الأزمات ليست قدراً:الدَّين يلاحق المصريين من الولادة حتى الممات

الأزمات ليست قدراً:الدَّين يلاحق المصريين من الولادة حتى الممات

11 يوليو 2016
تحرك ضد صندوق النقد (خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -
يولد كُل يوم طفل مصري، وتستخرج شهادة ميلاده استعداداً لبدء رحلته في الدنيا وسط آمال لمستقبل مشرق. إلا أن الحكومة تُثبت في سجلاتها أن هذا الطفل عليه ديون تقدر بنحو 32260 ألف جنيه، تعادل نصيبه من الدَّين العام للبلاد الذي قفز بمعدلات مهولة، حتى وصل إلى 2.968 تريليون جنيه.
والمسألة تزداد تعقيداً لكل أسرة مصرية خاصةً الفقيرة منها، والتي تمثل قرابة 48% من الشعب بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، حيث أن متوسط نصيب الأسرة الواحدة من الديون يبلغ 129 ألف جنيه قياساً، إلى أن متوسط عدد أفراد الأسرة 4 أفراد.

زيادة في الديون... وخدمتها
وبحسب تصريحات الخبير الاقتصادي، رأفت منصور، فإن المواطن يُسدد نصيبه من الديون بطريقة غير مباشرة، تتمثل في إلغاء الحكومة لمخصصات الدعم تدريجياً عن الوقود والسلع الغذائية، ما يرفع من المصروفات التي تستدعي اللجوء إلى الاستدانة.

ويوضح منصور، أن الارتفاع في الديون يؤدي إلى زيادة عجز الموازنة بشدة، ومن ثم اضطرار الحكومة إلى زيادة الفائدة على القروض والديون التي تحصل عليها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى زيادة حجم القروض التي تحصل عليها الشركات والمواطنون، ما يعني أن أي قرض شخصي لبناء مسكن أو شراء سيارة يشهد ارتفاعاً كبيراً في الفوائد.
وبالفعل قام البنك المركزي منتصف يونيو/ حزيران، برفع سعر الفائدة 1% ليصل سعرا عائد الإيداع والإقراض، ليوم واحد، إلى 11.75% و12.75% على التوالي، ويأتي ذلك بعد 3 أشهر فقط من زيادة سعر الفائدة بنسبة 1.5%.
"هذه الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة سيرفع كُلفة إقراض الشركات، وبدورها سترفع الشركات أسعار الخدمات والسلع حتى تحافظ على هوامش الربحية. وبهذه الطريقة يدفع المواطن ما عليه من ديون طوال العُمر"، والحديث لمنصور.
وقد سجل مؤشر التضخم الذي يعد أحد وسائل قياس ارتفاع الأسعار أعلى مستوى له منذ 7 سنوات بنسبة 12.3%.
ووسط اتجاه النظام إلى الاعتماد على الاستدانة كحل سحري مؤقت لسد تفاقم الفجوة بين المصروفات المرتفعة للغاية والإيرادات المتدنية، وسوقت الحكومة، منذ يوليو/ تموز 2015، بيع ديون للمستثمرين والمصارف بقيمة 509 مليارات جنيه حتى تسدد أقساط فوائد الديون والقروض المتراكمة.
وبتحليل بسيط لتطور تكلفة خدمة الدَّين العام للبلاد، وهي تتضمن المبالغ المسددة كفوائد على القروض، سنجد أن تكلفة خدمة الدّين العام شهدت تطوراً كبيراً خلال آخر 7 سنوات، حيث ارتفع نصيبها من إجمالي مصروفات الدولة من 12% في العام المالي 2008 / 2009، إلى 28.2% في 2015/ 2016.

كما قدرت موازنة العام المالي الحالي الفوائد المطلوب سدادها للديون بـ 244.044 مليار جنيه بما يعادل 8.6% من الناتج المحلي بزيادة قدرها 22.6% دفعةً واحدة عن العام المالي الماضي.
"وضع الديون في البلاد بات متأزماً للغاية والوضع ينذر بأزمة تلوح في الأفق، فهي في طريقها للارتفاع من 1.25 تريليون جنيه في العام المالي 2010-2011 إلى أكثر من 3 تريليونات جنيه" بحسب وزير المالية الأسبق ممتاز السعيد.


