بلطجة أميركية ضد المحكمة الجنائية: نحن وإسرائيل خط أحمر

بلطجة أميركية ضد المحكمة الجنائية: نحن وإسرائيل خط أحمر

12 سبتمبر 2018
قوات أميركية في أفغانستان (وكيل كوهسار/فرانس برس)
+ الخط -
لم يسبق أن وصلت العجرفة الأميركية إلى ما وصلت إليه في زمن الرئيس دونالد ترامب وإدارته وصقورها. عجرفة لا تتوقف مؤشراتها منذ 20 يناير/ كانون الثاني 2017، تاريخ تسلم الرجل منصبه بشعارات انعزالية ــ توسعية في آن واحد، ومعادية لكل ما يتصل بالعمل الجماعي متعدد الأطراف. شعارات من نوع "أميركا أولاً"، والأمم المتحدة مؤسسة بلا جدوى، والاتحاد الأوروبي فاشل يعبر عن أوروبا القديمة، والاتفاقيات الدولية بالية طالما ظلت لا تخدم المصلحة الأميركية التجارية المباشرة، تصل اليوم إلى محطة جديدة غير مسبوقة، وهي التصويب العنيف على أرفع منصة قانونية عالمية من المنطقي ألا تكون الولايات المتحدة موقعة على ميثاقها، هي المحكمة الجنائية الدولية، التي يتفرغ مستشار الأمن القومي جون بولتون، منذ أيام، لتهديدها بالعقوبات وبالشتائم، نيابة عن بلده وعن إسرائيل كالعادة، خشية قيام المحكمة، بشكل غير مسبوق أيضاً، بمحاسبة المسؤولين عن جرائم بلده، أميركا، في أفغانستان، وجرائم دولة الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. ولا تكتفي واشنطن بعدم التوقيع على قانون إنشاء المحكمة منذ 2012 بخلاف 121 دولة، إلى جانب الصين والهند وروسيا، بل ربما تكون الحملة التي يقودها ترامب حالياً ضدها، وضد وجودها أصلاً، مقدمة لمشروع ضغط أقرب إلى الترهيب، بهدف حلّها والتخلص من عبء وجودها، على الأقل بالنسبة لأميركا ولإسرائيل ولبقية حلفاء واشنطن ممن تتلطخ أيديهم يومياً بالدماء وبجرائم التعذيب والإبادة وكافة أشكال انتهاك حقوق الإنسان.

ونزعة احتقار المؤسسات الدولية، التابعة للأمم المتحدة أو تلك التي تعبر عن اتحادات حكومية إقليمية أميركية أو أوروبية أو آسيوية أو حتى أفريقية، متأصلة في سلوك ترامب ومواقفه، والأخطر أنها تحولت إلى سياسة ملموسة تترجَم بالانسحاب التدريجي من الاتفاقيات الدولية التي تتوخى "الخير الدولي العام"، بحسب مصطلحات القانون الدولي، من نوع اتفاقية المناخ (الموقعة في باريس)، بما أن "لا شيء اسمه تغير مناخي عالمي"، بحسب نظريات ترامب الموصوفة بالجهل من قبل المقربين منه قبل أن تصدر عن خصومه، كذلك من نوع شطب مئات ملايين الدولارات من المساعدات الأميركية التي تندرج في خانة "المساعدات الإنسانية"، والتي لم تبدأ ولن تتوقف مع وقف تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وعدد كبير من الوكالات الإنسانية. ولما كانت نزعة كره الأمم المتحدة، بما هي منظمة عالمية هدفها العريض تكريس المساواة في السيادة بين الدول وتسخير الإمكانات والدبلوماسية وأحياناً القوة العسكرية للحؤول دون اندلاع المزيد من الحروب العالمية، والحفاظ على نظام دولي متعدد الأقطاب، مبدأً مُسيِّراً في عمل إدارة ترامب، كان من الطبيعي أن يأتي ترامب، بالكاره الأكبر للأمم المتحدة، مندوب واشنطن السابق لديها، جون بولتون، ليسلمه أحد أهم المراكز في إدارته، أي قيادة مجلس الأمن القومي. بولتون، "المحافظ الجديد" الوحيد الآتي إلى إدارة ترامب من كنف المحافظين الجدد زمن جورج بوش الابن، معروف بنظرياته التي تحتقر الأمم المتحدة، وهي غير الموجودة أصلاً بالنسبة إليه، بما أنه "لا توجد أمم متحدة. هناك مجتمع دولي يمكن قيادته من وقت لآخر بالقوة الوحيدة الحقيقية المتبقية في العالم، وهي الولايات المتحدة، وذلك كلما تناسب هذا الدور مع المصالح الأميركية وكلما استطعنا جعل الآخرين يسيرون معنا".

