الانتخابات التشريعية التونسية اليوم: هل يتكرر سيناريو الرئاسية؟

الانتخابات التشريعية التونسية اليوم: هل يتكرر سيناريو الرئاسية؟

06 أكتوبر 2019
يحقّ لسبعة ملايين المشاركة باختيار برلمان جديد(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
يتوجه التونسيون، اليوم الأحد، مرة ثانية إلى مراكز الاقتراع، في غضون أقل من شهر، لانتخاب برلمانهم الجديد، في جوّ من الغموض المطلق الذي يجعل من النتائج مفتوحة على كل الاحتمالات، وخصوصاً بعد ما أظهرته نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الذي أُجري في 15 سبتمبر/أيلول الماضي، بصعود المرشَّحين، المستقل قيس سعيّد، ورئيس حزب "قلب تونس" نبيل القروي، إلى الدور الثاني المقرر في 13 أكتوبر/تشرين الأول الحالي.

ولئن كان هذا الغموض نعمة ديمقراطية نادرة عربياً لأنها تبرز حقيقة أن إرادة الناخب التونسي وصوته لا أحد بإمكانه توقعهما أو العبث بهما، فإنّ تكرار حدوث مفاجئة جديدة في الانتخابات التشريعية يحيل سياسياً على فرضيات متناقضة، وسط مخاوف من أن تهدد النتائج وصورة البرلمان المقبلة، خصوصاً إذا لم تفرز أغلبية واضحة (109 نواب من أصل العدد الإجمالي المحدد بـ217 نائباً)، التجربة التونسية الهشّة التي يتضح بالملموس أنها مستهدفة فعلياً من دوائر عديدة لم تيأس بعد من إمكانية إفشالها، على الرغم من كل الصمود الذي أبدته الحالة التونسية، تجربةً بعد أخرى.

ويمتلك سبعة ملايين ناخب حق المشاركة في اختيار برلمان جديد، هو صاحب السلطة الأصلية في نظام برلماني في الغالب، ما يجعل من هذه الانتخابات لحظة بالغة الأهمية لرسم مستقبل المشهد السياسي، وبالخصوص لتفويض 217 نائباً، يأمل التونسيون أن يكونوا أكثر توفيقاً من سابقيهم لتحقيق إنجاز اقتصادي واجتماعي واستكمال بقية المؤسسات الدستورية.

ويتنافس أكثر من 15 ألف مرشح للانضمام إلى البرلمان الجديد لمدة خمس سنوات، في ثاني ولاية لمجلس نواب الشعب منذ الثورة، ضمن 1506 قوائم: 674 منها حزبية، و324 قائمة ائتلافية، و508 مستقلة. ويتوزع هؤلاء على 33 دائرة انتخابية: 27 منها داخل تونس، و6 خارجها تتيح انتخاب 18 نائباً يمثلون المهجر.

وتُجرى هذه الانتخابات تحت ضغط عالٍ أثبته الدور الأول من الانتخابات الرئاسية المبكرة التي أُجريت قبل التشريعية عقب وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي في 25 يوليو/تموز الماضي، وذلك على عكس ما كان مقرراً سابقاً. وكرّست نتائج الرئاسية موجة الغضب الشعبي الواسعة التي ضربت الجميع من دون استثناء، ودفعت الناخبين إلى استدعاء بدائل من غير المنظومة الحاكمة ولا حتى المعارضة. وعمَّق هذا الوضع مخاوف الأحزاب من أن تتواصل موجة الإقصاء الشعبي وتدفع بقوى جديدة غير واضحة المعالم سياسياً، لقيادة السنوات الخمس المقبلة، وربما إدخال تعديلات عميقة، ليس على نمط الحكم فقط، بل أيضاً على طبيعة النظام السياسي وطريقة إدارة الشأن العام بكل تفصيلاته.

وتبدي جهات حزبية عديدة مخاوف من أن تُفضي نتائج الانتخابات التشريعية إلى تقطيع المشهد البرلماني وتفتيته بسبب تشتت الأصوات، ما يعني عدم منح أي جهة، حزبية أو مستقلة، أغلبية ولو نسبية تمكنها من قيادة المرحلة المقبلة.

وفي السياق، يؤكد القيادي في "الجبهة الشعبية"، الجيلاني الهمامي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "المشهد السياسي يشير إلى أنّ البرلمان المقبل سيكون متنوعاً إلى درجة التشتت"، مشيراً إلى أنه "يصعب تشكيل حكومة بائتلاف حزبي ضيق، لأن أي حزب سيشكل الحكومة سيضطر إلى تكوين ائتلاف واسع يضم أكثر من طرف لضمان الأصوات، فما بالنا بأغلبية مريحة؟". ويتوقع أن تكون هناك "صعوبات وتعثّر في تشكيل حكومة بشكل سريع"، لافتاً إلى أنّ "الحكومة ستكون أيضاً تحت التهديد في أي وقت إذا ما انسحب أي طرف من مكوناتها، لتتحول الأغلبية إلى أخرى ضعيفة".