ارتفاع كلفة الخدمات
ويضيف السعيد أن الموقف سيتأزم أكثر مع مرور الوقت نظراً لأن العجز في الموازنة الناتج عن تفاقم المصروفات وضعف الإيرادات سيتضخم يوماً بعد الآخر، حيث سجل العام المالي الماضي رقماً قياسياً بقيمة 279.4 مليار جنيه. هذا الأمر سيؤدي إلى زيادة الحكومة سعر الخدمات المقدمة للمواطنين وارتفاع أسعار كافة السلع مثل العقارات والأغذية والسيارات وخدمات التعليم والصحة.
"هذا فضلاً عن أن الانكفاء المصري على الدّين، وكذلك خفض الجنيه مقابل الدولار منتصف مارس/ آذار من 7.73 جنيهات إلى 8.85 جنيهات، أدى إلى ارتفاع الفائدة على الديون، وهو ما يزيد من أعباء الفائدة التي تحول دون تنفيذ أي خطط لتحسين حياة المواطن" بحسب وزير المالية الأسبق.
هذا الوضع الذي لا تحسد عليه البلاد، أدى إلى تقليص مخصصات الإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي وتطوير خدمات المواطنين. وهو ما يؤكده شريف إسماعيل رئيس الوزراء، حين أشار في تصريحات سابقة، إلى أنه لم يتبق في الميزانية سوى 164 مليار جنيه للإنفاق على الصحة والتعليم والإسكان والصرف الصحي ومياه الشرب والطرق.
وعند تمحيص الأرقام سنكتشف حجم الفاجعة التي تهدد الجيل المقبل، فقيمة الفوائد على الديون بالموازنة الحالية تبلغ 244.044 مليار جنيه، أي بزيادة 107.441 مليارات جنيه عن قيمة الدعم المخصص بنحو 136.603 مليار جنيه لخدمات التموين والمزارعين والبترول والكهرباء والأدوية وحليب الأطفال والمياه.
وفي ضوء ذلك، ستواصل البلاد اللجوء إلى الاقتراض من داخل وخارج البلاد. وبناءً عليه سترتفع تكلفة خدمة الدّين العام وهو ما يؤدي إلى تقليص المخصصات المالية للإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي وتطوير الخدمات المقدمة للمواطنين.
ويلفت وزير المالية الأسبق إلى أن وزارة المالية توسعت في السحب على المكشوف عبر الاقتراض من البنك المركزي دون وجود رصيد نقدي يغطي هذا السحب حتى تجاوز الحدود القانونية القصوى المسموحة بها بنسبة 10% من متوسط الإيرادات خلال السنوات الثلاث السابقة.

وهو ما رصده الجهاز المركزي للمحاسبات بوصول رصيد السحب على المكشوف إلى 249.06 مليار جنيه حتى يونيو/ حزيران 2015، ما يوازي 5 أضعاف من الحد المسموح به.
ويشدد السعيد على أن استمرار سير الأمور المالية بهذه الصورة سيقضى على حلم الجيل المقبل. لذا هناك عدة ملفات يجب طرقها بلا هوادة، أبرزها فحص الملفات الضريبية المتأخرة لشركات كبرى منذ أكثر من 7 سنوات.
كما يطالب بضم الصناديق الخاصة التي تأسست في عهد مبارك لمصلحة رجال الدولة إلى ميزانية البلاد، فقيمتها ضخمة للغاية إذ تتراوح بين 60 إلى 70 مليار جنيه.

