على رفيق الحريري وسياساته الاقتصادية، وعلى حكوماته التي كان يشكّلها وتضم 30 وزيراً.

في السياق التاريخي، لم يعرف لبنان الحكومة الثلاثينية المضخّمة، إلا بعد توقيع اتفاق الطائف (عام 1989) واتباع سياسة العفو العام، فكان لا بد من إشراك جميع المليشيات في الحكم. ووفق هذا المنطق، شكّل عمر كرامي الحكومة الأولى في تاريخ لبنان من 30 وزيراً، وضمت في عدادها مثلاً رئيس حزب "القوات" سمير جعجع الذي استقال لاحقاً، ورئيس حركة "أمل" (رئيس البرلمان) نبيه بري، ورئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط. لاحقاً، اعتمد رفيق الحريري في كل حكوماته الصيغة ذاتها، محاولاً إشراك الجميع في سياسة كانت تهدف أساساً إلى محاولة خلق تأييد لبناني عام لسياساته الاقتصادية، وهو ما استغله الحص للتصويب على الحريري. ثم استمر الحال على ما هو عليه إلا في حالات استثنائية، مثل حكومة نجيب ميقاتي الانتقالية التي شُكّلت بعد اغتيال رفيق الحريري (عام 2005) من 14 وزيراً لإجراء الانتخابات النيابية، فيما فرض اتفاق الدوحة الذي وُقّع بعد أحداث 7 مايو/أيار من عام 2008، العودة إلى صيغة الحكومات الموسعة تحت شعار "الوحدة الوطنية".

شهد التاريخ اللبناني نماذج عدة لحكومات تراوحت فيها أعداد الوزراء. وفي جردة سريعة، يتبيّن أن أغلب حكومات ما بعد الاستقلال وما قبل اتفاق القاهرة الشهير، أي في المرحلة ما بين عامي 1943 و1970، لم يتجاوز عدد أعضاء الحكومة عتبة العشرة وزراء، وتراوحت بين 3 وزراء و10 كحد أقصى، إلا في 6 حالات فقط من أصل نحو 44 حكومة شُكّلت في تلك الفترة، لكنها لم تتجاوز عتبة الـ18 وزيراً. وبعد اتفاق القاهرة، قفز عدد الوزراء، على الرغم من أنه لم يتجاوز عتبة العشرين إلا مرتين، مع حكومة تقي الدين الصلح (عام 1973) في مرحلة حساسة قبيل اندلاع الحرب الأهلية، ومع شفيق الوزان بداية الثمانينيات في مرحلة استعار الحرب الأهلية، على الرغم من أن خيار الحكومات المصغرة بقي حاضراً أكثر من مرة.

لعل تمسّك "حزب الله" اليوم بالحكومة الموسعة وتوزير شخصيات درزية وسنّية من خارج الأحزاب المسيطرة في هذه الطوائف، يهدف بالدرجة الأولى إلى استمرار إمساكه ببعض أوراق القوة ضمن الطوائف الأخرى. ولعل هذا تحديداً، إضافة إلى المسوغات المتعلقة بالإصلاحات و"سيدر"، هو ما تأخذه بعض الجهات على عون والحريري، اللذين تأخراً، وفق هذه الجهات، في طرح صيغة الحكومة المصغرة. وبالتالي، بات التراجع عن الحكومة الثلاثينية يعني العودة إلى النقطة صفر، إضافة إلى رفض "حزب الله". لكن الأمر الإيجابي في عودة الحديث عن الحكومات المصغرة، أنها كسرت احتكارية الحكومات الموسعة، التي باتت وكأنها عُرف سياسي، لا يمكن التنازل عنه، من جملة الأعراف-البدع التي باتت تُطبق على الحياة السياسية اللبنانية.