وبموجب المادة 89 من الدستور التونسي لعام 2014، فإنه "في أجل أسبوع من إعلان النتائج النهائية للانتخابات، يكلف رئيس الجمهورية مرشَّح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصّل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس نواب الشعب، تكوينَ الحكومة خلال شهر يجدّد مرة واحدة. وفي صورة التساوي في عدد المقاعد، يُعتمد للتكليف عدد الأصوات المتحصل عليها". وبحسب المادة نفسها، فإنه "عند تجاوز الأجل المحدد من دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، يُجري رئيس الجمهورية في أجل عشرة أيام مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر"، "وإذا مرّت أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حلّ مجلس نواب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه خمسة وأربعون يوماً وأقصاه تسعون يوماً".

ويوضح الهمامي أنّ "الوضع الحالي يبدو أكثر ضبابية من الوضع إبان انتخابات البرلمان السابق، لأنّ الائتلاف الحاكم دمّر المشهد السياسي، وأي إجراءات لن تكون لها أي فائدة، لأن الثقة في الأحزاب ضربت، وهو ما كشفته الانتخابات الرئاسية في دورها الأول"، مشيراً إلى أنّ "سيناريو الانتخابات الرئاسية قد يتكرر، فهي استأثرت بالاهتمام الأكبر، وألقت بظلالها على المشهد، فيما لم يقع تركيز كبير على التشريعية".

ويضيف الهمامي أنّ "مآل الدور الثاني للانتخابات الرئاسية لا يزال غير واضح من الناحية القانونية وتلفّه الضبابية، وبالتالي فوضعية الانتخابات التشريعية لا تزال غير واضحة كذلك، فقد يحصل انقلاب في مزاج الناخب ونرى تغيّرات، أو نشهد سيناريو الرئاسية نفسه، فكل الاحتمالات تبقى ممكنة". ويلفت الهمامي إلى هذا الترابط القوي بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ليس بسبب التزامن فحسب، بل أيضاً بسبب المزاج الشعبي العام، ودفع أحزاب عديدة عمداً إلى ربط السياقين معاً للاستفادة من زخم نتائج الرئاسية للبعض، أو استعمالها كورقة تهديد من مغبة نتائجها والتحذير من سيناريوهات مجهولة للبعض الآخر.

وتذهب "القوى الجديدة" إلى دفع الناخبين نحو استكمال المسار الرئاسي نفسه، ومنحها الزخم ذاته من أجل أن تتبوأ المراتب الأولى أيضاً في هذا الاستحقاق، على غرار ائتلاف "الكرامة" الذي يقوده المرشح السابق للرئاسية سيف الدين مخلوف، أو "الاتحاد الشعبي الجمهوري" الذي يقوده الدكتور لطفي المرايحي، أو بقية المرشحين المستقلين الذين يدعمون أحزاباً وقوائم مستقلة، مثل عبد الكريم الزبيدي الذي يدعم حزب "آفاق تونس"، أو الصافي سعيد.

لكنّ الصراع الحقيقي يدور حول الـ19 في المائة من الأصوات التي حققها قيس سعيّد، والتي يحاول كثيرون امتصاصها وتحويل وجهتها بطريقة أو بأخرى، ما دفعه إلى مراسلة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لإبداء انزعاجه من استغلال صوره من طرف البعض وتأكيد استقلاليته عن الجميع.

غير أنّ سعيّد يدرك جيداً أنّ هذه الانتخابات ونتائجها تهمه مباشرةً، إذا ما نجح في الوصول إلى قصر قرطاج، خصوصاً أنه بلا حزب ويحتاج إلى حزام سياسي عريض جداً لتنفيذ بعض أفكاره. والتقطت حركة "النهضة" هذا الأمر بسرعة، وصرّحت دون مواربة على لسان رئيس مجلس الشورى فيها، عبد الكريم الهاروني، في وقت سابق، أنّ من مصلحة "النهضة" أن يكون سعيّد في الرئاسة، ومن مصلحة الأخير أن تكون الحركة قوية في البرلمان.

ولا تخفي "النهضة" مخاوفها من تواصل تقدّم نبيل القروي وحزبه "قلب تونس" في الانتخابات التشريعية. وتشير تصريحات قيادييها وتسريبات التوقعات إلى أنّ الصراع سيكون على أشده بين الحزبين.

