تقليص التعهدات النووية: 4 مؤشرات لتفادي إيران التصعيد الشامل

المرحلة الثانية من تقليص التعهدات النووية: 4 مؤشرات لتفادي إيران التصعيد الشامل

08 يوليو 2019
الحديث عن الدبلوماسية طغة بالمؤتمر الصحافي للمسؤولين الثلاثة(فرانس برس)
+ الخط -
دشنت إيران أمس الأحد، المرحلة الثانية من تقليص تعهداتها النووية، بوقفها تنفيذ تعهد جديد كانت قد التزمت به في إطار الاتفاق النووي المبرم عام 2015، إذ كشفت عن تخطّيها نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 3.67 في المائة، وهو الحدّ المسموح به في الاتفاق النووي، لكنها أعلنت في المقابل وقف إعادة تشغيل مفاعل أراك لإنتاج المياه الثقيلة، وذلك بعدما كانت قد ذكرت سابقاً أنها ستعيد تفعيله كجزء من تقليص التعهدات خلال المرحلة الثانية. ومنحت إيران مهلة مدتها 60 يوماً إضافية، قبل أن تقدم على تنفيذ المرحلة الثالثة من تقليص تعهداتها النووية، معربة عن أملها أن "تتوصل إلى حلّ مع الأوروبيين لكي لا تضطر إلى تنفيذ هذه المرحلة". ورغم تركها الباب مفتوحاً أمام إنقاذ الاتفاق والعودة عن تقليصاتها الحالية واعتمادها نبرة مهادنة متفاديةً التصعيد، إلا أنّ المواقف الدولية ولا سيما الأوروبية سارعت إلى التعبير عن القلق من خطوة طهران.
وتؤكد إيران من خلال إعلانها الأخير الذي جاء خلال مؤتمر صحافي عقده المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، وشارك فيه كل من مساعد الشؤون السياسية للخارجية عباس عراقجي، والمتحدث باسم المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية بهروز كمالوندي، على أمرين أساسيين. الأمر الأول هو أنّ أوروبا لم تنفّذ خلال مدة مهلة الستين يوماً أياً من مطالب إيران، المتمثلة في تسهيل بيع نفطها ومعاملاتها المصرفية المحظورتين، وهو ما دفعها إلى الانتقال نحو تنفيذ المرحلة الجديدة. أمّا الأمر الثاني، فهو أنّ طهران متمسّكة في تنفيذ استراتيجيتها الجديدة في التعامل مع الاتفاق النووي، والتي كشفت عنها مع الذكرى السنوية الأولى من الانسحاب الأميركي من الاتفاق في الثامن من مايو/أيار الماضي.


