كردستان.. منتحرات يحمين عوائلهن من الملاحقة والثأر

كردستان.. منتحرات يحمين عوائلهن من الملاحقة والثأر

08 مايو 2016
فتاة تعاني حروقا منزلية ترقد بأحد مشافي كردستان(فرانس برس)
+ الخط -

تصر الفتاة الكردية شيلان جوهر، في حديثها المتقطع وبالغ الصعوبة لضابط الشرطة داخل غرفة الطوارئ، في أحد مشافي كردستان، على أنها تعرضت للحرق أثناء إعدادها الطعام في مطبخ منزلهم في أربيل، على الرغم من تشخيص حالتها بأنها حروق من الدرجة الثالثة وشكوك الأطباء بإمكانية بقائها على قيد الحياة طويلاً، وهي الإفادة التقليدية التي تتكرر في معظم الحوادث المشابهة، كما تؤكد ضابطة الشرطة النقيب فلامينا وحيد التي تعاملت مع العديد من الحالات الشبيهة.

التناقض وعدم المنطقية بدا واضحين تماماً في حديث الفتاة البالغة من العمر 20 سنة والتي تدعي أن الحادث حصل في وقت إعداد العشاء لعائلتها المكونة من أب كهل وثلاثة أشقاء وأخت واحدة في وقت تشير سجلات مستشفى طوارئ غرب أربيل إلى استقبال الفتاة المحترقة قبل الفجر بلحظات فضلاً عن وجود آثار لمادة سائلة على ملابسها، ساعدت على سرعة الاحتراق، بعكس كلامها عن نشوب النار في ملابسها بسبب اقترابها الزائد من شعلة الموقد الغازي.



انتحار أم حوادث؟

حساسية الحادثة، دعت المختص في الطب الشرعي الذي يعمل في المستشفى الحكومي ذاته إلى الحديث لـ"العربي الجديد"، مشترطاً عدم ذكر اسمه مبيناً، أنهم باتوا يميزون ومن النظرة الأولى ما إذا كانت الإصابة ناجمة عن حادث عرضي في المطبخ أو محاولة مسبقة للانتحار تم الإعداد واختيار الوقت المناسب لها.

ويوضح الطبيب أن حوادث الحروق العرضية الخالية من الفعل العمد تبدأ عادة من منتصف أو أسفل الجسم وتخلو من المواد المشتعلة وتصنف على أنها حروق من الدرجة الأولى أو حتى الثانية وتحدث في جميع الأوقات بدون استثناء، وهو على العكس من محاولات الانتحار التي دائماً ما يستخدم المقبلون عليها المواد السائلة شديدة الاشتعال فيها مثل النفط والبنزين، إذ يتم صبها على منطقة الرأس في أغلب الأحيان ويتم تصنيف معظمها كحروق من الدرجة الثانية والثالثة، بينما تشترك معظم الحالات في اختيار وقت ما بعد منتصف الليل لتنفيذ محاولات الانتحار.

الضابطة برتبة نقيب فلامينا وحيد تتولى مسؤولية مكتب خاص بمناهضة العنف ضد المرأة تابع لوزارة الداخلية في حكومة إقليم كردستان العراق وعملت طويلاً في التحقيقات الخاصة بالنساء الناجيات من حوادث الحرق، تؤكد وحيد أن أغلبهن يدلين بإفادات متشابهة وقصة موحدة تبدأ من الوقوف بالمطبخ لإعداد الطعام أو تسخين الماء وعدم الانتباه للنار التي امتدت إلى الملابس وحولت الضحية إلى كتلة مشتعلة تصرخ وتركض في أرجاء المكان بحثاً عن المساعدة.

وتكشف الضابطة في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن هذه الإفادة ترمي إلى حماية العائلة من أي تبعات قانونية تترتب على حادثة الانتحار، وهو ما يؤدي إلى خلق صعوبات كبيرة في عملهم الرامي إلى التحقيق في الأسباب الحقيقية والدوافع التي حملت مرتكب الفعل على القيام به، مضيفةً أن تعمق المحققين يؤدي عادةً إلى نتيجة مفادها أن الحادث حصل بتخطيط مسبق ونتيجة لظروف أسرية صعبة.