وفي هذا الإطار، يؤكد القيادي في حركة "النهضة"، نور الدين البحيري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ تصدر حزب "قلب تونس" للانتخابات التشريعية "يظلّ ممكناً إذا ما تشتّتت الأصوات ووجهت إلى غير محلها"، ويرى أنّ ذلك "سيكون مدخلاً لتسرّب قوى تدفع باتجاه العودة إلى الوراء، ومعادية للانتقال الديمقراطي"، مشدداً على أنّ "هذه القوى لا يجب أن يشملها أي صوت".

ويعرب البحيري عن أمله أن "توجّه الأصوات إلى قوى الثورة، التي تؤمن بتحقيق العدالة الاجتماعية". وبرأيه، فإنه لو وُجِّهَت الأصوات في الرئاسية إلى تلك القوى، لكان مرشح حركة "النهضة" عبد الفتاح مورو، "قد انتقل إلى جانب قيس سعيّد إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، وتكون تونس بذلك قد تجنبت المأزق الذي تعيشه اليوم، ولكان الخيار أفضل مما هو عليه الآن، ولما ذهبت الأصوات لمرشح تحوم حوله شبهات فساد وشكوك حول خرق السيادة الوطنية بمساندة قوى تنتمي إلى المنظومة السابقة". ويلفت إلى أنّ العديد من الأصوات "ذهبت لأحزاب لا أمل لها بأن تكون في الدور الثاني وضاعت، ووضعت في حساب أطراف تعمل ضدّ خيارات الثورة".

ووفقاً للبحيري، فإنه "يتعيّن على التونسيين أن يكونوا أوفياء لثورتهم ولدماء الشهداء، ويختاروا الأشخاص الذين يعبّرون عن خيارات الثورة"، مبرراً مساندة الحركة لسعيّد في الدور الثاني من الرئاسة بالقول إنها "نابعة من وجود خيارين: سعيّد الذي يدافع عن الثورة ويؤمن بها وقادر على تجسيد أهدافها، في مقابل خيار آخر لا يعبّر عن طموحات الثورة".

ويقول البحيري إنّ حركة "النهضة"، "هي الجهة الحزبية الوحيدة المتماسكة اليوم، والتي يمكن أن تعمل بانسجام مع رئيس الجمهورية بحكم تجربتها، وما عرفت به من مساعٍ لإنجاح الثورة والانتقال الديمقراطي، وستمثل صمام الأمان للمرحلة المقبلة بحكم التجربة والخبرة بعيداً عن الأشخاص الذين يريدون ضرب الانتقال الديمقراطي والتفريط في المكاسب التي تحققت". ويتابع بأنه "لا بدّ من تنبيه التونسيين كي لا يسقطوا في فخ وشراك الدعوات الخاطئة والمغلوطة التي تقودها قوى مضادة وأجهزة إعلامية ممولة من الخارج ومن دول مفضوحة ومعروفة بعدائها للثورة"، مؤكداً أنه "لا بدّ كذلك من الصرامة في الاختيار بعيداً عن تشتيت الأصوات الذي يضرب الانتقال الديمقراطي، ويستفيد منه أعداء تونس وينسف ما تحقق بالتضحيات والدماء".

وفيما يبدو خطاب "النهضة" واضحاً، يظهر في المقابل أن "ضحايا الرئاسية" خفت صوتهم كثيراً، إذ تراجعت التصريحات التي سمعها التونسيون على مدى أشهر عن توجه لتحقيق الأغلبية ورسم المشهد الجديد. ويبدو أنّ خلافات ما يُسمى العائلة الوسطية الديمقراطية الحداثية ستقضي على ما بقي من هذه العائلة بعد أن عصفت إغراءات الانتصار وأوهامه بكل طرف منها، حتى تشتّتت أصواتها وتراجعت إلى المواقع الخلفية. وعلى الرغم من ذلك، فإنها لا تزال تعوّل أولاً على استفاقة لأصوات ناخبيها المتغيبين في الرئاسية بعد حملة التخويف من المجهول قيس سعيّد ومن شابهه، ثمّ محاولة الالتقاء بعد الانتخابات في البرلمان لمحاولة رصّ الصفوف أمام القوى الجديدة. ويبقى هذا التوجه في حكم النيّات فقط، لأنّ هذه الأحزاب فرّطت بكل المحاولات التي أتيحت لها سابقاً لتجميع صفوفها وتحقيق أي إنجاز للناس يمكن أن تستفيد منه في الأيام الصعبة.

وكما أقصت انتخابات 2014 أحزاباً مهمة من المشهد البرلماني، مثل "الحزب الجمهوري" العريق، و"التكتل من أجل العمل والحريات"، و"المؤتمر من أجل الجمهورية"، ومثلما فعلت رئاسية 2019 بعديد الشخصيات التي لم تمنحها أكثر من 1 في المائة من الأصوات، فإنّ الانتخابات التشريعية الحالية، على الأرجح، ستقصي بدورها أحزاباً وشخصيات كثيرة، وسترسم مشهداً مختلفاً.