تفادي التصعيد

وبموجب هذه الاستراتيجية، تقول طهران إنه لم يعد بمقدورها ممارسة سياسة "الصبر الاستراتيجي" في مواجهة تداعيات انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وأنها "لن تقبل أن تلتزم بالاتفاق بمفردها". لكن رغم ذلك، بدا واضحاً أمس من قرارات إيران وسلوكها، أنها اختارت بالفعل أن تتفادى التصعيد مع مواصلة سياسة "تقليص التعهدات".
وقد برز تفادي إيران التصعيد في نقاط عدة؛ أولها أنّ تدشين المرحلة الثانية من وقف التعهدات النووية، لم يكن بالسقف العالي نفسه لتهديداتها خلال الفترة الأخيرة. إذ اكتفت بوقف تنفيذ تعهد واحد من أصل تعهدين، كانت قد أعلنت سابقاً أنها ستوقف تنفيذهما في إطار المرحلة الثانية، فتخلت فقط عن الالتزام بعتبة الـ3.67 في المائة من تخصيب اليورانيوم المتفق عليها في الاتفاق النووي، بينما أعلنت أنها ستؤجل تعليق تنفيذ التعهد الآخر المتمثل في إعادة تشغيل مفاعل "آراك" للمياه الثقيلة.
ثانياً، وفي ما يتعلّق برفع نسبة تخصيب اليورانيوم، فعلى الرغم من تخطي طهران الحدّ المتفق عليه في الاتفاق النووي، مع عدم إعلانها عن النسبة التي سترفعها، فقد بدا واضحاً من خلال تصريحات كمالوندي، أنها ليست عالية، وأنها طهران لا تريد الاقتراب من "الخط الأحمر" في هذا الجانب. وتأكيداً على ذلك، قال كمالوندي إنّ إيران "لن تخصّب اليورانيوم في الوقت الراهن، إلى النسبة التي يلزمها مفاعل طهران للأبحاث". علماً أنّ النسبة التي يحتاجها هذا المفاعل هي 20 في المائة، التي كانت بلغتها طهران قبل التوقيع على الاتفاق النووي. كما أنه اتضح، بشكل أو آخر، من تصريحات المسؤولين الإيرانيين الثلاثة خلال مؤتمرهم الصحافي أمس، أنّ النسبة التي تريدها طهران حالياً في إطار ممارسة سياسة الضغط المتدرج والمتصاعد في وجه "المماطلات" الأوروبية، لا تتجاوز 5 في المائة، في وقت ذكر فيه عراقجي أن مفاعل بوشهر بحاجة إلى اليورانيوم بنسبة تخصيب الـ 5 في المائة، ليعمل بكامل قدرته.

أبواب الدبلوماسية مفتوحة

ثالثاً، لم تكن اللهجة الإيرانية عند الإعلان عن تنفيذ المرحلة الثانية من تقليص التعهدات عالية النبرة، على عكس الأيام الماضية. فعلى الرغم من إبداء بعض العتاب والانتقاد للسياسات الأوروبية، إلا أنّ الحديث عن الدبلوماسية كان طاغياً خلال المؤتمر الصحافي للمسؤولين الثلاثة. وفي هذا السياق، أكّد عراقجي أنّ "أبواب الدبلوماسية لا تزال مفتوحة"، مشيراً إلى "مباحثات جيدة" أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الإيراني حسن روحاني، مساء أول من أمس السبت، عشية انتهاء مهلة الستين يوماً.
ولم يكشف عراقجي فحوى هذه المباحثات، لكنه وصف الاتصال الهاتفي بأنه "بنّاء" وجاء في إطار "مساع تبذل للوصول إلى حلّ"، مشيراً في الإطار ذاته إلى "زيارات دبلوماسية مرتقبة" واجتماع مرتقب للجنة المشتركة للاتفاق النووي على مستوى وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتفاق خلال الشهر الحالي.
وكشف مكتب الرئيس الفرنسي في بيان مساء السبت، عن أنّ ماكرون اتفق مع روحاني على إجراء مباحثات خلال الأيام المقبلة بين إيران وبقية شركاء الاتفاق النووي. وأوضح بيان مكتب ماكرون أنّ "رئيس الجمهورية اتفق مع نظيره الإيراني على أن يستكشف بحلول 15 يوليو/ تموز شروط استئناف الحوار بين الأطراف".
أمّا النقطة الرابعة التي تؤكّد أنّ طهران تتفادى التصعيد، ولا سيما في تقليص تعهداتها، هو مواصلتها الطابع المرحلي في هذا الإطار، مع منح مهلة ستين يوماً إضافية قبل الانتقال إلى المرحلة الثالثة، التي لم يتم الكشف عن طبيعة الخطوات التي ستتضمنها.



