حرب على المسكن: نكبة جديدة وترحيل قسري

حرب على المسكن: نكبة جديدة وترحيل قسري

19 فبراير 2017
معاناة جديدة يعيشها فلسطينيو الداخل (فرانس برس)
+ الخط -


أشعل إقدام عناصر من الشرطة الإسرائيلية، اقتحمت مدينة قلنسوة في المثلث في الداخل الفلسطيني على هدم 11 بيتا في يوم واحد، في سابقة هي الأولى من نوعها من حيث كم البيوت المهدودة في عملية واحدة، الأرض في الداخل الفلسطيني في مواجهة مخططات الحكومة الإسرائيلية وسياستها وفق قرارات عدة لتسريع هدم البيوت "غير المرخصة في الداخل الفلسطيني". وأحضرت عملية الهدم الهمجية، مع ما رافقها من اقتحام قوات هائلة من الشرطة، إلى الوعي العام حجم الخطر الذي يتهدد عشرات آلاف البيوت الفلسطينية في الداخل، في ما بدا وكأنه ليس تحولاً جديداً في سياسة حكومة نتنياهو بقدر ما هو انتقال لتنفيذ تهديدات ثابر نتنياهو على توجيهها للفلسطينيين في الداخل، بشكل منهجي ومتتابع منذ عملية نشأت ملحم الذي أطلق النار في أحد مقاهي تل أبيب في يناير/ كانون الثاني من عام 2016. عندها أعلن نتنياهو من موقع العملية التي سقط فيها إسرائيليان أن حكومته لن تقبل بعد الآن باستمرار الوضع القائم، والذي ادعى نتنياهو وجوده ولخصه بأن الفلسطينيين في الداخل يقيمون دولة داخل دولة إسرائيل دون أي احترام للقانون أو لسيادة الدولة وسلطاتها المختلفة.

وقد ربط كثيرون بين توقيت تنفيذ عملية الهدم في قلنسوة، وبين الأزمة السياسية الداخلية التي واجهها نتنياهو في مسألة إخلاء مستوطنة عامونا، مع اقتراب الموعد النهائي الذي أقرته المحكمة الإسرائيلية لهدم المستوطنة وتمديد الموعد من 25 ديسمبر من العام الماضي ولغاية 15 فبراير. وبالرغم من صحة هذا الربط، إلا أن الهدم في قلنسوة وما تبعه بعد 8 أيام من عملية الهدم الكبرى في قرية أم الحيران في النقب، وقتل المربي يعقوب موسى أبو القيعان برصاص الشرطة الإسرائيلية، بدم بارد، ثم مواصلة الكنيست المداولات، قبل أسبوعين بقانون كامنيتس، لتكثيف وتسريع عمليات "تطبيق قانون التنظيم والبناء" التعديل 109 لجهة تنفيذ أوامر الهدم وزيادة العقوبات على مخالفات البناء، يعزز الاعتقاد بانتقال حكومة نتنياهو إلى شن حرب حقيقية على المسكن للفلسطينيين في الداخل، وفرض نمط بناء ومسكن عليهم، يحول في واقع الحال البلدات العربية في الداخل إلى أكثر التجمعات السكنية اكتظاظاً، مع ما يرافق ذلك من تعميق الفقر في هذه البلدات وزيادة الضغط الاجتماعي الداخلي، وتحويل رؤساء البلدات العربية إلى المسؤولين شخصياً عن تنفيذ أوامر الهدم في بلداتهم وداخل مجتمعاتهم.

60 ألف بيت عربي 

تُقر دراسة خاصة أجراها مركز البحث والمعلومات في الكنيست عن البناء غير المرخص، أو مخالفات البناء في إسرائيل (لا يشمل النقب)، في أكتوبر/تشرين الأول 2015 بناء على طلب من النائبين باسل غطاس ومسعود غنايم، بشكل عام أن حجم الظاهرة الكلي يصل في إسرائيل إلى نحو 800 ألف مخالفة بناء منتشرة في مختلف أنحاء إسرائيل. مع ذلك فإن الحكومة الإسرائيلية تبرز حقيقة وجود عشرات آلاف البيوت غير المرخصة داخل حدود البلدات العربية الفلسطينية، وتتجاهل أن هذه المعطيات لا تتجاوز 10% من مجمل مخالفات البناء في إسرائيل ككل، لكنها تجرد حملة خاصة على البيوت العربية، وسط رصد قوات وميزانيات خاصة لتنفيذ عمليات الهدم.

وتبين معطيات الدراسة المذكورة أنه تم بين عامي 2012 و2014 إصدار أكبر عدد من أوامر الهدم الإدارية بلغ 1336 أمرا، 99% منها أصدرت ضد المواطنين الفلسطينيين في الداخل، مقابل عشرات محدودة من هذه الأوامر في الوسط اليهودي. أما أوامر الهدم القضائية النافذة التي صدرت بين عامي 2012 و2014 فبلغت 323 أمراً بين 70-80% منها لبيوت عربية.