قطار الديون لا يتوقف
"الخطر الحقيقي لا يكمن في الديون الحالية فقط، بل يتمثل في استمرار زيادة فجوة عجز الموازنة الذي وصل إلى 12%، حتى الآن، وهي نسبة مرتفعة عالمياً. واستمرار هذه الفجوة يعني أن مصر مجبرة على الاستمرار في الاستدانة وفي المقابل خفض مستوى الخدمات الاجتماعية والصحية المقدمة للمواطنين" بحسب الخبير المصرفي مصطفى محمود.
ويشير محمود في تصريحات إلى أن الحكومة تفتقر إلى رؤية معالجة عجز الموازنة، وتصر على استكمال تنفيذ مشروعات بمبالغ ضخمة في الطرق والزراعة كبديل عن القطاع الخاص الذي يتوخى الحذر من مخاطر التوسع في ضخ استثمارات الآن.
في حين هناك جانب مُخيف يتجاوز حدود قدرة الدولة والمواطن على تحمله في صورة زيادة الأعباء المالية، يتمثل في تضخم الديون الخارجية بوتيرة سريعة للغاية من شأنها الإنقاص من استقلالية القرار الاقتصادي. ويأتي ذلك خاصة في ظل محاولة إقناع المستثمرين الأجانب بالاكتتاب في السندات الحكومية بالخارج.
فخلال الأشهر الثمانية الماضية فقط طرحت الحكومة سندات للمستثمرين بقيمة 1.5 مليار دولار، ثم قامت ببيع أذون خزانة على مرحلتين بقيمة 732.2 مليون يورو، و674.5 مليون يورو على التوالي.
وقد سجلت الديون الخارجية مستويات غير مسبوقة، فخلال أقل من عام ارتفع إجمالي الدّين الخارجي للبلاد إلى 53.444 مليار دولار، في الربع الثالث الذي انتهى في 31 مارس/ آذار، من 39.853 مليار دولار في الربع المقابل من 2014-2015.

وتتضح دلالة هذا الرقم عند مقارنته بأهم مصدر للدولة من العملة الصعبة، وهي الصادرات التي لم تتجاوز حاجز 20 مليار دولار، أي أنها تعادل 37.4% من الدّين الخارجي.
والأكثر إثارة في الأمر هو أن البلاد اقترضت من الخارج دون استبيان القدرة على السداد، وهو ما عبر عنه ضمنياً البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية أخيراً، أن رئيس الجمهورية، عبدالفتاح السيسي، شدد على أهمية عدم التوقيع على أي قرض جديد لتمويل أي مشروع دون التأكد من القدرة على السداد.
ويتناقض هذا البيان مع السياسات التي يطبقها رئيس الجمهورية، والتي أسفر آخرها عن توقيع مصر على عقد اقتراض 25 مليار دولار من روسيا لبناء محطة طاقة نووية، وذلك على الرغم من تفاقم الدّين الخارجي وتسجيله أرقاماً قياسية.
ويؤكد الباحث الاقتصادي، إبراهيم نور الدين، في تصريحات على أن الدولة فقدت قدرتها على السيطرة على الديون الخارجية التي تضاعفت خلال أقل من 5 سنوات، في الوقت الذي تتراجع فيه موارد الدولة من العملة الصعبة سواء من الصادرات أو الاستثمار الأجنبي أو السياحة أو تحويلات العاملين في الخارج أو قناة السويس.
وتزداد خطورة الاقتراض من الخارج مع وصول إجمالي الدين العام إلى 103% من الناتج المحلي الإجمالي، وبذلك تتجاوز الحدود الآمنة للاستدانة والتي تتراوح بين 50% إلى 55% بحسب المؤشرات الاقتصادية العالمية.
"الوضع الاقتصادي المتأزم للبلاد دفع الشركات العالمية للتأمين على الديون، لرفع كُلفة التأمين على ديون مصر إلى أكثر من 5% مقارنة بـ 2.88% في 2014. الأمر الذي يعني ارتفاع كُلفة أي قروض خارجية جديدة نظراً لرؤية الشركات أن المخاطر باتت مرتفعة للغاية"، والحديث لنورالدين.
ويشدد الأخير على أن مصر بحاجة لإيجاد مصادر دخل إضافية مثل إعادة النظر في الرسوم المتدنية لامتيازات استغلال المحاجر وكذلك ضرورة حث القطاع الخاص على مشاركتها في المشروعات الكبيرة التي تتطلب استثمارات ضخمة بهدف تخفيف أعباء المصروفات.

المساهمون