تساؤلات حول الأسباب 

على ضوء هذه المعطيات، واقتصار المرحلة الثانية من تقليص التعهدات على خطوة صغيرة تمثّلت في رفع محدود لنسبة تخصيب اليورانيوم، من دون زيادتها إلى درجات عالية، وتجنّب وقف التعهّد الآخر الذي لطالما توعّدت به طهران، ثمّة تساؤلات مشروعة تبرز عن أسباب تفادي إيران التصعيد على الرغم من تهويلها الكبير خلال الفترة الأخيرة، والذي وصل إلى حدّ التهديد بالانسحاب من الاتفاق النووي، وأكثر من ذلك الخروج من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وفي الإجابة على ذلك، يمكن الإشارة إلى أسباب عدة. الأول هو أنّ الاتفاق النووي على الرغم من أنه تحوّل إلى اتفاق من جانب واحد، إيران هي الجهة الوحيدة المنفذة له بحسب قولها، إلا أنّها لا تزال تعتبر أن بقاء الاتفاق يصبّ في مصلحتها، وبالتالي لديها مخاوف من أن أي تصعيد كبير، وخصوصاً في رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى درجات عالية وتجاوز الخطوط الحمراء في ذلك، من شأنه أن يؤدي إلى تشكيل إجماع عالمي ضدها، ينتهي إلى السيناريو الأكثر خطورة وهو الحرب في نهاية المطاف. كما أنّ التصعيد الكبير من قبل إيران قد يثير تحفظ قوى صديقة مثل الصين وروسيا الشريكتين في الاتفاق النووي، وهي بغنى عن كل ذلك على ضوء التوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة. وبناء على ذلك، يكون مفهوماً الحديث الإيراني عن أنّ تقليص التعهدات النووية يهدف إلى الحفاظ على الاتفاق النووي عبر دفع الأطراف الأوروبية لتنفيذ تعهداتها إزاء ذلك، وأنّ هذه التقليصات ليس معناها وجود نوايا لديها للانسحاب منه. وفي هذا السياق، سعت طهران من خلال عدم اتخاذ خطوات تصعيدية كبيرة، إلى إبقاء خط الرجعة مفتوحاً وعدم إغلاقه.
أما السبب الثاني، الذي على الأغلب قد عزز السبب الأول، وقد يكون أقنع إيران بتجنّب التصعيد، هو الاتصال الهاتفي الذي أجراه ماكرون بروحاني ليل السبت، والذي لم يكشف كثيراً عن فحواه، لكن حديث الرئيس الفرنسي عن بذله مساعي لـ"هدنة اقتصادية"، طهران بأشد الحاجة إليها في الوقت الراهن بالنظر إلى صعوبة أوضاعها الاقتصادية، قد يكون بدأ مفعوله ليقنع الجانب الإيراني بالتريث قليلاً وإعطاء المزيد من الوقت للدبلوماسية والسياسة، علّها تأتي بنتائج إيجابية. وربما عزز ذلك وجود قراءة إيرانية تفيد بأنّ انشغال الرئيس الأميركي دونالد ترامب والاتحاد الأوروبي باستحقاقات وقضايا داخلية قد يدفعهما إلى تقديم تنازلات اقتصادية في موضوع العقوبات، لمنع طهران من الانسحاب التدريجي من الاتفاق النووي. لذلك يبدو أنّ طهران حاولت أن لا تغلق هذا الباب المحتمل من خلال تصعيد كبير يحرض هذه الأطراف على قيام بردود فعل تصعيدية تغلق أي خط رجعة.

