تلوث باريس... هواء خانق في "عاصمة النور"

تلوث باريس... هواء خانق في "عاصمة النور" ينشر الأمراض التنفسية

باريس

محمد المزديوي

avata
محمد المزديوي
07 نوفمبر 2017
+ الخط -
يشعر أخصائي الوبائيات في معهد اليقظة الصحية كريستوف دوكليريك بالقلق جراء تلوث هواء باريس بجسيمات ضارة بالجهاز التنفسي والأوعية القلبية لأهالي "عاصمة النور" الذين تنتشر بينهم الأمراض التنفسية ومن بينهم مدربة اليوغا، كلوتيلد نونّيز، التي تدهورت صحتها على مر السنين بعد انتقالها إلى العاصمة الفرنسية قبل 30 عاماً، إذ أصيبت بالربو، والذي أعقبه التهاب مزمن في القصبات الهوائية، وآخر رئوي، ثم التهاب الجيوب الأنفية والتهاب الأذن، وتلاه التهاب الجنبة (البطانة المحيطة بالرئتين)، حتى وصل الأمر إلى فشل تنفسي حادّ إضافة إلى التهاب التامور (الغشاء الناعم المزدوج الجدار الذي يحيط بالقلب).

وفي كل مرة تعلن بيانات جمعية إيرباريف التي تراقب جودة هواء العاصمة وضواحيها حالة إنذار من تزايد التلوث، تسقط الخمسينية نونّيز مريضة حسب ما قالت باستياء قبل أن تكمل "أنا مهووسة بإيرباريف. ويتوجب عليّ تتبع نشرتها، من أربع إلى خمس مرات، يومياً، وفي كل مرّة يطول التلّوث أسقُطُ مريضة".

وقاضت نونيز الدولة الفرنسية بتهمة "التقصير" في يونيو الماضي، إذ تسبب تلوث الهواء في وفاة 48 ألف شخص كان بالإمكان إنقاذ 34 ألفاً منهم، بحسب ما قالته أخصائية الأمراض التنفسية كورين مورو لـ"العربي الجديد"، معتمدة على دراسة أجرتها وكالة الصحة الوطنية الفرنسية في عام 2016، أكدت على أن تلوث الهواء مسؤول عن وفاة 9% من إجمالي عدد الأشخاص الذين يلقون مصرعهم في البلاد كل عام.


خطورة تلوث الهواء

يعد "تلوث الهواء سبباً رئيسياً من أسباب المرض والوفاة"، بحسب ما تؤكده الدكتورة فلافيا بوستريو، المديرة العامة المساعدة المعنية بصحة الأسرة والمرأة والطفل في منظمة الصحة العالمية، فيما يؤدي تلوث الهواء المحيط، والذي يتكون من تركيزات مرتفعة من الجسيمات الصغيرة والدقيقة، إلى 3 ملايين وفاة مبكرة سنوياً. ويتزايد تلوث الهواء في المناطق الحضرية عالمياً بمعدل مقلق، وهو ما له آثار مدمرة على صحة البشر، وفق ما أوضحته الدكتورة ماريا نيرا، مديرة الإدارة المعنية بالصحة العمومية والمحددات البيئية والاجتماعية للصحة في منظمة الصحة العالمية في بيان صحافي منشور على الموقع الإلكتروني للمنظمة.

ملوثات هواء باريس

يتعرض مليون ونصف مليون من سكان باريس وضواحيها إلى مستويات تلوث عالية من غاز ثاني أكسيد النيتروجين، وأكثر من يتعرضون لهذا الخطر، سكان وسط العاصمة الفرنسية، والتجمعات السكانية على طول محاور الطرقات الكبرى، والمناطق العمرانية المزدحمة، بحسب تصريحات فريدريك بوفيي رئيس جمعية إيرباريف (Airparif) المستقلة والتي تعمل في مراقبة جودة الهواء منذ تأسيسها في عام 1979 بعد أن أجازتها وزارة البيئة لمراقبة جودة الهواء في مجموع باريس وضواحيها.

