الانتحال الأدبي[7-6]... مصر قبلة الباحثين عن الرسائل العلمية المسروقة

الانتحال الأدبي [7-6]... مصر قبلة الباحثين عن الرسائل العلمية المسروقة

10 أكتوبر 2018
انتشار ظاهرة بيع الرسائل العلمية في مصر (Getty)
+ الخط -

دفع الثلاثيني المصري أيمن الغمري، 900 جنيه (51 دولارا أميركيا) في مقابل بحث علمي يتطلبه إتمام إجراءات اجتياز العام التمهيدي للتسجيل من أجل نيل درجة الماجستير في القانون التجاري من كلية الحقوق في جامعة القاهرة، بعدما أرشده إداريون يعملون في الكلية إلى مكتبة في حي "بين السرايات" المواجه للجامعة، لديها مجموعة من الأبحاث الجاهزة والمُعَدة طبقا لعناوين بحثية يطلبها المشرف على الدراسات العليا.

بالفعل، وجد الغمري في المكتبة عددا متنوعا من العناوين البحثية تَطابق أحدها مع ما طلبه المشرف الأكاديمي كما قال، مضيفا أن الأمر لم يتوقف عند شراء البحث، إذ حصل على عرض من قبل العاملين في المكتبة لمساعدته في إتمام رسالة الماجستير بدءا من اختيار العنوان، وصولا إلى تغليف الرسالة، نظير دفعه مبلغا ماليا يتراوح بين 25 ألف جنيه و30 ألف جنيه (1400 و1680 دولارا).

ولا تعد حالة الغمري فريدة من نوعها، إذ تعد جزءا من ظاهرة متكررة ومتنامية من سنوات، كما يقول الدكتور خالد فهمي أستاذ النقد الأدبي وعضو لجنة الترقية بجامعة المنوفية، والذي ذكر في إفادته لـ"العربي الجديد" أن المكتبات المنتشرة أمام مقار الجامعات تعمل في إنتاج الرسائل العلمية بمقابل مادي يتم تحديده بحسب نوع الرسالة وجنسية الباحث وحتى بعضها يعلق جهارا إعلانات كُتب فيها "يوجد بالمكتبة إعداد للرسائل العلمية".


معقل الانتحال الأدبي في القاهرة

تواجه منطقة "بين السرايات" جامعة القاهرة، وهناك تنتشر إعلانات إعداد الأبحاث العلمية (المنتحلة) ورسائل الماجستير والدكتوراه، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر جولة ميدانية، دخل فيها إلى 5 مراكز للتصوير وإعداد ملازم محاضرات كليات الجامعة المختلفة وكلها تعلن عن المساعدة في إنجاز الرسائل العلمية، من بينها مكتبة حورس للخدمات البحثية، التي يصطف أمام بابها، طلاب وباحثون من مختلف الكليات، حيث يشتهر "السنتر" كما يسميه المترددون عليه، بكتابة الرسائل العلمية وطباعتها، وتقديم الدعم للباحثين، من خلال مجموعة من المعيدين الذين يشرف عليهم أحد أعضاء هيئة التدريس، وفق ما أكده أحد مسؤولي المركز والذي رفض الكشف عن اسمه قائلا: "الأمر لا يرجع إلى الخشية من شيء، نحن لا نخالف القانون، ولكن لا أريد مشاكل في عملي مع أحد".

وتابع: "نساعد الطلاب في أعمالهم البحثية، وهذا ليس انتحالا أو سرقة علمية، ومن لديه دليل بأننا نسرق، أو ننتحل فليقدمه للجهات المختصة".

وتتواصل تلك المراكز مع الأساتذة المميزين في تخصصاتهم، إذ تَعرض عليهم إعداد الرسائل العلمية، مقابل مبالغ مالية، تتراوح بين 20 ألف جنيه و30 ألف جنيه، وقد يزيد المبلغ إلى 50 ألف جنيه (2800 دولار) إذا كان الطالب خليجيا، مثلما يجري الحال في مركز يديره صحافي في مؤسسة حكومية وأستاذ جامعي يعمل في وسط القاهرة، كما يقول الدكتور فهمي.

وعلى الرغم من رفض العديد من الأساتذة الجامعيين هذا الأسلوب، إلا أن آخرين يوافقون على العرض، نظرا إلى الظروف المعيشية السيئة التي يعاني منها أساتذة الجامعات كما يقول الدكتور فهمي، مضيفا أنه كأستاذ جامعي يتقاضى، طبقا للتعديل الأخير على قانون الجامعات الصادر في عام 2013 ثمانية آلاف جنيه، ويصل راتبه مع البدلات إلى 11 ألف جنيه شهريا (615 دولارا)، بينما يتجاوز راتب المعيد، أو المدرس المساعد أربعة آلاف جنيه (230 دولارا)، وهو ما يجعل بعض العاملين في السلك الأكاديمي يستجيبون لمثل هذه العروض، باعتبارها تمثل دخلا إضافيا تساعدهم على ظروفهم المعيشية الصعبة، قائلا: "يتفاقم الانتحال الأدبي في جامعات الأقاليم، كلما بعدت الجامعة عن القاهرة، كانت الرقابة على الرسائل والأبحاث أقل".


