علم آثار من أجل التحرير والعودة إلى التاريخ

علم آثار من أجل التحرير والعودة إلى التاريخ

01 سبتمبر 2015
(براري بيرزيت، تصوير: جيرار هورتون)
+ الخط -

تشهد حركةُ التحرير الفلسطينية، تلك التي لم تكتمل فصولها ولم تُنجز وعودها بعد، جهداً علمياً يساندها في حقلٍ لم تعتد عليه حركاتُ التحرير العربية، أعني حقل علمي الآثار والتاريخ، ومصدر هذا الجهد آتٍ من علماء تضم أبرزهم في الزمن الراهن ما تُعرف بمدرسة كوبنهاغن، وعلى رأسها الأميركي د. توماس تومسن والاسكتلندي د. كيث وايتلام.

وكان من المؤمّل أن ينضم إلى هذه المدرسة، بل وأن يكون أحد مؤسسيها الأميركي (Albert E. Glock ) د. ألبرت إي. غلوك (1925 ـ 1992)، لولا اغتياله بالقرب من بلدة بيرزيت في وقت كان ينهمك فيه في تأسيس معهد آثار فلسطيني وتدريب طلبة جامعة بيرزيت على فن التنقيب عن الآثار، وتحرير تاريخ وطنهم الماضي والحاضر من قبضة استعمارين؛ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني للأرض الفلسطينية، واستعماراللاهوت الغربي لتاريخ هذه الأرض وماضيها.

التحرّر بالعلم والمعرفة لم نألفه حتى الآن، مع أن شعوباً آسيوية ولاتينية وعته ومارسته، وأضافت هذه الأداة الخطيرة إلى أدوات نضالها التحرري، فلم تطالب فقط برحيل جيوش المستعمرين عن أراضيها، بل عملت على تحرير رواية ماضيها من قبضة الرواة الغربيين، وتصفية ما أصبح يدعى على نطاق واسع استعمار العقول واستعمار مناهج البحث والنظر.

ولم تكن حاجة فلسطين إلى هذا النوع من التحرير أقل، بل كانت حاجتها ماسّة في كل مراحل حركتها الوطنية، فهي تواجه كلا النوعين من الاستعمار اللذين أشرنا إليهما، والمؤسف أن الانتباه إلى النوع الثاني، أي استعمار ماضي فلسطين وحاضرها بأدوات مثل علم الآثار والتاريخ، وبالتالي استعمار عقول أبناء الشعوب الأخرى، بل وحتى عقول أبناء فلسطين، كان ضئيلاً، هذا إنْ لم يكن شبه معدوم.

ومراجعةٌ سريعة للانحراف الذي خلقه التلاعبُ الأيديولوجي والسياسي والديني بالبحث الأثري والتاريخي، تشير كما يقول الكاتب الأميركي إدوارد فوكس صاحب كتاب "فجر فلسطين" (2001)، إلى أنه فعلَ فعله في جانبين، الأول في تلبية حاجة اللاهوتيين الغربيين، وخاصة البروتستانت منهم، إلى "رؤية" براهين في سجل فلسطين الأثري على أن التوراة سجل تاريخي، والثاني رغبة علماء آثار "إسرائيليين" في العثور على أثر من آثار مجتمع "إسرائيلي" قديم في سجل فلسطين الأثري يمنح كيان دولتهم الاستعماري الراهن شرعية من نوع ما.

لقد دفع علماءُ مدرسة كوبنهاغن بأن وطأة اللاهوت التوراتي، ومحاولة إيجاد تطابق بين قصص ديني وأحداث تاريخية، وإلصاقها بالأرض الفلسطينية تحديداً، أو أي أرض، أفسدت علم آثار فلسطين وتاريخها، بل وعلوم آثار البلدان المجاورة، مثل سورية والعراق ومصر وصولاً إلى اليمن، وكان من تبعاتها المباشرة محو وجود الفلسطينيين باقتلاعهم من تاريخ وطنهم فلسطين.
ومضى د. ألبرت غلوك بهذه المقدمات إلى مدى أبعد.

تخلّى أولاً عمّا يُدعى "علم الآثار التوراتي" الذي جاءَ إلى فلسطين في العام 1962 عاملاً في حقله، وعاد ثانياً إلى التنقيب مرة أخرى بين العامين 1982/1984 مع زاوية نظر جديدة؛ استكشاف المراحل التاريخية التي تجاهلها الباحثون الغربيون، وأخذ على عاتقه ثالثاً، طيلة ستة عشر عاماً من التعليم في جامعة بير زيت، تحريرَ تاريخ فلسطين من استعمار المناهج الغربية الواقع أغلبها في قبضة اللاهوت التوراتي. وصمّمَ على إنشاء تاريخ لفلسطين لا يقصي أحداً من سكانها.

وتكشف الدراساتُ القليلة التي نشرها عن وعيه وعياً تاماً بما أوقعه الغربُ، وأداته الصهيونية، عسكرياً ومعرفياً واقتصادياً بفلسطين، والوسائل التي استخدمها لاستعمارها وإبادة وتشريد الآلاف من سكانها وتدمير قراها والاستيلاء على مكتباتها وتغيير أسماء مدنها وطرقاتها ومعالمها الطبيعية.

وكعالم آثارٍ مزجَ بين التنقيب عن العاديات الأثرية ودراسة التجمعات السكانية وثقافاتها، واستخدم التاريخ الشفاهي لمعرفة التاريخ الاجتماعي لفلسطين، اهتم بالدرجة الأولى بإعادة إنشاء ماضي فلسطين المفقود من أجل المستقبل، وإنقاذه من التحامل والتحيّز ضد فلسطين العربية الذي كان ميزة حملات التنقيب عن الآثار في هذه الأرض منذ البداية.

لقد ظل علم الآثار الفلسطيني من حيث الجوهر لزمن طويل "توراتيّاً"، كما توصّل هذا العالم الموصوف بين زملائه بالنزاهة الصارمة، ورُوي تاريخٌ لفلسطين في الأوساط الغربية يخلو من أصحابها الفلسطينيين، وتبعاً لذلك ما كان لفلسطين أن تتخلّص من هذا الاستعمار الخانق إلا بحركة تحرير لماضيها، كما بحركة تحرير لحاضرها، وهما أمران متلازمان على الصعيد العلمي والمعرفي كما يتلازم معهما تحرير الأرض والمدن والقرى من قطعان المستعمرين الصهاينة.


(كاتب وباحث فلسطيني)

المساهمون