جِلْمة... مدينة تونسية تختزل حكايات التهميش والحرمان

جِلْمة... مدينة تونسية تختزل حكايات التهميش والحرمان

03 ديسمبر 2019
لم تتوقف الاحتجاجات المطلبية في تونس (ناصر تليل/الأناضول)
+ الخط -
لا تبعد مدينة جِلْمة التونسية عن سيدي بوزيد سوى كيلومترات قليلة، ولا تختلف مأساتها عنها بشيء، ولا حتى في طريقة احتجاج أبنائها على الأوضاع الصعبة، لذلك كانت مأساة الشاب عبد الوهاب الحبلاني مشابهة إلى حدّ قريب من مأساة محمد البوعزيزي. وانتحر الاثنان حرقاً، احتجاجاً على التجاهل والاحتقار. البوعزيزي انتحر في عام 2010 والحبلاني يوم الجمعة الماضي، وقد أشعلت وفاته احتجاجات ليلية في جِلْمة.

في السياق، كشف المنسق المحلي لعمال الحضائر (من يعملون ضمن عقود محددة المدة) في جلمة، قدور حريزي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن الحبلاني كان عاملاً فقيراً ولا يملك شيئاً، وقد عانى في الفترة الأخيرة من وضع نفسي صعب وهش. وأوضح حريزي، المعيل لـ8 أفراد وشقيقاه عاطلان عن العمل، أن زميله لم يجد سنداً أو من يدافع عنه، فقد تعرّض إلى مظلمة كبرى في العمل، وأغلب زملائه، ومنهم من هو أفضل منه اجتماعياً، نالوا ترقية باستثنائه. الأمر الذي حزّ في نفسه وأثّر عليه كثيراً، مؤكداً أن هناك من تعمّد إلحاق الضرر بالفقيد من خلال ادعاءات بالباطل ولا بد من فتح الملف ومحاسبة المسؤولين عن ذلك.

وأفاد حريزي بأن الحبلاني يتحدر من عائلة معوزة، ووالدته تعاني من إعاقة، ووالده مريض، لافتاً إلى أنه وحيد والديه وظروف الأسرة قاسية جداً. وفاقم تراكم الديون وضعه النفسي، إذ كان مديناً لصاحب محل المواد الغذائية بنحو ألف دينار (351 دولاراً). وأشار إلى أن زميله شعر أخيراً بظلم كبير، فكل الأبواب كانت مغلقة أمامه ولم يجد أي سند بل في كل مرة تتم مماطلته ووعده بصرف الراتب، لافتاً إلى أن الفقيد لم يتمكن من مقاومة الظلم الذي تعرّض إليه ولم يجد ما يسدّ الرمق. وقال حريزي إن ما أدى إلى إقدام العامل على الانتحار، هو أنه تمّ إخباره بمنحه راتبه فذهب إلى مكتب البريد لتلقيه لكنه عاد خائباً حين لم يجد شيئاً، مؤكداً أن الفقيد كان محبوباً في منطقته والجميع على دراية بوضعه الاجتماعي الصعب ويلقى تعاطفاً كبيراً من أهالي جلمة وقد أحزنهم جميعاً إقدامه على الانتحار ووفاته. واعتبر أن الحكومات المتعاقبة لا تريد حل ملف عمال الحضائر، لذلك ستنطلق تحركات عدة في مكتر وصفاقس وجلمة وسيدي بوزيد، مبيناً أن أغلب عمال الحضائر هم من أصحاب الوضعيات الاجتماعية الصعبة وهناك حالات مشابهة للحبلاني.

من جهته، أكد المنسق الجهوي لعمال الحضائر في سيدي بوزيد، هيكل العيوني، أن الحبلاني صاحب إعاقة ويعمل حارساً بمعتمدية جلمة ولم يتم ترسيمه رغم أنه يعمل وفق ما يُعرف بـ"الآلية 16" (تشغيل مؤقت في الحضائر البلدية) التي تمّ إتمام ترسيم جميع عمالها، باستثناء الحبلاني، ولم تتم مصارحته بالأسباب الحقيقية لعدم ترسيمه وتسوية وضعه، بل أكثر من ذلك تم الإبقاء عليه عاملاً من دون راتب.

وأوضح العيوني أن الحبلاني بدأ العمل في عام 2015 وتم تسويفه ومماطلته في الحصول على راتبه، علماً أنه تم تأمين راتبه لسنتين بعد إقدامه على الانتحار، وهي من المفارقات الغريبة إذ بعد سنتين من المماطلة تمّ تأمين الراتب في غضون ساعات قليلة. ونوّه العيوني إلى أن الوضع محتقن بين السكان وعمال الحضائر في جلمة وأن هناك تعزيزات أمنية مكثفة، كما في سيدي بوزيد حيث سبق أن تمّ تنظيم تحركات احتجاجية لتسوية ملف الحضائر، وستليها تحركات أخرى في المنطقتين.

