تحولات العلاقات الإيرانية الفلسطينية.. صعود الطائفية

تحولات العلاقات الإيرانية الفلسطينية.. صعود الطائفية

07 نوفمبر 2015
حسن نصرالله
+ الخط -

كان موقفاً تاريخياً بحقّ، إيران ما بعد الشاه تطردُ الدبلوماسيين الصهاينة، وتستقبلُ ياسر عرفات، ليكون أوّل ضيفٍ أجنبيّ يزور الخميني بعد تولّيه مقاليد إيران، ويتسلّم باسم منظمة التحرير مبنى السفارة الصهيونية، ليتحوّل إلى أوّل سفارةٍ فلسطينية في العالم، وتبدأ إيران مشواراً طويلاً في دعم القضية الفلسطينية، بلا شروط، ولا خطوط حمراء، أو هكذا بدا الأمر زمناً غير قصير!.

كانت العلاقة حميمةً جداً بين إيران الجديدة ومنظمة التحرير، غير أنّها لم تطُل، عكّرتها أشياء كثيرة، لكن ميل المنظمة، خاصّة فتح، إلى العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية سبب فتوراً كبيراً في العلاقة، حاولت إيران بعد أن تجد لها خطوطاً أخرى لدعم القضيّة من خلال الحركات الفلسطينية الإسلامية، الجهاد الإسلامي في البداية، ثم حماس، إذ اعتبرتهما إيران أكثر ثوريةً، وأقرب أيديولوجياً بحكم أدبياتهما الإسلاميّة.

وهكذا منذ نشأة "إيران الإسلامية" ظلّت فلسطين حاضرةً بقوة في سياستها الخارجيّة معظم الوقت، وتطوّر الأمرُ بقوّة في سنوات انتفاضة الأقصى، من سفينة "كارين إيه" المُرسلة لعرفات، إلى الدعم شبه العلني لحركتي حماس والجهاد بالمال والسلاح والتدريب، مع محاولات لتجنّب نقاط الخلاف، سواءً ما يتعلّق بالاختلاف المذهبيّ، أو دور إيران في العراق، أو غير ذلك من أمورٍ لم يتفق عليها القوم.

اقرأ أيضاً: نحن وإيران والمنظور الطائفي للصراع

الربيع العربيّ: نقطة التحوّل وتغيّر الأولويات

كان الربيع العربي حلقةً فاصلةً في تاريخ علاقة إيران بالعالم العربي، وفلسطين بطبيعة الحال، أيّدت إيران بادئ الأمر الثورات العربية، ورفع حسن نصر الله فوق رأسه أعلام الثوار في تونس ومصر واليمن والبحرين، يتوسطها علم الثورة الليبية التي أصبحت في ما بعد "ثورة الناتو"!، إلى أن بدأت الثورة السورية، فاستحالت الثورات كلّها مؤامرةً كونيّة على محور الممانعة، وتحوّل القومُ من تأييد الثورات إلى تشويهها، والانخراط في تحالف انتهازيّ وغير أخلاقيّ مع الثورات المضادّة!.

هنا ولأول مرة بدأت إيران تدير ظهرها للفلسطينيين، وتغيّر من طريقة تعاملها مع حماس والجهاد، والقضية برمتها؛ فهؤلاء الثائرون على المحتلّ لهم موقفٌ من إخوتهم الثوار العرب،  يختلف قليلاً أو كثيراً عن موقف إيران: الداعمِ علناً للأسد، والمقاتل جنباً إلى جنب مع مخلوع اليمن، والمتحالف بتحفظ يسير مع نظام مصر الجديد، تحفظ لم تسببه علاقته الوطيدة بالصهاينة، بقدر تشوّش مواقفه من بعض الملفات الحساسة لدى إيران، والناتج عن احتياجه المذلّ للدعم الخليجيّ.

استنزفت المنطقة العربية، والصراعات الطائفية الجارية فيها جهدَ إيران وطاقتها، وانزوت فلسطينُ بعيداً عن اهتماماتها، وهي في غضون ذلك تسعى للتصالح مع الغرب، بل مع "الشيطان الأكبر" رأساً، ولا شكّ أنّ دعم فلسطين ليس مرغوباً لدى "الشيطان الأكبر" بحال بل يُسعده أن يرى إيران تنهمك في حروبها الطائفية بدلاً من ذلك، وهو جاهزٌ للتحالف معها في بعضها، كما حصل واقعاً في العراق وسورية.

لم يقف الأمر على الشيطان الأكبر، بل تعداه إلى الأصغر إن صحّ التعبير، إذ بلغ الأمر بتسيبي ليفني أن تصرّح جهاراً بأن نتنياهو لم يدرك بعد أن "إيران وحزب الله جزءٌ من الحلّ في سورية".

