الدنماركي الفلسطيني

الدنماركي الفلسطيني

07 ديسمبر 2014
+ الخط -
حين قصد عماد كعوش رومانيا لدراسة طب الأسنان فيها، خارجا من مخيم المية ومية في جنوب لبنان، وجد أهله يقدمون يد المساعدة له رغم قسوة الظروف وتشتت العائلة في قارات عدة. تكفل إخوته بتقديم ما يمكن لإتمام الدراسة، وبحسب ما يقول لـ "العربي الجديد": "لم أحصل على منحة دراسية من أحد، فإخوتي هم الذين منحوني الدعم، وحين أنهيت دراستي توجهت إلى منظمة التحرير الفلسطينية عام 1987 عارضا عليهم العمل في أي مشفى فلسطيني، للأسف كان الوضع صعبا على المنظمة وعلى جميع الفلسطينيين". 

كان عماد في ذلك الزمن متحمسا للعودة إلى لبنان ومخيمه في الجنوب، لكن حماسته تلك وبحسب ما يقول: "حاصرتها حالة حصار مخيمات الفلسطينيين في لبنان. كنت أدرك أيضا قوانين منع مزاولة المهنة، التي لم تتغير، ففي لبنان ممنوع على كطبيب في أي تخصص أن أزاول مهنتي سوى داخل المخيم. كانت لبنان مغلقة بوجهي في ذلك الحين، وأنا ما زلت شابا مندفعا". 

وجد فرصته في السفر، "والنافذة الوحيدة هي مواصلة الطريق شمالا". وجد طبيب الأسنان نفسه في مجتمع آخر وأنظمة دراسة وعمل مختلفين عما عرفهما. فهو لم يكن قادرا على البدء من جديد في دراسته، ثم وجد نفسه أيضا مصابا بمرض "ديسك". 

يعرض عليه المجتمع الجديد القبول بالعيش على "المساعدات الاجتماعية"، وبذلك "أصبح عالة على مجتمع لم يكن للفلسطيني القادم إلى هذه البلاد صورة طيبة في البداية عنها، بفعل رواسب الرواية الصهيونية". 

رفض عماد تلك العروض التي تقعده كشاب يقول: "تربيتي في بيت فلسطيني عنى لي الكثير، من جدتي إلى أمي وأبي كان صدى جمل الدراسة والكفاح في الحياة تتردد في داخلي، فلم يكن سهلا علي، ولو كنت أعاني من مرض في الظهر". 

بدا مشهد القدوم الفلسطيني الكبير في أواسط التسعينيات إلى المدينة التي يقطنها عماد خليطا من مخيمات لبنان، حيث كان بالفعل بدأ بدراسة أخرى في كلية التربية. وفي ذلك المشهد كثير من الأطفال واليافعين القادمين من حالة حرب وحصار دائمين، وبحسب ما ذكره "فإن المشهد كان مقلقا لي ولغيري، فكيف سينمو هؤلاء في مجتمع آخر وفي جعبتهم صدمات كثيرة. وذلك القلق، وخصوصا المتعلق بمسألة الهوية وعدم ضياعها كانت محفزا لي لاختيار وظيفتي". 

أصبح عماد جزءا من مشهد منطقة مكتظة بالوجود المهاجر، عبر مشاريع أندية لرعاية اليافعين والأطفال. وفيه إلى جانب حلقات الإرشاد والنصح، لمنع هؤلاء من الانخراط في أعمال غير قانونية، وحتى لا يصبح الإحباط هو المسيطر "أنشئنا أندية ثقافية ورياضية مفتوحة للجميع، لقد تأسس ناد رياضي لكرة القدم (آي سي أف سي) يضم العشرات من كل الأعمار، وبات لدينا فريق ينافس في البطولات حتى يومنا هذا". 

ويذكر عماد بأن "الدنماركيين حين وجدوا توجهنا نحو مساعدة هؤلاء الأطفال في التحصيل العلمي والنشاطات الاجتماعية، اندفعوا في رفع شأن ومكانة تلك الأنشطة وذلك العمل التربوي الذي نعمل فيه منذ 20 سنة". 