ومنذ يومين، يكيل الرجل الشتائم والتهديدات للمحكمة الجنائية الدولية، "في حال لاحقت أميركيين أو إسرائيليين أو حلفاء للولايات المتحدة التي تعهدت باستخدام أي وسيلة ضرورية لحماية المواطنين الأميركيين والحلفاء من المثول للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية". وأضاف بولتون، أمام منظمة "فدراليست سوسايتي" المحافظة في واشنطن، مساء الاثنين، أن "المحكمة غير شرعية، وعلى أي حال المحكمة الجنائية الدولية ميتة بالنسبة لنا بالفعل". واعتبر أن "المحكمة تهدد الحقوق الدستورية للأميركيين والسيادة الأميركية".

وهددت الولايات المتحدة، بلغة بلطجة، بفرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العامين، في حال لاحقوا أميركيين أو إسرائيليين أو حلفاء آخرين للولايات المتحدة. وقال بولتون: "سنمنع هؤلاء القضاة والمدعين العامين من دخول الولايات المتحدة. سنستهدف أملاكهم بعقوبات في إطار النظام المالي الأميركي، وسنطلق ملاحقات بحقهم عبر نظامنا القضائي". واتهم بولتون المحكمة المكلفة بمحاكمة مرتكبي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بأنها "غير فعالة وغير مسؤولة وخطيرة".

وحذّر بولتون من فتح أي تحقيق بحق عسكريين أميركيين شاركوا في الحرب في أفغانستان. لكن ماذا وراء هذه الجنون في حملة الوعيد والتهديدات الأميركية ضد المنصة القضائية الأرفع في العالم؟ السبب ليس سوى قول المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إنها "ستطلب من القضاة السماح بفتح تحقيق حول جرائم حرب محتملة قد تكون ارتكبت في أفغانستان، خصوصاً من قبل الجيش الأميركي" منذ 2001.

وتابع بولتون "إن المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن تفتح بأي وقت تحقيقاً رسمياً بحق هؤلاء الوطنيين الأميركيين". وقال أيضاً "بيوم الاحتفال بذكرى الحادي عشر من سبتمبر"، ذكرى الاعتداءات التي ارتكبت عام 2001 ودفعت الولايات المتحدة إلى إرسال جيشها إلى أفغانستان، "أريد أن أوجه رسالة واضحة لا لبس فيها من قبل رئيس الولايات المتحدة: إن الولايات المتحدة ستستخدم كل الوسائل اللازمة لحماية مواطنينا ومواطني حلفائنا من ملاحقات ظالمة من قبل هذه المحكمة غير الشرعية". وتابع المسؤول الأميركي "المتوحش"، بحسب وصف صحيفة "واشنطن بوست" له: "لن نتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ولن نقدم إليها المساعدة، ولن ننتسب إليها. بالنسبة إلينا هي ماتت بالفعل". كما حذّر أيضاً من أي تحقيقات قد تقوم بها هذه المحكمة تستهدف إسرائيل بناء على طلب من السلطة الفلسطينية. وقال بهذا الإطار: "في حال استهدفتنا هذه المحكمة أو استهدفت إسرائيل أو حلفاء آخرين لنا، لن نقف مكتوفي الأيدي".

ولدى المحكمة ومقرها لاهاي، تفويض بمحاكمة المتهمين بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. أما الولايات المتحدة فرغم توقيع الرئيس بيل كلينتون على ميثاق روما الذي أسس المحكمة في 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 2000، أي قبيل نهاية ولايته الثانية، إلا أن الرئيس اللاحق، جورج دبليو بوش، رفض التوقيع، مشيراً إلى "مخاوف من محاكمة الأميركيين بشكل غير عادل لأسباب سياسية".