لكن ظاهرة البناء "غير المرخص" وفق التسمية الإسرائيلية هي أصلاً نتاج سياسات التخطيط الحكومية التي انتهجتها إسرائيل منذ النكبة ضد فلسطينيي الداخل، بعد مصادرة أكثر من 59% من أراضي فلسطين بعد النكبة وبضمنها الأراضي الخاصة وفق عدة قوانين مختلفة، أهمها قانون أملاك الغائبين من العام 56. فحتى العام 2000 وفق اعتراف لجنة أور التي حققت في ظروف استشهاد 13 شابا فلسطينيا في هبة القدس والأقصى 2000، لم تكن للغالبية العظمى للسلطات والبلدات الفلسطينية في الداخل خرائط ومخططات هيكلية، أو حتى لجان تنظيم وبناء محلية، وتم تخطيط مسطحات البناء ونفوذ القرى والبلدات العربية من خلال مجلس التنظيم القطري واللجان اللوائية، واللجان المحلية دون أن يكون للعرب ممثلون في هذه اللجان، وفرضت المخططات الحكومية عليهم، عبر الحرص على تقليص حجم أراضي البناء، المستقبلية أيضاً.

ويقول مخطط المدن، عروة سويطات لـ"العربي الجديد"، إن عام 2000 شهد تحولاً لجهة تشكيل لجان تنظيم وبناء محلية في البلدات العربية، وإقرار مخططات وخرائط هيكلية وتحديد مسطحات بناء، لكن ذلك نبع بالأساس بفعل ضغط المجتمع الفلسطيني بالداخل، وأيضا بفعل حركة الهجرة الواسعة للشباب الفلسطيني والأزواج الشابة، من بلداتهم وقراهم إلى البلدات والمدن اليهودية التي أقيمت في الجليل لتهويده. وأدت هذه الهجرة خلال العقدين الأخيرين، في واقع الحال إلى تحويل بعض هذه المستوطنات والمدن اليهودية، إلى بلدات مختلطة، كما حدث في كرميئيل ونتسرات عيليت، وحتى مدينة حيفا.

ويلفت سويطات، في هذا السياق، إلى أن هذا التحول لجهة إقرار مخططات بناء وخرائط هيكيلة كان مصحوبا في الوقت ذاته بفرض مخططات إسكان عالية الكثافة، تتحدث عن 8 وحدات سكنية للبلدات العربية بينما لا تتجاوز الوحدتين في المستوطنات والبلدات اليهودية الجديدة التي تقام في الجليل والمثلث والنقب، ومن خلال مخططات سريعة لا تتيح للمواطن الفلسطيني أو السلطة المحلية العربية الاعتراض عليها، لأنها أصلاً منهكة في مسألة مواجهة قرارات الهدم بحق مئات البيوت في كل قرية وقرية. وشكل سلاح الهدم وخطر الهدم أداة فاعلة في إرغام البلدات الفلسطينية ومجالسها القروية على الخضوع لإملاءات سلطات التخطيط والبناء والقبول بمخططات ومناطق نفوذ بهذه الكثافة كخطوة دفاعية أولى لمنع الهدم المسلطة على بيوت المواطنين.

ويتفق المحامي توفيق جبارين، من أم الفحم، وهو الناشط في لجان شعبية لمواجهة مخططات الهدم، مع اعتبار عام 2000 نقطة تحول لجهة إقرار مخططات هيكلية للقرى العربية في الداخل. لكنه يلفت إلى أن هذه المخططات التي وضعت، (بحسب دراسة مركز أبحاث الكنيست أقر لغاية الآن 60 مخططاً بشكل نهائي لستين بلدة عربية من أصل 135 لا يشمل القرى والبلدات العربية في النقب) قد صممت منذ البداية بشكل معطوب، لا يجعلها ملائمة فعلا لاحتياجات الفلسطينيين في الداخل، بل هي تنطوي على مخاطر تحويلها إلى بلدات فقر، لافتقارها أصلاً إلى مناطق تجارية وصناعية وأماكن عمل ولأي أفق بالتمدد مستقبلا والتطور، وذلك خلافا لما يتم في التخطيط للبلدات والمستوطنات اليهودية التي تمنح من أراضي "الدولة" المصادرة أصلا من الفلسطينيين أنفسهم مساحات شاسعة التمدد الحضري مستقبلا مع توفير كل البنى التحتية اللازمة.

ويلفت جبارين إلى حقيقة أن غالبية الأراضي الواسعة للبلدات العربية، والتي يفترض أن تستخدم مستقبلاً، تم وضعها في منطقة المثلث تحت نفوذ مجالس إقليمية يهودية مثل المجلس الإقليمي منشة، أو مجيدو، وهو نفس الوضع القائم في محيط قرى عربية في الجليل الغربي والشرقي، مع إبقاء صلاحيات تمدد البناء العربي مرهونا بموافقة هذه المجالس الإقليمية على مخططات البناء، وهو أمر غير وارد بالحسبان.

