وزير العدل وعشيرته وقبيلة الحكم

وزير العدل وعشيرته وقبيلة الحكم

18 مايو 2015
القضاء من المهن المحرمة على فقراء مصر (أرشيف)
+ الخط -
شغلت تصريحات وزير العدل المصري محفوظ صابر الرأي العام، حين أعلن رفض مجلس القضاء تعيين "ابن الزبال" أي عامل النظافة في الهيئات القضائية، معتبراً أنه غير لائق اجتماعياً. صُدِمَ جمهور الشباب بصراحة الوزير، لكن "سيادته" وبرغم الغضب العارم أصر عليها، فكان أكثر صراحة من رئيس الوزراء الذي أعلن "أنه خادم للشعب"، ككل رجال النظام الذين لا يبيعون الناس سوى الكلام المعسول الذي لا يسدّ الجوع، ولا يوفر عملاً للمعطلين، ولا يخفّف من مأساة القابعين خلف قضبان السجون.

غير أن التعليقات لم تتوقف إثر استقالة الوزير، بل اقترحت وزيرة الدولة للتطوير الحضري ليلى إسكندر يوماً للاحتفال بعمّال النظافة، وخرج رئيس جامعة القاهرة الدكتور جابر نصّار لينظف الجامعة حاملاً مقشة "الزبالين". كاد كل وزير أن يحمل مقشته أمام الإعلام لينفي عن نفسه ثقافة سلطة تقرّ التمييز بين المواطنين، قولاً وفعلاً.

يمكن أن تحيلنا هذه الواقعة إلى عدد من الحقائق: أوّلها أننا أمام نظام طبقي يمارس التمييز والعنصرية علانية، فضلاً عن كونه أبعد ما يكون عن نموذج الدولة الحديثة، حيث تشكل البنية السياسية للدولة، بمكوناتها ما يشبه دولة القبيلة التي تتحكم في مواردها وثرواتها ومواقعها التنفيذية مجموعة محدودة.

هذا البناء يسيطر عليه رجال الأجهزة الأمنية والتشريعية والأجهزة المعرفية؛ والثلاثي السلطوي يحكم السيطرة السياسية والاقتصادية على البلاد. وترتبط هذه البنى بفئات طبقية ثرية يجمعها الوضع الاقتصادي، وأيضاً بنى اجتماعية تتمثل في علاقات المصاهرة والقرابة. وفي هذا السياق الطبقي - الاقتصادي والاجتماعي - القرابي، لا يمكن أن يصل إلى المواقع العليا في أجهزة السلطة، كالشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي، إلّا أعضاء هذه العشيرة التي هي قلب "القبيلة الحاكمة "بالتعبير الأنثروبولوجي.

وبرغم معرفة هذا الوضع، فإن تصريحات وزير العدل شكلت جرحاً عميقاً وإهانة لملايين يريدون تغيير هذا الواقع، في سبيل تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وفتح المجال لتقلد أبناء مختلف الفئات الشعبية مواقع اتخاذ القرار.

وقد كشفت الواقعة أيضاً قدرة الشباب وتأثيرهم، حتى وإن كانت الوسيلة المتاحة هي الاحتجاج على صفحات الفيسبوك. كما يتناقض الغضب مع ما تصوره البعض من أن حالة الإحباط جعلت الجميع يسلّم ويرضخ للسلطة وما يصدر عنها، كاشفاً عن تململ الشباب وضيقهم من ممارسات السلطة بشكل عام.

إقرأ أيضا: مصر تطبق مقولة "ابن القاضي قاضي"

هذا علماً أن تلك التصريحات لم تكن الأولى، فقد سبقتها تصريحات سابقة اعتبرت القضاة فوق المحاسبة، وأنهم أسياد الناس بحسب تعبير المستشار أحمد الزند. فالسلطة التي تحكم لا تريد إدخال أولاد العمال والفلاحين البسطاء إلى المواقع القضائية والتنفيذية. ومردّ ذلك إلى خشيتها من أن تقوم تلك الفئات بتنفيذ سياسات ضد مصالح القبيلة الحاكمة. ما يحتّم ان يكون كل المرشحين إلى تبوء مناصب رفيعة من سلالة الأسر الإقطاعية أو من أبناء رجال الأعمال. وهنا تتضح إشكالية جديدة وهي أن القوانين حتى وإن كان فيها ما يحترم حقوق الإنسان، أو يدعو إلى المساواة بين المواطنين، فإنها تغدو حبراً على ورق، طالما أن المكلفين بتطبيقها هم أبناء الطبقات الحاكمة المتوارثة.

والحال أن السلطة الحاكمة أرجعتنا إلى حقائق الواقع الصادمة، والمتمثلة بأننا نشهد بعد الثورات العربية السياسات الاقتصادية عينها، والبناء السياسي نفسه الذي يرسّخ التمييز بين المواطنين، بحيث تصبح أحلام المساواة والترقّي الاجتماعي وهماً لا يتحقق في ظل سلطات، همّها الأوحد تكريس الوضع القائم، وتحويله إلى جوهر مطلق لا يقبل التغيير. بتعبير أدق، يصبح عمل المواطن ومستواه الاجتماعي قدراً متوارثاً من جيل إلى جيل، كما لو أنه ابتلاء وإرادة من الله والسلطة.

‏هكذا، إذن، تقف أحلام تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين يتيمة ومحاصرة بفئات طبقية تحكم بالتوارث، وتحرص على إغلاق ‏باب تولي مواقع اتخاذ القرار خلفها.‏
(باحث في الانثروبولوجيا الاجتماعية – جامعة القاهرة)

إقرأ أيضا: ما هو الاتحاد النقدي؟

المساهمون