بدورها، ردت المحكمة الجنائية الدولية، أمس الثلاثاء، في بيان، على حملة بولتون،
وجزمت بأنها "ستواصل عملها من دون أن يردعها شيء". وأضافت أنها "مؤسسة مستقلة وحيادية تدعمها 123 دولة"، مشيرة إلى أن "المحكمة الجنائية الدولية، بصفتها ساحة قضاء، ستواصل عملها من دون أن يردعها شيء، تماشياً مع تلك المبادئ ومع فكرة حكم القانون الشاملة".

وكانت بنسودا قد توجّهت في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إلى القضاة، بطلب السماح ببدء تحقيق في ارتكاب جرائم في أفغانستان، بما فيها المرتكبة من قبل عسكريين أميركيين و"سي آي ايه". وذكرت في حينه أن "دراسة الأوضاع في أفغانستان توفر للادعاء العام أساساً كافياً للحديث عن ارتكاب أصناف عدة من الجرائم تدخل في اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ألا وهي: أولاً، جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبتها حركة طالبان وجماعات متصلة بها؛ ثانياً، جرائم حرب ارتكبتها قوات الأمن الأفغانية، وخاصة موظفي مديرية الأمن الوطني الأفغانية والشرطة الوطنية الأفغانية؛ ثالثاً، جرائم حرب مرتكبة من قبل أفراد القوات المسلحة الأميركية على أراضي أفغانستان، ومن قبل موظفي وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) في مراكز الاحتجاز السرية بأفغانستان وغيرها من البلدان التي هي أعضاء في نظام روما (الوثيقة المؤسسة لعمل المحكمة)". وأضافت بنسودا أن "الادعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية كان يجمع معلومات حول الأوضاع في أفغانستان منذ عام 2006".

وفي استعراضها لأسباب تجعل التحقيق ضرورياً، أشارت المدعية العامة إلى "عدم إجراء محاكمات في أفغانستان نفسها، من شأنها تحقيق العدالة في حق الأشخاص الذين يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية عن ارتكاب الجرائم المذكورة". وأكدت أن "التحقيق سيشمل الجرائم المزعومة المرتكبة على أراضي أفغانستان منذ الأول من شهر مايو/ أيار 2003، أي منذ انضمام أفغانستان إلى المحكمة الجنائية الدولية".

وذكر تقرير بنسودا أن "ممثلي الهيئات العسكرية الأميركية قاموا بتعذيب ما لا يقل عن 61 معتقلاً تعذيباً جسدياً ونفسياً، وبالاعتداء على كرامتهم في أفغانستان خلال الفترة بين 1 مايو 2003 و31 ديسمبر/ كانون الأول 2014، وأن غالبية هذه العمليات جرت عامي 2003 و2004". كما رجح التقرير أن "يكون ممثلو وكالة الاستخبارات المركزية قد عرّضوا للتعذيب وامتهان الكرامة ما لا يقل عن 27 معتقلاً أو اغتصابهم في أفغانستان وبولندا ورومانيا وليتوانيا خلال الفترة بين ديسمبر عام 2002 ومارس/ آذار عام 2008".

أما بالنسبة إلى الجرائم التي ارتكبها الأميركيون، فيشير التقرير إلى أنها "لا تشكل إساءة لاستخدام السلطة من قبل عدد قليل من الأفراد، بل يبدو أنها ارتكبت في إطار أساليب الاستجواب المعتمدة في محاولة لانتزاع معلومات استخبارية من المعتقلين". كما جاء في التقرير أن "المعلومات المتوفرة تشير إلى أن الضحايا تعرضوا عمداً للتعذيب الجسدي والنفسي، وأن الجرائم قد ارتكبت بقسوة شديدة، بهدف إهانة كرامة الإنسان وإذلاله".

يذكر أن إدارة الرئيس جورج بوش الابن سمحت، بعد اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، باستخدام أساليب تعذيب، مثل الإيهام بالغرق خلال الاستجواب، أو "تقليد" الغرق وغيرها مما يسمى بـ"التقنيات المحسنة" ضد الإرهابيين المشتبه بهم. ولكن هذه الممارسات تم منعها بعد تسلم الرئيس باراك أوباما السلطة عام 2009. بيد أن الادعاء العام يؤكد أن التحقيقات جارية في بولندا ورومانيا وليتوانيا التي وقعت على نظام روما الأساسي. والحديث هنا يدور عن الجرائم التي اقترفت في السجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية في هذه الدول.

المساهمون