اقرأ أيضاً: آيات الرحمن في جهاد الهان

تراجعٌ عمليّ وتصاعدٌ شعاراتيّ

وسط هذا الواقع الجديد، من علاقة إيران بفلسطين، ومن باب الإنصاف، ما زال لدينا "يوم القدس"، وإن تحول إلى فرصةٍ يخبرنا فيها الأمين العام لحزب الله أن طريق القُدس يمرّ من الزبداني! ولدينا أيضاً "فيلق القدس" الذي يقاتل في كل مكانٍ عدا القدس! وما زالت لدينا قنواتُ العالم والميادين والمنار، فلا بأس على فلسطين، لا بأس.

لقد كانت إيران على طول سنوات دعمها للقضية الفلسطينية مستثمرةً جيدة، ولم تفوّت يوماً فرصةً لفائدةٍ إعلامية خارجية أو تعبويّة داخلية، تستفيدُ فيها من اسم فلسطين، وهو حقّها لا شكّ! غير أنّ الأمر اليوم بات شعاراتياً استغلالياً أكثر من كونه استثماراً مشروعاً لموقفٍ حقيقيّ! ولم تعد فلسطينُ سوى مطيّةٍ يمتطيها الإيرانيون وأتباعُهم في حروبهم البعيدة.

"القدس الشيعية" والطريقُ المتاهة

منذُ أشهرٍ ذاعت قصيدةٌ، تحملُ اسم "القُدس الشيعية"، لم يكتبها أحد المجهولين أو المنبوذين، إنّما شاعرٌ يبدو أنه ذو حظوةٍ كبيرة لدى "حزب الله" و"أمل"، وتُرعى أنشطته رعاية رسمية، كانت القصيدة مثيرةً إلى درجة أن قناة "الجزيرة" أعدّت تقريراً خاصاً حول بعض ما ورد فيها.

من يستمعُ للقصيدة يظنّ أن القُدس تحت احتلال آخر غير الاحتلال الصهيوني، إذ تجمل مضامين طائفية، وسط التأكيد أن "القدس لنا، والأقصى لنا، والصخرة لنا". تحاكي القصيدة برمزيّة عاليةٍ موقف "حلف الممانعة" الحاليّ من فلسطين والقُدس، فالقُدس حاضرةٌ في العنوان الظاهر، شبه غائبة عن داخل القصيدة، فاحتلّت منها قدراً ضئيلاً، وكان أكثرُها موجّهاً باتجاهاتٍ بعيدةٍ تماماً، لقد كانت صورةً أدبية للخارطة المؤدية للقدس عبر حمص والزبداني، غير أنها تشعّبت كثيراً، وبما لا يخالفُ واقع الحال إطلاقاً.

كان للشام نصيبُ الأسد من القصيدة والحماسة فيها، إذ "صار يمها الالتقاء.. حرس وحزب ولواء" يقصد: الحرس الثوريّ، و"حزبُ الله"، و"لواء أبو الفضل العباس" سيّئِ السمعة والطائفي، غير أنّه نسي على ما يبدو الطائرات الأميركية، إذ لم تكن بعيدةً عن هذا المُلتقى.

طريقُ "القدس الشيعية" لم تنس الكعبة أيضاً، إذ يبدو أن الجيوش "الممانعة" مضطرّة للمرور بالبيت الحرام، ورفع رايةٍ هناك للمطالبة بـ"ثارات السبايا"، ممّن؟ لا أدري! ولم يفت الشاعر أن يحتفل بأنّه: "صارت اليوم اليمن .. رافضيّة للعلن"، هكذا قال.

ثم نوّه الشاعر بشيعة البحرين، و"الحملة التي يشنونها" وفق ما عبّر هو، وبشّر "بتحرير" الجزيرة العربية كلها عن قريب، بُهتاف "يا علي"! ولم ينس العراق من ملحمته الطائفية، والتي لم تدع بُقعة من بقاع النشاط الإيرانيّ، إلا وأوفته حقّه من الشحن والتحريض والوعيد، وكلّه تحت شعار "القدس لنا".

لم تكن هذه القصيدة بحال بياناً صادراً عن دائرةٍ رسمية إيرانية أو تابعةٍ لحزب الله أو الحوثيين أو غيرهم، ولا كان شاعرها المحظيّ ولا مغنّيها شديدُ الحماسة والاشتعال ناطقَين باسم حلف الممانعة، لكن لم يكن لأي بيانٍ أو حديثٍ أن يصوّر بإبداع حال "محور الممانعة" مع القدس وفلسطين، في زمن ما بعد الربيع العربي مثلما صوّرته، مع اختلاف بسيط، هو أنّ القصيدة كانت أكثر صدقاً في انتمائها الطائفيّ من رأس الممانعة، إيران التي لا يبدو أنّ المعتقد يحرّكها بقدر ما تستغله هي وسيلة للحشد والتجنيد والتمدد.

-------
اقرأ أيضاً:
لعبة العروش.. تاريخ الواقع يفرض نفسه على عالم الخيال