وأشار العيوني إلى أن عمال الحضائر يعملون في جميع الوزارات والمؤسسات العامة، باستثناء وزارة الدفاع، ويؤدون عملهم مثلهم مثل بقية العمال، وتمّ عقد اتفاقات عدة مع رئاسة الحكومة واتحاد الشغل، ومنها اتفاق 28 ديسمبر/كانون الأول 2018، القاضي بتسوية ملف عمال الحضائر قبل نهاية مارس/آذار الماضي. غير أنه تمّ الانقلاب على هذا الاتفاق وظل العمال يعانون تبعات هذا التأخير مادياً ومعنوياً. وقال العيوني إن مشروع ميزانية 2020 لم يتضمن أي تعديلات تشير إلى تسوية ملف عمال الحضائر، لافتاً إلى أنهم لا يطلبون المستحيل ومطالبهم ليست تعجيزية بل يريدون تطبيق الاتفاق الخاص بهم ولو على ثلاث أو أربع دفعات.


وهذه ليست المرة الأولى التي يخرج فيها شبان جِلْمة احتجاجاً على أوضاعهم، فقد كانت المدينة تحتج في كل مرة لسبب أو لآخر، سواء بسبب تلوث المياه أو انقطاعها صيفاً، أو بسبب البطالة وغياب المرافق الضرورية للحياة.

بدوره، رأى رئيس منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر، أن تجدد بؤر الاحتجاج سواء في جلمة أو غيرها من المحافظات الداخلية، أمر متوقع بسبب غياب رؤية تنموية أو حلول حكومية للوضع في هذه المناطق. وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن الاحتجاج، عبر إشعال الإطارات أو قطع الطريق، أحد أشكال التعبير الجماعية عن الغضب من السلطة، لافتاً إلى أن التعابير الفردية للأشخاص الغاضبين تتعدّد ومن بينها الانتحار.

وأشار بن عمر إلى أن عملية الرصد الشهرية التي يقوم بها المنتدى، تكشف أن الأشكال الاحتجاجية لم تتوقف ولو لشهر واحد منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011، إذ تلتقي هذه الاحتجاجات حول مطلب واحد وهي تحسين الوضع المعيشي للمواطنين. واعتبر أن الانتخابات العامة في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم تمنح أملاً جديداً للفاعلين الاجتماعيين، لترتفع الاحتجاجات بنسبة 49 في المائة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي.

وأكد بن عمر أن عدد الاحتجاجات الموثقة من قبل وحدة الرصد في المرصد الاجتماعي التونسي، بلغ في أكتوبر الماضي 834 تحركاً احتجاجياً و20 محاولة انتحار، مرجّحاً أن يزيد الحراك الاجتماعي في الأشهر المقبلة نتيجة ضبابية الرؤية السياسية وتواصل غياب الحلول التنموية التي انتظرها التونسيون طويلاً.

ولا يزال التجمع الاحتجاجي أبرز الأشكال الاحتجاجية، مع بلوغ نسبته 45 في المائة من مجموع التحركات المرصودة طيلة شهر أكتوبر الماضي، يليه الإضراب (15 في المائة) وقطع الطرقات (12 بالمائة) والاعتصام (6 في المائة) ثم حرق الإطارات، وفق آخر تقرير أصدره المرصد حول التحركات الاحتجاجية.

ورأى عضو حركة النهضة، النائب عن جهة سيدي بوزيد، نوفل الجمالي، في حديث مع "العربي الجديد" أن الإشكاليات في المنطقة تنموية بالأساس، وأن الحبلاني أقدم على إحراق نفسه رداً على عدم تسوية وضعيته المهنية عبر "الآلية 16" (تشغيل مؤقت في الحضائر البلدية). وكشف الجمالي عن اجتماع في المحافظة سيناقش تطورات المسألة، معتبراً أن ما آلت إليه الأمور في المنطقة أفضت إلى انسداد الأفق لدى الشباب، ما يدفعهم أحياناً إلى ممارسات تعبّر عن يأس مطلق حقيقي من الوضع ويمثل نداء استغاثة، وعلى الحكومة المقبلة أن تلتقط هذه الرسائل بشكل جدي. وذكر أن الظرفية الحالية تفرض ضرورة ملحة لإيجاد الحلول الاجتماعية والاقتصادية الفعلية والردّ على مطالب آلاف الشباب من العاطلين الذي وصلوا إلى مرحلة اليأس المطلق.