"العمّال الكردستاني" يردّ على استنزافه بدمويّة من "اللحم الحيّ"

"العمّال الكردستاني" يردّ على استنزافه بدمويّة من "اللحم الحيّ"

07 يونيو 2016
الجيش التركي بحملة ضد "الكردستاني" بدياربكر (إيلياس أكينجين/فرانس برس)
+ الخط -
يبدو أن حزب "العمال" الكردستاني استأنف سياسة نقل المعارك ضد الحكومة التركية إلى مدن الغرب التركي، وذلك بعد أيام من إعلان الجيش التركي انتهاء العمليات التي شنّها ضده في كل من مدينتي نصيبين، التابعة لولاية ماردين، المواجهة لمدينة القامشلي السورية، وأيضاً في مدينة شرناق، في ظلّ تكبّد "الكردستاني" خسائر فادحة. وبعد عمليتين انتحاريتين في العاصمة التركية أنقرة، وعمليتين فاشلتين في كل من بورصة وإسطنبول، شنّ "الكردستاني"، صباح أمس الإثنين، هجوماً بسيارة مفخخة في إسطنبول، مستهدفاً حافلة لنقل قوات مكافحة الشغب، في منطقة بيازيد في قلب المدينة، بالقرب من كلية الآداب التابعة لجامعة إسطنبول. وبحسب والي إسطنبول، واصب شاهين، فقد أسفر الهجوم عن مقتل 11 شخصاً، منهم 7 من قوات الشرطة، وجرح 36 آخرين.

لم يفتح "العمال" الكردستاني في تاريخه هذا الكمّ من الجبهات دفعة واحدة في كل من تركيا والعراق وسورية، وعلى الرغم التقدم الذي يحرزه جناحه السوري، ممثلاً بحزب "الاتحاد الديمقراطي" لناحية توسيع رقعة سيطرته على الأراضي السورية. لكن لجوء "الكردستاني" إلى العمليات الانتحارية والتفجيرات مرة أخرى، يظهر بشكل واضح الضغط الذي يعانيه الحزب، وبالذات على الجبهة التركية التي تعتبر المحور الرئيسي له منذ تأسيسه في نهاية السبعينيات.

وفي محاولة لنقل الخبرات التي اكتسبها في حروب المدن التي خاضها ضد المعارضة السورية والتنظيمات الجهادية، فتح "الكردستاني"، في يوليو/تموز الماضي الجبهة التركية. وخاض حروباً طاحنة ضد الجيش التركي في عدد من مدن وبلدات جنوب شرق تركيا، ولكن النتائج كانت مخيّبة للحزب، على المستوى العسكري. ذلك لأن الجيش التركي تمكن من توجيه ضربات قاصمة للحزب، ولم يكتف بإعادة السيطرة على المدن بعد إيقاعه خسائر تجاوزت الخمسة آلاف قتيل في صفوف "الكردستاني"، بل بدأ منذ أيام، في تنفيذ عمليات واسعة في الأرياف، التي شكّلت المعقل الرئيسي لشبكات "الكردستاني" منذ تأسيسه.
وعدا عن الخروق الاستخباراتية التركية الكبيرة في صفوف الحزب، لناحية منع عشرات العمليات قبل وقوعها، فقد "الكردستاني" الدعم الأوروبي الغربي له، في هذه الجبهة، بل بات محرجاً للعواصم الغربية التي تعرّضت لسلسلة من الهجمات الانتحارية التي نفّذها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أن تدعم أو حتى تتعاطف مع "الكردستاني". وهو ما بدا واضحاً على عدد من المستويات، خصوصاً في قرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، التي رفضت جميع الدعاوى التي تقدم بها حزب "الشعوب الديمقراطي" (الجناح السياسي للكردستاني)، من أجل إصدار قرار يدين العمليات العسكرية التركية ضد "الكردستاني" في المدن، بل وأكدت حق الحكومة التركية في الدفاع عن نفسها.

أما على المستوى السياسي الأوروبي، يقول دبلوماسي أوروبي لـ"العربي الجديد"، إنه "بعيداً عن النقاش حول من أنهى وقف إطلاق النار في تركيا، يعرف المراقبون الخارجيون أن العمال الكردستاني، لم يترك فرصة، لعودة الاشتباكات، إلّا واستغلها. إن الدوائر الأوروبية على يقين أن قيادات الجناح العسكري للكردستاني في جبال قنديل، لم تكن سعيدة بالنجاح الذي حققه الجناح السياسي ممثلاً بالشعوب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية التركية، لذلك لجأت للعمل العسكري لتهميش الحركة السياسية".

أما على المستوى الشعبي الكردي، سواء في تركيا أو في الدول الأوروبية، فقد بدا مفاجئاً لكثير من المراقبين، الذي يعرفون تاريخ الصراع بين "الكردستاني" وتركيا، عدم وجود تحركات شعبية قوية لدعم "الكردستاني" كالتحرّكات التي عمّت أوروبا في التسعينيات. كما خسر حزب "الشعوب الديمقراطي" أكثر من مليون صوت في الانتخابات التشريعية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد عودة الاشتباكات. وأكثر من ذلك يفيد عدد من استطلاعات الرأي الجديدة، أن "الشعوب الديمقراطي لن يستطيع تجاوز العتبة البرلمانية في حال إعادة الانتخابات مرة أخرى، إذ نجحت الحكومة التركية والجيش في تبديل الصورة السيئة لقوات الأمن التركية، التي رافقتها منذ حقبة التسعينيات".