وتكشف النتائج اليومية لحالة التلوث في باريس عن ارتفاع مؤشر التلوث الذي لم ينخفض سوى مرة، أو مرتين تحت درجة 25 ميكروغرام للمتر المربع خلال الفترة من مارس/آذار من عام 2015 وحتى ديسمبر/كانون الأول من عام 2016، بمعنى أن المؤشر كان متوسطاً، أو مرتفعاً، أو مرتفعاً جداً وأحياناً في القمة، ولم يكن ضعيفاً، إلا في حالات قليلة، كما كان الحال في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، فيما كان المؤشر في بقية أشهر العام هو الأسوأ في باريس وضواحيها كما يقول بوفيي، وهو ما أكده الرئيس السابق لجمعية "لإيرباريف" والمستشار الحالي للجمعية، جيروم كْلاف، على الموقع الرسمي للجمعية، لافتاً إلى رصد انتشار كبير لملوثات ثاني أكسيد النتروجين وجسيمات (PM10)  و(PM2.5) في الهواء بمعايير تجاوَزت القوانين المعمول بها لنسب التلوث المسموح بها، ولا تزال مستويات جسيمات (PM10) وأحادي أكسيد النيتروجين موضع خلاف بين فرنسا والمفوضية الأوروبية بسبب عدم احترام فرنسا للتوجيهات الأوروبية حول جودة الهواء كما يقول.

وتتكون الجسيمات الصغيرة والدقيقة (PM10 وPM2.5) من ملوثات مثل الكبريتات والنيترات والكربون الأسود، والتي تخترق عمق الرئتين والجهاز القلبي الوعائي، وهو ما يشكل مخاطر جسيمة على صحة البشر، وفق ما توصلت إليه منظمة الصحة العالمية في مايو/أيار من عام 2016، بعد تحليل لبيانات مقارنة بين 795 مدينة في 67 بلداً.

وينظم مراقبة جودة الهواء في فرنسا جمعيات مستقلة وفق قانون 1901 البيئي، الذي ينظم عمل هذه الجمعيات، وتطبيق وسائل المراقبة من قبل الجمعيات المكلفة العمل لحساب الدولة والسلطات العمومية، بعد أن أجازتها وزارة البيئة الفرنسية لمراقبة جودة الهواء في مجموع باريس وضواحيها، لكن دور هذه الجمعيات لم يثمر عن الحد من التلوث وفق ما قالته كلوتيلد نونّيز.


دعاوى قضائية ضد الدولة

في انتظار تحديد القضاء الفرنسي للمسؤولية القانونية التي تتحملها الدولة تجاه من يعانون بسبب التلوث، لا يزال المرضى مترددين في رفع دعاوى قضائية، ليس فقط لأنها مكلفة مادياً ومعنوياً، بل لأنها أيضاً، غير مضمونة العواقب، وربما ستحسم نتائج الدعوى التي رفعتها كلوتيلد نونّيزالأمر، كما يقول محاميها، فرانسوا لافورغ، مؤكداً أنه حمل الدولة مسؤولية ما جرى لموكلته "لأننا نعتبر الخذلان الطبي الذي تعرض له ضحايا التلوث نتيجة لعدم قيام السلطات الإدارية بشيء ضد تلوثّ الهواء"، وهو ما يشير، بلا شك، إلى أن التحذيرات التي تلقتها فرنسا من طرف المفوضية الأوروبية ظلت، من دون رد، بسبب تجاوزها، خاصة في باريس، للقيم الحدّيّة من الجسيمات ولم يفت المحامي أن يذكّر بقانون البيئة الذي ينصّ على "الحق في تنفّس هواءٍ لا يَضُرّ بالصحة"، مطالباً بتعويض مالي قدره 140 ألف يورو.

تجاوز القيم الحدية

يتجاوز تجمّع ثاني أكسيد النتروجين وجسيمات (PM10) في باريس وضواحيها بشكل كبير للقيم الحدية اليومية والسنوية خاصة بالقرب من مناطق حركة سير المركبات، إذ يبلغ متوسط القيمة المسموح بها سنوياً، 20 ميكروغراماً/ م3، في حين يبلغ متوسط القيمة المسموح بها في أربع وعشرين ساعة 50 ميكروغراماً/ م3، وفقاً لتقدير منظمة الصحة العالمية الصادر في 12 مايو/أيار من عام 2016.