حماية العائلة

تميز الباحثة الاجتماعية والناشطة النسوية تابلو خوشناو، بين نوعين من حالات الانتحار تختص الأولى بالفتيات العازبات واللواتي يواجهن المشاكل مع الأهل، وخصوصاً الأب والأشقاء، في ما يتعلق بالمنع من إكمال الدراسة أو إرغامهن على الزواج المبكر أو من شخص لا يرغبن به، مشيرةً إلى أن الفتاة تقدم على فعل الانتحار الذي تنكره لاحقاً لتحمي ذويها من التبعات القانونية في حال التأكد من أنهم كانوا محرضين على هذا الفعل.


ويختص النوع الثاني، بحسب الباحثة خوشناو، بالنساء المتزوجات واللواتي يواجهن مشاكل العوز المادي وعدم التفاهم الزوجي، بالإضافة إلى وجود الزوجة الثانية أو الخيانات من الزوج وحين تقدم مثل هذه الحالات على الانتحار فإن نشوب مشاكل كبيرة بين عائلتي الزوجين تكون واردة وبقوة، ومن الممكن أن تتطور إلى صدامات دموية، ومن هذا المنطلق فإن المرأة المنتحرة تقدم رواية أخرى مغايرة من أجل حماية عائلتها.

الباحثة الاجتماعية وفي حديثها إلى "العربي الجديد"، لفتت إلى أن اللقاءات المستمرة التي تعقدها مع الناجيات من الموت حرقاً تطورت وأصبحت علاقة صداقة وثيقة تسمح لهن بإخبارها الحقيقة عن دوافع الانتحار وشعور الندم والحسرة الذي ينتاب أغلبهن، بينما تنصح العوائل بمراقبة المرأة الناجية من الموت، لأن احتمال معاودة الكرة سيكون واردا، خصوصاً مع حجم التشوهات الجسدية التي تلحق بها من جراء المحاولة الأولى للانتحار.


انخفاض طفيف

بحسب بيانات صادرة من وزارتي الصحة والداخلية في الإقليم ذي الحكم الذاتي (ترجمها معد التحقيق إلى العربية)، فإن عام 2015 شهد قيام ألفي امرأة بحرق أنفسهن ما أدى إلى وفاة 212 منهن، في وقت تظهر إحصائيات سابقة تسجيل 299 حالة حرق عام 2010 و123 حالة عام 2011 و 253 في عام  2012 بينما تشير إحصائيات لمنظمات عاملة في الإقليم إلى أن العدد تجاوز الــ 335 حالة وفاة حرقاً بالنار في عام 2006.

ولكن الأستاذة الجامعية والبرلمانية السابقة تارا الأسعدي ترى أن الجهات الرسمية لا تريد الإفصاح عن أعداد المنتحرات، حتى لا يشكل هذا تشجيعا أو دافعا للأخريات في تقليد من قاموا بالانتحار والذي تعزو ازدياد معدلاته إلى غياب ثقافة الحوار وهيمنة التسلط.

الأسعدي التي شغلت عضوية مجموعة لجان في برلمان الإقليم ومنها حقوق الإنسان تشير في حديثها إلى "العربي الجديد"، إلى أن المناطق الريفية هي الأعلى في حوادث الانتحار وأن المعدل يصل أحياناً إلى حالة في كل يوم، لافتةً إلى أن الفقر وتردي الأحوال الاقتصادية يقف في مقدمة أسباب الانتحار ويأتي من بعدها الفهم الخاطئ للدين وغياب التفاهم بين أفراد العائلة، سواء في علاقة الابنة مع أبيها من جهة، أو أخيها من جهة أخرى.