وعلى الرغم من عنف الاشتباكات وتدمير أجزاء واسعة في المدن والبلدات التركية، لم تشهد العمليات العسكرية اعتداءات واسعة على المدنيين أو حملة اعتقالات خارج إطار القانون. كما سعت الحكومة لكسب الرأي العام الكردي في البلاد، وبدأت بالعمل على حملات واسعة لإعادة إعمار المناطق المدمرة، مقدمة دعماً واسعاً للمهجرين من مناطق الصراع. وذلك في ظلّ وجود رأي عام كردي، لا يوالي الحكومة التركية، ولكنه يُحمّل "الكردستاني" مسؤولية الدمار الذي حلّ بهذه المدن.
الصور والتقارير الآتية من المدن والبلدات التركية وبالذات من مدينة نصيبين، التي انتهت فيها العمليات العسكرية، قبل أيام، تشير إلى وجود قصور كبير في العنصر البشري من مقاتلي "الكردستاني" على الجبهة التركية، لناحية زيادة اعتماده على الفتية وزجه بعناصر قليلة التدريب في القتال، وذلك بعد أن استنفدت الجبهات السورية طاقاته البشرية.

وعلى الرغم من أن "الكردستاني" ممثلاً بإحدى قيادات جناحه العسكري، دلال أمد، كان قد وقّع في أكتوبر/تشرين الأول 2013، على وثيقة يلتزم خلالها بحماية الأطفال في النزاعات المسلحة، استطاعت منظمة "هيومن رايتس ووتش" توثيق قائمة بأسماء 59 طفلاً، تمّ تجنيدهم، منهم عشرة أطفال تحت سن الخامسة عشرة، في تقريرها في يوليو/تموز من العام الماضي. كما تناقلت وسائل الإعلام التركية، في نهاية شهر مايو/أيار الماضي، خبر مقتل لطيفة كايا (الاسم الحركي جاهدة)، إحدى قيادات الجناح العسكري لـ"الكردستاني"، في منطقة القحطانية في محافظة الحسكة السورية، بعد تجنيدها 17 طفلة للقتال في قوات "الاتحاد الديمقراطي".

كايا مطلوبة للأمن التركي بتهمة تجنيد 500 طفل لصالح "الكردستاني"، فضلاً عن مراقبتها صحيفة "سرخوبون"، الناطقة باسم "الكردستاني" وموقع "شهداء قوات حماية الشعب" التابعة للحزب في تركيا. وعليه، توقفت الصحيفة والموقع عن وضع تاريخ ميلاد العديد من قتلى الحزب، بينما يعجّ الموقع بصور مقاتلين أطفال.

مع العلم، أن المقاتلين الأكراد الأتراك، الذين يتمتعون بخبرات عالية، العمود الفقري لقوات "الكردستاني" على الجبهات السورية، بل يشكّلون قادة الصف الأول على مختلف الجبهات. الأمر الذي بدا واضحاً في الفيلم التسجيلي التي أنتجته قناة فرنسية عن قوات "الاتحاد الديمقراطي" في سورية، الشهر الماضي، وكان جميع القادة الميدانيين الذين حدثتهم القناة من المقاتلين الأكراد الأتراك. وبحسب التقارير الإعلامية، يصل تعداد مقاتلي "الاتحاد الديمقراطي" إلى حوالى 12 ألف مقاتل، موزّعين على أكثر من جبهة.

كما بدأ "الكردستاني" في سورية بفرض التجنيد الإجباري، على القاطنين في مناطق سيطرته في سورية، في ظلّ الخسائر الفادحة على الجبهة التركية والجبهات مع "داعش". وبدا عدد المقاتلين قليلاً نسبياً، بعد التوسع الكبير للجبهات التي يديرها الحزب، سواء في العراق أو سورية، تحديداً في الحسكة والرقة في مواجهة "داعش" بدعم أميركي، وأيضاً في مدينة حلب وريفها الشمالي الشرقي ضد عناصر الجيش السوري الحر، وضد "أحرار الشام" أو "جبهة النصرة"، بدعمٍ روسي.

يتلقّى "العمال" الكردستاني في سورية دعماً أميركياً كبيراً، سواء على مستوى التدريب أو التسليح أو التغطية الجوية، ولكن كل ذلك محكوم بضغوط تركية وتفاهمات بين أنقرة وواشنطن، ومحكوم أيضاً بالتهديد الذي يُشكّله "داعش" على المصالح الغربية، في ظلّ الميل الأميركي، لتوسيع "قوات سوريا الديمقراطية" التي يُشكّل "الاتحاد الديمقراطي" عمودها الفقري، لناحية ضمّ المزيد من المقاتلين العرب.

ويأتي كل ذلك في ظلّ توتر العلاقة مع النظام السوري وإيران، الداعمين التاريخيين للحزب، وهو ما بدا واضحاً بعد اندلاع عدد من الاشتباكات بين "الاتحاد الديمقراطي" وقوات النظام في القامشلي والحسكة. كما يأتي هذا في ظلّ التقارب التركي الإيراني الكبير، بعد الزيارات المتبادلة بين الجانبين، وبسبب مخاوف الطرفين من خروج الكردستاني بعد الدعم الأميركي على السيطرة، وإنشائه مناطق حكم ذاتي في سورية، تغذي طموحات أكراد إيران وتركيا بشيء مماثل.

يبدو "الكردستاني" في أضعف لحظاته على الجبهة الأساسية في تركيا، بينما يبدو وضعه في سورية مرتبكاً للغاية، ليبقى السؤال الأهم: ماذا بعد انفكاك التحالف مع واشنطن حين يزول خطر "داعش"، وانتهاء التقارب مع موسكو بعودة علاقاتها مع أنقرة. هل سيقوى الكردستاني على تحمل فاتورة كل هذه العداوات التي أنشأها خلال خمس سنوات من مشاركته في الحرب السورية، سواء مع شرائح واسعة من معارضي النظام السوري، أو مع النظام نفسه بتمرده عليه وعلى إيران؟