سان دوني الباريسية... ضواحي البؤس ضد الجمهورية؟

سان دوني الباريسية... ضواحي البؤس ضد الجمهورية؟

19 نوفمبر 2015
المنطقة فقيرة وتضم مجموعات كبيرة من المهاجرين (الأناضول)
+ الخط -
هل هو انتقام الضواحي من المدن، أم أنه انتقام الضواحي الفقيرة من الضواحي الغنية والبرجوازية؟ سؤال طُرح على كل لسان في أي تناول جدّي لاعتداءات باريس الإرهابية، ولما حصل أمس الأربعاء، من مداهمة في ضاحية سان دوني الباريسية، ضد متهمين بالتورّط في اعتداءات الجمعة 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. مداهمة تخلّلها إنزال بوليسي من القوات الخاصة، وقوات النخبة، ومن رجال أمن وقوات جوية، في مشهد غير مسبوق في فرنسا.

قبل أسبوعين فقط، كتب السيناتور الفرنسي من أصول عربية، مالك بوتيح، أن "سان دوني فرّخت قبل عشر سنوات، في عام 2005، متظاهرين، واليوم، بعد عشر سنوات، تفرّخ جهاديين". كانت هذه المنطقة، التي هي جزء من إقليم يُطلق عليه اسم 93، بسبب رمزه البريدي، ولا تزال، حزام البؤس، التي تؤرق مضجع السياسيين الفرنسيين، أثناء حكمهم وأيضاً أثناء حملاتهم الانتخابية. وهي آخر قلاع الحزب الشيوعي الفرنسي، بعد أن خسر تقريباً كل الحزام الذي كان يحيط بالعاصمة باريس.

مدينة سان دوني، الواقعة في شمال العاصمة باريس، ضمن إقليم سين ـ سان ـ دوني (الذي يضمّ أكبر نسبة من المهاجرين أو متحدرين من الهجرة، تصل إلى 27 في المائة)، يضمّ أيضاً ثلاث مقاطعات: مقاطعة سان دوني، وتشمل تسع مدن، من بينها مدينة سان دوني التي تعرضت للمداهمة، ومقاطعة بوبيني، التي تضمّ 15 مدينة، ومقاطعة رانسي، التي تضمّ 16 مدينة، من بينها مونفرموي وكليشي، اللتين شهدتا انفجار انتفاضة الضواحي سنة 2005.

وما يميّز كل هذه المدن هو أنها مدن فقيرة، وتضم مجموعات سكنية كبيرة من المهاجرين، أو من أصول مهاجرة. وتعرف نسبة مديونية رهيبة، ما يجعل بلدياتها عاجزة عن فعل أي شيء لمواطنيها، وهي أكثر المناطق مديونية في فرنسا بعد منطقة فال دواز.

ومدينة سان دوني غير بعيدة عن ستاد دي فرانس (ملعب فرنسا الدولي) لكرة القدم، الذي كان أحد أهداف الجمعة، ولم يسقط فيه ضحايا كُثُر. وهي المنطقة الأكثر كثافة سكانياً (108 آلاف شخص)، أمام مونتروي، ويُديرها عمدة شيوعي، بعد أن خسر الحزب الشيوعي مدينة مونتروي.

ولأنها من أحزمة البؤس، فإن نسبة العاطلين من العمل فيها مرتفعة، وفقاً لتقديرات "المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية". وتبلغ هذه النسبة تقريباً 36 في المائة من السكان الذين تراوح أعمارهم ما بين 15 و64 سنة. ومن نافل القول إن أغلب هؤلاء العاطلين هم من أصول مهاجرة أو متحدرة من الهجرة. ولا تزال الأسماء والسحنات تُشكّل عائقاً أمام توظيف هؤلاء.

اقرأ أيضاً: استراتيجية هولاند... دسترة الطوارئ في زمن الحرب

وهو واقع ملموس لا يتوقف السياسي جاك توبون، الذي عيّن سنة 2014 مدافعاً عن الحقوق في فرنسا، عن إدانته، لما يُسبّب من تصاعد التطرف، يتخذ أحياناً أشكالاً تتجاوز العقل والمنطق. وتعرف السلطات الفرنسية، منذ فترة، هذه الظاهرة وتعرف نتائجها.

ولم يعد خافياً على أحد أن منطقة سين ـ سان ـ دوني، كانت خزّاناً للراغبين في الالتحاق بسورية والعراق. وتشير إحصاءات شبه رسمية إلى أن "أكثر من 60 شاباً من هذه المنطقة، التحقوا بالجهاد في سورية والعراق".

وفي عام 2014 تعاونت وزارة الداخلية الفرنسية، مع مسؤولين من المنطقة، على إنشاء خلايا لمساعدة آباء وإخوة الشبان الذين ذهبوا إلى سورية والعراق، أو الذين عادوا منهما، على فهم الأسباب التي تؤدي بهم لهذه المغامرات. كما تعمل السلطات على مساعدة العائدين منهم، باعتبارهم قنابل موقوتة، على التخلص من نزعاتهم الانتحارية ونزع فتيل التطرف الديني.

ولكن الأمر ليس بالهيّن، ليس فقط لأن الظاهرة جديدة وتحتاج إلى تراكُم عملي، بل لأن كثيراً من العائدين، خصوصاً العائدين من أجل مهمات محددة، يرفضون التواصل مع أهاليهم ويظلون على تواصل فقط في ما بينهم، ومع من يريدون تجنيده، في مختلف الدول الأوروبية (المفتوحة الحدود بسبب معاهدة شينغن)، خصوصاً فرنسا وبلجيكا، وبدرجة أقل إسبانيا وهولندا.

وإذا كان الكثير من الدارسين والباحثين الفرنسيين وغيرهم، يتحدثون عن أحياء شعبية وضواحي في فرنسا، خارجة عن سلطة الجمهورية، فليس في الأمر مبالغة. لأن تخلّي الدولة عن جزء من أقاليمها وشعبها ومواطنيها، دفع بعضاّ من هؤلاء المواطنين، إما لإنتاج اقتصادٍ مواز، وتهريب ومخدرات وجرائم منظمة، وإما إلى الافتتان بـ"الجهاد" العالمي وتلبية نداءات زعمائه ونجومه، في أفغانستان والعراق وسورية واليمن. ولعلّ عمليات الشرطة والجيش الفرنسيين، أمس، في البحث ومطاردة منظّم بلجيكي مُفتَرَض للاعتداءات الأخيرة في مدينة سان دوني، تكشف فشلاً استخباراتياً وأمنياً فرنسياً كبيراً (يضرب الإرهابيون ومساعدوهم ويهربون إلى الضواحي)، كما تكشف تواصُلاً عميقاً بين "القلاع" الحاضنة التي توفر الأمن للفاعلين، إنْ في بلجيكا أو فرنسا.

اقرأ أيضاً: فرنسا:انتهاء مداهمة شقة "سان دوني" والحصيلة قتيلان أحدهما امرأة