وفي هذا السياق، ذكرت القناة الإسرائيلية الثانية قبل ثلاثة أسابيع أن الحكومة الإسرائيلية، قامت في عهد اسحق شامير بين عامي 1991و 1992 بعملية تهريب لنحو 54 ألف دونم كانت مسجلة رسمياً كأراضي دولة تحت عهدة مديرية أراضي إسرائيل، وتقع في محيط البلدات العربية في الجليل، للكيرن كيميت ليسرائيل "صندوق أراضي إسرائيل" وذلك للحيلولة دون اضطرار الدولة إلى تسليمها ومنحها للبلدات العربية (أي عماليا إعادتها لأصحابها) كمناطق نفوذ أو مسطحات بناء، على اعتبار أن القانون الجاف يلزم الدولة بعدم التمييز، بينما يمكن لصندوق أراضي إسرائيل، وبحسب دستوره الداخلي، تسويقها والبناء عليها فقط لليهود دون أن يكون معرضا لمساءلة الدولة والقضاء بادعاء أن هدفه الأعلى هو بناء "الوطن اليهودي" وحماية أراضي الشعب اليهودي.

نكبة مستمرة ومخطط تهجير قسري في النقب

لكن الحرب على البيت الفلسطيني بعد أخذ الأرض تتخذ شكل نكبة جديدة وترحيل قسري في حالة النقب، والذي لا يزال الفلسطينيون فيه يملكون على الأقل نحو 800 ألف دونم غير الأراضي التي يعيشون عليها، وتواصل حكومات إسرائيل الحرب عليها والتنكر لحقوقهم فيها مع تكثيف حرب يومية من أعمال الهدم المتواصل لإجبار أهالي النقب على التنازل عن نحو 650 ألف دونم والانتقال للسكن في بلدات دائمة تحددها لهم، مع تهديد متواصل بهدم يومي تقريبا، وصل أوجه في 18 من الشهر الماضي في عملية هدم 8 بيوت في قرية أم الحيران وقتل الشهيد يعقوب موسى أبو القيعان.

ومع أن أم الحيران تشكل حالة خاصة لكون أهلها أخرجوا من موطنهم الأصلي عام 1956 في حي زبالة ونقلوا بأمر من القائد العسكري إلى وادي عتير، موقع القرية الحالي، إلا أن حكاية القرية تمثل مع ذلك مصير وأوضاع الفلسطينيين في النقب، والذين تم تهجير قسم كبير منهم من غربي خط الطول 40 في النقب إلى الجزء الشرقي منه، ثم إقرار مخطط إقامة بلدة يهودية جديدة على أراضي أم الحيران تحمل نفس الاسم "حيران" وطرد أهلها ونقلهم عنوة للسكن في قرية حورة، ورفض مقترحات الأهالي حتى بالقبول بإقامة حي لهم في المستوطنة اليهودية المنوي إقامتها على أراضيهم.

ويقول عضو لجنة التوجيه العليا لعرب النقب، وعضو المكتب السياسي للتجمع الوطني، جمعة الزبارقة لـ "العربي الجديد"، إنه منذ التهجير الأول في السنوات الأولى بعد النكبة وانتقال عشائر من النقب إلى الشطر الشرقي منه، وتأسيس الدولة العبرية بداية لسبع بلدات بدوية أواسط الثمانينيات، فإن الحرب لا تزال مستمرة على أراضي النقب إلى اليوم، حيث فقد أهالي النقب أكثر من 3 ملايين دونم من أصل 11 مليون دونم تشكل مساحة النقب الإجمالية.

وبحسب الزبارقة، فإن تمسك أهالي النقب بأرضهم، بمن فيهم أهالي القرى التي لا تعترف بها إسرائيل رغم وجودها قبل النكبة والمعروفة باسم القرى غير المعترف بها، ورفضهم عروض الحكومة الإسرائيلية المتواصلة بتعويضهم عن أراضيهم بأراض بديلة كانت، ولا يزال قسم منها مسجلا بالطابو لأبناء عشائر أخرى، كان السبب الرئيسي المسؤول عن إفشال مخططات التطهير العرقي والترحيل في النقب، وآخرها مخطط برافر الذي أفشله الأهالي في العام 2014 لأنه يوافق على منحهم فقط نصف الأراضي التي لا تزال مسجلة باسمهم، أي 400 ألف دونم من أصل 870 ألف دونم.

إلى ذلك، يشير الزبارقة إلى أن الوضع اليوم بات أكثر خطورة مع ادعاء الحكومة إقرار خطة لتنمية الوسط العربي في النقب ورصد 2.6 مليار شيقل لها، مؤكداً أن هذه المبالغ موجودة أصلاً في ميزانية الدولة والحديث عنها هو ذر للرماد في العيون، في مسعى جديد لتنفيذ المخطط الجديد الذي يحمله وزير الزراعة الاستيطاني، أوري أريئيل، الذي يتراجع حتى عما اقترحه مخطط برافر، ويسعى لتنفيذ عملية ترحيل واسعة النطاق لكل البلدات غير المعترف بها وتجميع أهلها في بلدات ثابتة، دون البت أصلا في مسألة ملكية الاراضي أو التعويض بادعاء أن هذه الأراضي هي أراض للدولة ولا يملك الأهالي أي حقوق فيها باستثناء نحو 130 الف دونم لا غير.

دلالات

المساهمون