العمل التربوي الذي يعمل فيه عماد كعوش، كموظف حكومي، لم يثنه عن العمل التطوعي الآخر "فالهوية الفلسطينية هاجسي"، يقول "أبو جهاد" وهو يروي كيف أنهم فرضوا على المديرين القيام برحلات لفريق كرة القدم إلى مخيمات لبنان "كان يحمل الأطفال والشباب حقائب كبيرة، يأخذون معهم كل ما يتعلق بكرة القدم، يلعبون مع فرق محلية في المخيمات ويقدمون الدعم لها حتى الآن". 

ما يشغل هؤلاء المتطوعين في العمل بين الشبيبة "هو تعزيز الانتماء الثقافي والحضاري بلغتهم وبفلسطين، ومنع الجنوح نحو التطرف وما يسيء لنضال الشعب الفلسطيني. الأمر بسيط بالنسبة لنا، فكلما كانت الهوية قوية كلما كان الاندماج أسهل. لقد ركزنا كثيرا على تعزيز الشخصية لتكون جسرا للتواصل مع الآخر الأوروبي". 

تم تأسيس "فرقة جفرا للفنون"، وعملت "جفرا" على جذب الأطفال والشباب نحو فنون مسرحية وإعلاء قيمة التراث الفلسطيني. هذا العمل التطوعي ضم 130 شابا وشابة جرى تدريبهم باحترافية على يد الفنان الفلسطيني محمد الحاج. 

تقبل المجتمع هذه الفرقة بسرعة كبيرة، ودعيت إلى جولات في كل المدن وقدمت عروضا كانت مؤثرة "أدت إلى قيام فرق بين الجاليات، ليس الفلسطينية فحسب، فحتى الصوماليون بات لديهم فرقة". 

لم يندم "الدكتور عماد" على اختياره لدراسته وعمله الجديدين منذ عقدين، بل يقول "على العكس من ذلك، فحين ينتج عن تراكم العمل الجماعي الذي قمنا به في صفوف الشبيبة الفلسطينية زيادة كبيرة وتنافسا في الدراسة بين هؤلاء الشباب والشابات، ومنهم من أنهى دراسات أكاديمية جامعية وتحولوا إلى صورة ومثل أعلى للجيل الثاني والثالث، فهذا أمر يعتبر حاسما، وخصوصا مع تعاون الأهل وثقتهم بأطفالهم وتحول الصورة من السلبية إلى الإيجابية في التأقلم والاندماج". 

ويعتبر عماد وزملاؤه بأن العمل الذي قاموا به على مدى سنوات كان له دور مؤثر، إذ "كلما برزت مشكلة أو ظاهرة مقلقة للمجتمع، من مثل الجنوح نحو التشدد التي يتخوف منها المجتمع، وخصوصا في هذه المدينة، نقوم بدورنا في الحوار مع الشباب والحديث الصريح معهم". 

من بين عدة آلاف يقيمون في مدينة آرهوس، قلة من الفلسطينيين والمهاجرين من لا يعرفون عماد كعوش، والدنماركيون يعترفون بجهوده على مدار السنوات، وخصوصا أن فرقة "جفرا" باتت معروفة في القصر الملكي حيث حضر عروضها زوج الملكة الأمير هنريك وولي العهد الثاني يواكيم في عروض الفرقة في المكتبة الملكية بكوبنهاجن. 

اختاره هؤلاء لينافس خمسة مرشحين دنماركيين على لقب "شخصية العام" حيث ركزت وسائل الإعلام على ذلك "الدنماركي-الفلسطيني". وهو يقول عن حصوله على الجائزة يوم 1 ديسمبر/كانون الأول "هذا الفوز ليس شخصيا، بل هو لكل هؤلاء من الجالية الفلسطينية والعربية التي لعب فيها الجميع دورا في إبراز هويتنا الحقيقية، وتمسكنا بالهوية مثار احترام عند محيطنا".