تنديد أوروبي وتحريض إسرائيلي
وبدا واضحا أن عدم التصعيد الإيراني خلال الإعلان عن المرحلة الثانية من تقليص التعهدات النووية سيقابل بموقف مماثل من جانب أوروبا التي بدت منهمكة في محاولة ترتيب اجتماعات لمحاولة تدارك ما وصلت إليه الأمور، بالرغم من إبداءها "القلق البالغ" وتوجيها انتقادات حادة لتخطي إيران عتبة الـ 3.67 في المائة في تخصيب اليورانيوم. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال اقتصار المواقف الأوروبية أمس على التنديد بالخطوة الإيرانية الجديدة لكن من دون الانتقال إلى تصعيد عملي يتمثل في تفعيل أوروبا بند "فض النزاع" في الاتفاق النووي، وهو ما أكّدت عليه الرئاسة الفرنسية في بيان أمس، عقب إعلان طهران عن خطوتها الجديدة، قائلة إنها "لا تعتزم تفعيل آلية فض النزاع مع إيران، بشأن الاتفاق النووي حالياً، ومنحت نفسها مهلة أسبوع لمحاولة جمع الأطراف، على طاولة التفاوض". ومن شأن تفعيل تلك الآلية أن يسفر في نهاية المطاف عن معاودة فرض الأمم المتحدة عقوبات على إيران.
وفي السياق، أبلغ مسؤول بالرئاسة الفرنسية وكالة "رويترز"، بأنّ ماكرون استنكر، أمس، خطوة إيران، وقال إنها "انتهاك" للاتفاق. وقال المسؤول إن الرئاسة الفرنسية أكدت مجدداً على الموعد النهائي الذي ينقضي في 15 يوليو/ تموز لاستئناف الحوار بين الأطراف.
أما الحكومة البريطانية، فطالبت إيران بـ"الوقف الفوري لأي نشاط يتنافى والتزاماتها" في إطار الاتفاق النووي. وأعلنت وزارة الخارجية البريطانية في بيان أنّ "إيران خالفت بنود الاتفاق النووي، وفيما تبقى المملكة المتحدة ملتزمة الاتفاق بالكامل، ينبغي أن توقف إيران فوراً وتتراجع عن كل الأنشطة التي لا تتنافى والتزاماتها". وأضافت "ننسق مع (الموقعين) الآخرين على الاتفاق في ما يتصل بالمراحل المقبلة بحسب مضمون الاتفاق".
كذلك، حضّت برلين طهران على التزام سقف تخصيب اليورانيوم المحدد في الاتفاق النووي. وقال متحدّث باسم وزارة الخارجية الألمانية أنّ بلاده "تتواصل مع بقية الأطراف المشاركين في الاتفاق لبحث الخطوات المقبلة".
أمّا الاتحاد الأوروبي، فقال إنّ الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي تناقش عقد اجتماع طارئ محتمل بعد الإعلان الإيراني الأخير. وقالت المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي، مايا كوسيانيتش في مقابلة مع وكالة "أسوشييتد برس"، أمس، إن الاتحاد "قلق للغاية" بشأن قرار إيران.
في موازاة ذلك، لم يتأخر رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في استغلال الموقف، مطالباً الدول الأوروبية بالعمل ضدّ إيران. واعتبر نتنياهو، في جلسة الحكومة الأسبوعية، أمس، أن الإعلان الإيراني "خطوة خطيرة جداً". وأضاف "أدعو أصدقائي رؤساء فرنسا وبريطانيا وألمانيا: أنتم وقعتم على هذا الاتفاق، وقلتم إنه في اللحظة التي تتخذ إيران مثل هذه الخطوة ستفرضون عقوبات شديدة، وأنا أسأل أين أنتم؟".
في المقابل تواصل التبرير الروسي لخطوات طهران. وأعلن رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي، قسطنطين كوساتشيف، أمس، أن "مطالب إيران بالحفاظ على الاتفاق النووي لها ما يبررها، وأن مسؤولية الحفاظ عليه تقع على عاتق الولايات المتحدة". ونقلت وكالة "سبوتنيك" عن كوساتشيف قوله إن "الشيء الرئيسي في الوضع الحالي ليس المعايير المادية لتخصيب اليورانيوم، ولكن استعداد إيران السياسي للعودة إلى تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي، إذا ما قامت واشنطن بضمان نهج مشابه".
وفي أعقاب ذلك، ذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أمس، أن مفتشي الوكالة الموجودين في إيران سيرفعون تقريراً للوكالة بمجرد تأكدهم من زيادة طهران مستوى تخصيبها اليورانيوم عن الحد الذي يسمح به الاتفاق النووي.

دلالات

المساهمون