المقاطعة تشتغل... غربياً!

المقاطعة تشتغل... غربياً!

11 سبتمبر 2016
(مظاهرة في باريس، أكتوبر 2015/ تصوير: ميشيل بانل)
+ الخط -

كتبت كثيراً، على مدار سنين، عما يجري على جبهة القضية الفلسطينية التي تحوّلت من قضية عربية مركزية إلى قضية جانبية. كانت تبدو كتاباتي، وغيري، كمن يكلّم نفسه. انزاحت قضية القضايا إلى الهامش. جرت مياه كثيرة تحت الجسر مذ كان ياسر عرفات وأبو جهاد وجورج حبش ونايف حواتمة ملء سمع العالم العربي وبصره.

شيء ما اختفى. ثمة نجم خرج من مداره ولم يعد يشاهد في سماء العرب. لكنَّ كلّ هذا، في ظني، مجرد خداع نظر. فما إن تنفجر قضية عربية، في المشرق خصوصاً، حتى تكشف عن جذر يضرب هناك في تلك الأرض التي "كانت تسمَّى فلسطين فصارت تسمَّى فلسطين"، على حدِّ قول محمود درويش.

هناك واقع عربي وفلسطيني مختلف بعد بيروت، بعد تونس، بعد أوسلو، ينبغي أن يستصحب معه قولاً وفعلاً مختلفين. ربما لم يعد الكلام القديم قادراً على الوصف. قد تكون انتهت صلاحيته. وربما لا. لكن هناك وقائع لا تخطئها العين. والحياة، اجتماعاً وسياسة، لا تقبل، مثل الطبيعة، الفراغ. فما إن ينزاح شيء حتى يحلّ محلّه شيء آخر.

قد لا يكون البديل، قد لا يكون الطموح، بل قد يكون العكس تماماً. خرج الكفاح المسلح من برنامج منظمة التحرير الفلسطينية فحلَّت محلَّه "عملية السلام". حتى هذه التي تم قبولها، على مضض، مُسخت على شكل اتفاقية تسمّى أوسلو.. وهذه التي بالكاد "بلعها" الواقع الفلسطيني بعد بيروت، بعد تونس، انتهت إلى مسخ سلطة ومسخ سلام ومسخ سيادة.

قد لا يكون الكفاح المسلح، في صيغته البيروتية، ممكناً الآن. وقد لا يكون لمنظمة التحرير الفلسطينية الحظوة التي كانت تحظى بها في المنفى التونسي، ولكنَّ هذا لا يعني الاستسلام لواقع جعلناه، بتخاذلنا وترهلنا النضالي، أسوأ مما تصوره الأعداء.

وبما أن المجال لا يتسع هنا للكثير، سأضرب مثلاً واحداً لـ "ملء الفراغ" الذي خلفه تخلي منظمة التحرير الفلسطينية و"دول الطوق" العربية عن الحل العسكري مع إسرائيل: المقاطعة. وهذا أضعف، أضعف الإيمان.

طبَّقت بلدان العالم العربي، بعد نكبة فلسطين، مقاطعة تامة للبضائع الإسرائيلية، أو للشركات التي تعمل في فلسطين المحتلة، أو لتلك التي تستخدم أي شكل من أشكال العبور (من "إسرائيل") إلى العالم العربي.

كان هناك مكتب مركزي عربي له فروع في كلّ عاصمة عربية، وكانت الشركات والمؤسسات الغربية والشرقية التي ترغب في أسواق العالم العربي تفكِّر عشر مرات قبل أن تستثمر في إسرائيل، أو حتى تستخدم منافذها.

شركات كبرى أميركية وأوروبية، بالخصوص، قوطعت عربياً على نحو تام. بعضها فضَّل دفع غرامة (لحكومة بلده التي ترفض المقاطعة) على أن يخسر أسواق العالم العربي. لكن هذه المقاطعة كانت أمام صدمتها الأولى بتوقيع "اتفاقيات كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل.

فما إن خرجت مصر من المقاطعة حتى راحت تضعف إلى أن وصلت، اليوم، حدَّ الغياب التام. ثم جاءت اتفاقيات التجارة الحرَّة التي وقعتها دول عربية (معظم الخليج العربي بمن في ذلك السعودية) التي تنهي، عملياً، أشكالاً من المقاطعة التجارية لإسرائيل.

لكن في الوقت الذي كانت فيه دول العالم العربي تخرج من المقاطعة (لسببٍ أو آخر) بدأت موجة جديدة من مقاطعة إسرائيل (خصوصاً على المستوى الأكاديمي) تنتشر في أوروبا.. ووصلت أخيراً، بقوة، إلى شرائح من المجتمع الأميركي.

هناك منظمات وقوى أهلية وشخصيات عامة غربية لم تخضع لترهيب اللوبيات الصهيونية في الغرب، ووقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني. لم تسأل هذه القوى والشخصيات لِمَ لا تقاطع الأنظمة العربية (صاحبة القضية) إسرائيل. فهذا سؤال يتناقض مع الفكرة الأخلاقية التي تنطوي عليها مقاطعة كيان عدواني.

لنجعل المقاطعة، أضعف إيمان النضال الوطني والإنساني ضد الاحتلال، طريقاً نجمع فيه كثيرين في اتجاه فلسطين. وهذا طريق لا يتناقض مع طرق أخرى في اتجاه قضية القضايا.


المساهمون