معاقل المقاومة... مقبرتها

معاقل المقاومة... مقبرتها

13 نوفمبر 2016
الوضع أكثر فداحة في غزة (عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -
كثيرة هي الأمور التي لا يزال وجودها مقتصراً على فلسطين دون كل مجتمعات وبلدان العالم. أحد تلك "الأمور الحصرية"، هي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة خارج ما يعرف بالخط الأخضر، أي خارج "دولة إسرائيل"، في الضفة الغربية وقطاع غزة. "أمر حصري" ناتج أساساً عن الحقيقة الأصلية، أي أن فلسطين تجسد الحالة الاستعمارية التي يحصل إجماع كوني على أنها الأطول في التاريخ الحديث، إلا إن سرنا في رواية لا يؤكدها لا التاريخ ولا الجغرافيا، عما يسميه القوميون الأكراد، "كردستان التاريخية"، التي لا يذكر أرشيف العالم حقبة كانت قائمة بالفعل خلالها.

في الضفة الغربية 20 مخيماً "منظماً" أي معترفاً به كمخيم "رسمي" خصوصاً من قبل وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، وستة مخيمات "غير منظمة" بعدد يناهز أكثر من نصف مليون مقيم. هو على كل حال رقم متنازع عليه وغير متفق حوله، وهذه إحدى أوجه كارثتنا الفلسطينية الممتدة، لأنّ إحصاءاتنا غير مستقلة وتعتمد أرقام "الأونروا" خصوصاً والأمم المتحدة عموماً مع المنظمات غير الحكومية. أما في غزة، فالوضع أكثر فداحة، مع 12 مخيماً بين منظم وغير منظم، ونصف مليون مقيم وافدين من كافة أراضي فلسطين التاريخية. صحيح أن أوضاع مخيمات الضفة والقطاع تختلف جذرياً، اجتماعياً واقتصادياً، عن أحوال مخيمات الشتات، إلا أن عاملاً مشتركاً يبقى جامعاً بينها جميعاً: الرغبة الإسرائيلية بإبقاء هذه الأمكنة عناوين للهشاشة الاجتماعية، في ظل تواطؤ فلسطيني ضمني، عن قصد أو من دونه، مع هذه الرغبة. وبالفعل، بعدما كانت مخيمات الضفة من شمالها إلى جنوبها معقلاً للمقاومة المسلحة وحاضنتها الشعبية، صارت، على الأقل منذ ما بعد جنين 2002، مقصداً لكل شيء إلا للحالة الوطنية القابلة للتحول إلى مقاومة مسلحة: انتشار السلاح الفردي الخفيف والمتوسط بلا قيادة مركزية في عدد كبير من مخيمات الضفة، زادت نسبته تحت أعين سلطات الاحتلال والإدارة المدنية والحاكم العسكري، لأن وجهة ذلك السلاح صارت لأهداف لا علاقة للمقاومة بها، بل لتصفية حسابات عشائرية، وللانتقام الأهلي العائلي، وللحروب الداخلية المصغرة بين أسوار بؤر البؤس هذه، وللاحتفال بالأعراس ولجرائم السطو المسلح... لكل شيء إلا لتصويبه ضد الاحتلال. وما ارتفاع أسهم حالة محمد دحلان، بأدوات الشغل الأقوى لديه، أي ثنائية المال والسلاح، داخل مخيمات الضفة خصوصاً، إلا تجسيد للرغبة الإسرائيلية تلك بتغيير هوية المخيم، ليكون "غيتو" حقيقياً بدل أن يبقى مجتمعاً مصغراً يحافظ على لحمة قاطنيه المتلاصقين، بشكل يسهل التنسيق والتخطيط لانفجار في وجه الاحتلال، وإن كان ذلك "يوماً ما".

وبمراجعة سريعة لخريطة عمليات الانتفاضة المستمرة، وإن بتقطع، منذ سبتمبر/أيلول 2015، في الضفة وفي القدس، يتبين أن المخيمات لم تعد العاصمة لتخرُّج الفدائيين الجدد ممن باتوا يسمون زوراً "ذئاباً منفردة". لقد انتقلت القيادة إلى القدس والخليل، المدن والأحياء الخارجة عن حدود المخيمات أساساً. ظاهرة اجتماعية سياسية اقتصادية لها ما يشرحها في دوائر القرار الإسرائيلي، والتآمر المقصود أو غير المقصود فلسطينياً، وهو أمر مشابه، وإن كان ذلك نسبياً جداً، مع واقع مخيمات لبنان البالغ عددها 12 مثلاً. هناك، في هذا البلد الصغير، كانت المخيمات عقر دار فصائل المقاومة ونشاطها، وبوابتها إلى الجنوب والعاصمة. لكنها صارت غيتوهات تحوي ما تحويه من أمراض اجتماعية وفقر موصوف وتخلياً فصائلياً ورسمياً لبنانياً وفلسطينياً وأممياً. عوامل أخلت الساحة لمن يدفع المال أكثر، نقداً أو توزيعاً للسلاح، ولمن يبيع الأوهام والوعود بالجنة في السماء وعلى الأرض، أكان ذلك من نوع ظواهر دحلانية، أو داعشية ــ قاعدية لا تمانع إقناع سارق دراجة بالتحول إلى "جهادي"، أكان ذلك بشعار علماني أو ديني خلاصي.
(صحافي فلسطيني)

المساهمون