المركز الأول في السرقة العلمية

في سبتمبر/أيلول من عام 2016، أكد وزير الثقافة المصري السابق حلمي النمنم في تصريحات صحافية أن مصر تحتل المركز الأول في الانتحال العلمي، ثم عاد وكرر الأمر في مارس/آذار من عام 2017، قائلا: "إن مصر تحتل المركز الأول على مستوى العالم في السرقات العلمية داخل الجامعات"، مشيرا إلى أن الدولة لا تتعامل مع تلك الظاهرة الخطيرة بالاهتمام الكافي، الأمر الذي يمكن من خلاله فهم لماذا تقبع الجامعات المصرية في مراكز متأخرة في التصنيفات الأكاديمية الدولية وعلى رأسها جامعة القاهرة، كبرى مؤسسات التعليم العالي المصرية التي احتلت في العام 2017 المركز 551 طبقا لتصنيف مؤسسة "كواكواريلي سيموندس - كيو إس"، السنوي والذي تنشره شركة كواكواريلي سيموندس (Quacquarelli Symonds) المختصة بالتعليم، بينما جاءت الجامعة في المركز 481 مكرر، في تصنيف العام 2018 الصادر في يونيو/ حزيران الماضي.


وبسبب غياب الرقابة البحثية الجادة والفعالة، أضحت مصر قبلة للطلاب العرب الراغبين في الحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه، كما يصرّح الخبير والمُحكِم القانوني المستشار أسامة فتحي قائلا إن هذه الأبحاث والرسائل الأكاديمية قائمة على "القص واللصق".

المستشار فتحي الذي شارك بالدفاع عن عدد ممن صدر بحقهم قرارات من مجالس التأديب الجامعية ولجأوا إلى نقضها أمام محكمة القضاء الإداري، يؤكد أن عقوبة السجن التي حددها قانون العقوبات خاصة بتزوير الشهادات باعتبارها مستندات رسمية وليست لها علاقة بالانتحال أو سرقة الرسائل العلمية، مستدلا بحالة الدكتور إبراهيم العايدي الأستاذ بكلية الآثار جامعة القاهرة والذي سُحِبَت منه جائزة الدولة التشجيعية في الآثار لعام 2016 بعد أن نالها في العلوم الاجتماعية فرع الآثار المصرية عن كتاب Ancient Egyption Geographic Dictionary ـ القاموس الجغرافي المصري القديم المكون من 1061 صفحة، إذ اعترض وزير الآثار السابق ممدوح الدماطي على حصوله على الجائزة وكشف أن هذا الكتاب عبارة عن رسالة دكتوراه حصل عليها العايدي من كندا، وهو بحث منقول من أصل فرنسي قام العايدي بترجمته إلى الإنكليزية، وبالفعل شكل وزير الثقافة السابق حلمي النمنم حينها لجنة علمية برئاسة الدماطي، وتحت إشراف الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، والتي فحصت الكتاب وتبين أن ترجمته إنكليزية من الأصل الفرنسي لكتاب "هنري جوتيية"، الذي خرج في 7 أجزاء، وقررت سحب الجائزة، لمخالفة الإنتاج العلمي المقدم أحكام وشروط الجائزة المنصوص عليها في القانون رقم "375" لسنة 1985، لكن أحدا لم يعترض على شهادة الدكتوراه التي حصل عليها العايدي الذي ما زال يعمل في الجامعة حتى الآن، لأن القانون لم يضع عقوبة للانتحال، أو السرقات العلمية، وتركها لتقدير اللوائح الداخلية للكليات والجامعات.


أنواع الانتحال الأدبي

يعتمد النوع الأول من الانتحال الأدبي المنتشر في مصر، على استكتاب باحث مختص بموضوع الرسالة البحثية، وهو ما يجري مع بعض الطلاب العرب الذين يحصلون على شهادات ماجستير ودكتوراه من مصر، وكل ما يقومون به هو وضع اسمهم على الرسالة، بعد أن يدفعوا للباحث الأصلي ما تم الاتفاق عليه من مقابل مالي، ومثل هذه الرسائل لا يتم اكتشافها، لأن الطالب العربي لا يهمه سوى الشهادة، وبالتالي لن يقوم بالإبلاغ عن الباحث، وفق ما أوضحه الدكتور حمدي المرسي الأستاذ بجامعة القاهرة، والذي أكد لـ"العربي الجديد" أن النوع الثاني من الانتحال هو دفع الرشاوى لإداريين، وأساتذة لتسهيل الحصول على شهادة الصلاحية الخاصة بقبول الأبحاث والتي تثبت خلوها من الانتحال عبر برامج تقنية مساعدة بدأ تفعليها في الجامعات المصرية.