وعن اختيار طريق الحرق ترى الأسعدي أن المرأة المقدمة على الانتحار تريد إبقاء بصمة تدين من تسببوا لها بهذه النهاية المأسوية، ولإثبات أن بشاعة النهاية هي دليل على بشاعة المعاملة، ولكنها تؤكد في الوقت ذاته أن أغلب الحالات التي التقت بهن في غرف الطوارئ أبدين ندماً على القيام بهذا الفعل.

تحركات رسمية

وحول دور السلطات المعنية بالتصدي لهذه الظاهرة المستفحلة، يؤكد الخبير القانوني أكرم فرهاد الجاف، وجود تحركات مستمرة بهذا الخصوص، ومنها ما شرعه المجلس الوطني لإقليم كردستان في قانون رقم 42 لسنة 2004 والذي ينص في مادته الأولى على "المعاقبة بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات لمن حرض شخصا أو ساعده بأية وسيلة على الانتحار أو تسبب فيه، إذا ما تم الانتحار بناء على ذلك" وهو ما يعد إضافة نوعية إلى القانون الساري في العراق، والذي لا ينص على معاقبة المتسبب بالانتحار.


الجاف وفي تصريحاته لـ"العربي الجديد"، يشيد بقانون رقم 8 لسنة 2011 المشرع بواسطة برلمان الإقليم، والذي نص في مادته الثانية على تجريم فعل "الانتحار إثر العنف الأسري"، إذ اعتبر الأمر واحدا من 13 فعلا يعاقب عليها القانون، معرباً عن أمله في مساهمة مثل هذه التشريعات في تقليل عموم مظاهر العنف الأسري وحالات الانتحار على وجه الخصوص.


الدافع النفسي

توجه معد التحقيق بسؤال إلى استشاري الأمراض النفسية هيوا صلاح الدين، لماذا تتزايد معدلات انتحار النساء في كردستان وفقا للإحصائيات؟ فأجاب أن السبب هو تباين البشر في قدرة التحمل، وهو ما يجعل عموم الناس يتعاملون بتأن وحكمة مع المشاكل ويحاولون معالجتها، في وقت يقع قلة منهم ضحية للاكتئاب الشديد والذي يولد فكرة عدم القدرة على التحمل وفقدان أي بصيص أمل في الحياة ويقود بعض الحالات إلى الانتحار.

يضيف الدكتور هيوا قائلا لـ"العربي الجديد"، التكوين النفسي والجسدي للمرأة يجعلها فريسة أسهل لمرض الاكتئاب، ويكون المسبب في معظم الحالات الرجل سواء كان أبا أو أخا أو ابنا أو زوجا، مشيراً إلى أن الأخير يفوق البقية، وذلك بحكم الاختلافات الحاصلة بين الشخصيتين وعدم القدرة على التفاهم والانسجام فضلاً عن مشكلة الرجل المتسلط والذي يريد تطبيق الصورة النمطية الخاصة بالأمر والنهي والشدة والقسوة مع الزوجة، خصوصاً في أيام الزواج الأولى التي تشهد أعلى الاحتمالات في حصول نهاية مؤلمة ممثلة بالطلاق أو مأساوية حين تفضي إلى الانتحار.

المختص النفسي يؤكد أن الآثار المترتبة على حادثة الانتحار لا تنتهي بوفاة الضحية أو نجاتها، لأن أفراد الأسرة وخصوصاً الأب والأشقاء سيتحملون النصيب الأكبر من التبعات النفسية بعد هذه الحادثة في ظل سعيهم المتواصل للهرب من نظرة المجتمع أو تأنيب الضمير ولوم الأم والشقيقات، وهو ما وقع للفتاة العشرينية شيلان جوهر التي أمضت يومها الثالث في العناية المركزة وسط انخفاض التوقعات الطبية في احتمالات نجاتها في وقت كان إخوتها يحزمون أغراض المنزل استعداداً للانتقال منه إلى مكان آخر يجهل ساكنيه قصة شقيقتهم الراقدة عند حافة الموت.