ويدخل 95% من سكان باريس وضواحيها بشكل افتراضي ضمن نطاق المعاناة من تجاوز هدف جودة الهواء الفرنسي الذي تم تحديده في 10 ميكروغرام للمتر المكعب خلال عام 2016، إذ ظلت درجة التلوث مرتفعة بـ 1.4 عن الحد المقرر قانوناً بعيداً عن محاور السير الطرقي، ومرتفعة إلى الضعفين بالقرب من مناطق السير الطرقي، بحسب فريدريك بوفيي.


تكلفة التلوث

يكلف التلوث فرنسا 101.3 مليار يورو (أي بزيادة 30% عن عجز ميزانية الدولة)، وفقاً لتقرير "الكلفة الاقتصادية والمالية للنوعية الرديئة للهواء" الذي كشفت عنه لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ الفرنسي، في 15 يوليو/تموز 2015، وتبلغ كلفة الهواء الملوث ضِعْفَيْ ما يكلفه التدخين، إذ تصل كلفة التدخين سنوياً 47 مليار يورو.

ولا يشمل التقييم الخسائر الصحية للتلوث فقط، بل نتائجه على الصحة والزراعة وعلى النظام الإيكولوجي، وإذا كانت الأمراض التي يسببها تلوث الهواء معروفة، فإنّ الكلفة المرتبطة به من الإيواء الطبي والتعويضات اليومية عن الشغل، ومعاشات العجز عن العمل، ونقص الإنتاجية لم تتمّ الإحاطة بها، بشكل كاف من قبل السلطات العمومية والشركات وفقاً للتقرير.

وتؤدي ملوثات الهواء الغازية مثل ثاني أكسيد الكبريت والجسيمات الرفيعة المتطايرة إلى إثارة الاحتقان في الجهاز التنفسي، وتؤثر على الأوعية القلبية، وتزيد من احتمالية الوفيات قصيرة المدى بالنسبة للأمراض التنفسية والأمراض القلبية الوعائية، وعلى الوفيات طويلة المدى عبر تأثيرات مطفرة، حسبما يقول أخصائي الوبائيات كريستوف دوكليريك.



مقترحات نيابية للحد من التلوث

خلال عام 2014، بلغت نسبة تلوث الهواء في باريس مستويات قياسية تجاوزت 80% من النسب الموجودة في لندن وبرلين، وفقاً لبيانات وكالة البيئة الأوروبية التي أظهرت وجود 147 ميكروغراما من الجسيمات في كل متر مكعب من الهواء في باريس، في حين سجلت الوكالة 114 في بروكسل و104 في أمستردام و97.7 في لندن.

ومن أبرز أسباب تلوث الهواء في باريس دعم استخدام الديزل بدلاً من البنزين وقوداً، وانتشار استخدام المركبات الخاصة، وحتى تتجاوز فرنسا تلوث الهواء، عليها التنفيذ الصارم لـ 60 مقترحاً وضعتها لجنة تحقيق من قبل مجلس الشيوخ الفرنسي في يوليو/تموز 2015، وعلى رأس هذه المقترحات وضع حدّ لتأخر موقف فرنسا من وقود الديزل، وإرساء نظام ضرائب إيكولوجي (بيئي) حقيقي، وهو ما يتضمن فرض ضرائب على انبعاثات النيتروجين وأحادي أكسيد النيتروجين والجسيمات إضافة إلى تشجيع وسائل نقل أقل تلوثاً قدر الإمكان، ويجب أن تكون المركبات التي يمكنها السير مُجهَّزَة بشهادة جودة للهواء مُؤمَّنَة يستحيل تزويرها، ويتعلق الأمر هنا بالرقابة الصارمة على وجود ملصق "كريت إير (Crit'Air) الذي يشير إلى مستوى التلوث، وهذه الشهادة تسمح بترتيب المَركَبات حسب انبعاثات الغازات الملوثة وعمر المَرْكَبة، ونوعية محركاتها، وفق ما جاء في مقترحات لجنة مجلس الشيوخ الفرنسي، والتي أكدت على ضرورة فرض منطقة سير محدود إجباري، لا يسمح بالسير فيها لمختلف أنواع المركبات خاصة في باريس، مع فرض غرامات مالية على من لا يحترم تلك المناطق، تتراوح ما بين 90 و135 يورو، أي ما يعادل 105 و159 دولاراً، فى حالة القيادة مع عدم وجود حالة طارئة أو سبب وجيه آخر، في حين تمنح السيارات الكهربائية وحدها حق الصف المجاني في العاصمة. ​