وأنشأت جامعة القاهرة مركزا يقوم بالكشف على نسبة النقل والانتحال داخل الرسالة للمتقدمين لدرجتي الأستاذ والأستاذ المساعد، كما أنشأت جامعتا عين شمس والمنوفية مركزا للغرض نفسه، إذ يقوم الباحث بتقديم نسخة إلكترونية من الرسالة ويتم إدخالها إلى هذا البرنامج الذي يمنحه شهادة تفيد بأن نسبة النقل من المصادر المختلفة لا تزيد عن 25% من الرسالة، وبعد الحصول على هذه الشهادة يستطيع مناقشة بحثه كما يقول الدكتور فهمي، والذي شارك في مناقشة العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه بجامعتي القاهرة وعين شمس، مؤكدا أن هذا البرنامج لم يتم تطبيقه إلا منذ عام واحد، لكن مشكلته أنه يحوي الرسائل الحديثة فقط، ولم تتم تغذيته بالرسائل القديمة، ما يؤدي إلى عدم الكشف الدقيق عن الانتحال، بالإضافة إلى تحايل بعض الباحثين على الجانب التقني للبرنامج، مقابل مبالغ مالية لبعض القائمين عليه، والمؤسف كما يقول الأكاديمي المصري أن هذا البرنامج المخصص لكشف الانتحال، هو ذاته أصبح يمنح شهادة الإجازة لهذا الانتحال.

النوع الثالث للانتحال العلمي كما يضيف الدكتور فهمي، هو سطو الباحث على نص كامل، أو فقرة كاملة من بحث آخر دون الإشارة إلى مصدره، والرابع هو السرقات الذكية كأن يأخذ الباحث فكرة البحث وطريقة تصميمه وأدواته والإجراءات البحثية والنتائج ثم يقوم بتطبيقها على ظاهرة أخرى تماما، كما حدث مع خبير علم الأسلوبيات الدكتور سعد مصلوح، الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الكويت والذي فوجئ منذ ستة أشهر بسرقة نظرية علمية مسجلة باسمه بعد تطبيقها على فكرة أخرى من باحثين في إيران واليمن والأردن والكويت والعراق، دون الإشارة إلى المصدر كما يقول.

خلل تشريعي

لم يهتم المشرع المصري بظاهرة الانتحال الأدبي، إذ ترك الأمر لتقدير مجالس التأديب بالجامعات بحسب تأكيد المستشار القانوني فتحي والذي قال لـ"العربي الجديد": "إذا كانت هذه المجالس لها سلطة إلغاء البحث وشطب الرسالة العلمية للعاملين بالجامعات، فإنها لا تملك نفس السلطة مع غير العاملين بالجامعة الذين يحصلون على درجات علمية برسائل جامعية منتحلة أدبيا، كما أن قانون حقوق الملكية الفكرية تعامل مع الانتحال الأدبي باعتباره غشا تجاريا ينتهي بالغرامة طبقا لقانون الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002، والذي تحدث الباب الثالث فيه عن حقوق التأليف والمحاضرات، ولكنه تعامل مع تلك الحقوق كعلامة تجارية، ولذلك اكتفي بعقوبة الغرامة التي لا تزيد عن 20 ألف جنيه (حوالي 1120 دولارا)، بعد أن يتم تداول القضية في المحكمة الاقتصادية لعدة سنوات.

وتحيل اللوائح الداخلية للجامعات حالات الانتحال إلى لجنة الأمانة العلمية، التي تعد مجلس تأديب يشكله رئيس الجامعة، ومن حق اللجنة أن تأخذ أي قرار في حق المشكو بحقه، إذا تبينت لها صحة الانتحال، أو السرقة، كما حدث مع أستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة (تتحفظ الجريدة على اسمه) والذي قدم بحثا للترقي لرئاسة القسم الذي يعمل به، ولكن أحد زملائه أبلغ بأن البحث عبارة عن انتحال وسرقة علمية من أبحاث أخري، وبالفعل تم شطب البحث وإلغاء الترقية ولكن الأستاذ ما زال يعمل في الجامعة حتى الآن، لتستمر الظاهرة في الانتشار والتوسع في ظل عدم الجدية في مواجهتها كما يؤكد المشاركون في التحقيق.