الصراع على الأرض: بين القانون والاستعمار الاستيطاني

الصراع على الأرض: بين القانون والاستعمار الاستيطاني

19 فبراير 2017
أنقاض منازل قلنسوة (جاك غويز/فرانس برس)
+ الخط -
لعل أقصر وأبسط تعريف للصهيونية هو الذي تبناه المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل في العام 1897. بعد مفاوضات طويلة، اتفق المندوبون على أن الصهيونية هي حركة "تهدف لإقامة بيت قومي للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام". لم يكن إدخال القانون في التعريف مجرد صدفة، إذ إن الحركة الصهيونية سعت، منذ البداية، إلى العمل ضمن أطر قانونية. لم ينبع هذا التشديد على القانون من اهتمام مفرط بأمور العدالة والإنصاف، بل ارتبط ارتباطاً عضوياً بهدف إقامة دولة اليهود. فالذي يميّز مفهوم الدولة، عن أي مصطلحات أخرى تُعنى بتجمعات بشرية في بقعة جغرافية معينة، هو مبدأ السيادة ووجود نظام حكم سياسي، وكلاهما يرتكزان على وجود نظام قانوني. والاعتراف بالدولة هو أمر قانوني ويذهب بعضهم إلى أن اعتراف الدول الأخرى بحد ذاته هو ما يخلق الدولة.

لكن الحركة الصهيونية لم تكن فقط حركة قومية تهدف لبناء دولة (كما كان الحال في العديد من البلدان التي كانت تعاني تحت الاستعمار في تلك الحقبة)، بل هدفت لبناء دولة في إقليم لم يكن نشطاؤها يعيشون فيه، بل إن أغلبهم لم يزره ولم يعلم عنه إلا مما تناقلته الكتب. وفي هذا الإقليم تعيش أغلبية لا تنتمي للمجموعة التي تدّعي هذه الحركة تمثيلها. عملية إقامة الدولة إذا توجب إزالة السكان الأصليين واستبدالهم بآخرين يستوطنون مكانهم. فالصهيونية فكراً وتطبيقاً هي حركة استعمار استيطاني. وما يميّز هذا النوع من الاستعمار عن أنواع أخرى، كاستعمار بريطانيا للهند مثلاً، هو أنه يهدف لتكوين مجتمعات جديدة في المنطقة المستعمَرة على غرار المجتمعات الأوروبية بهدف الاستيطان بشكل دائم وضمان السيطرة شبه المطلقة على الأراضي والمصادر الطبيعية، وإخضاع الإقليم ومن فيه لسيطرة المجتمع المستعمِر.

يتمحور الاستعمار الاستيطاني، وبسبب طبيعته، حول الأرض والسيطرة عليها. بدا هذا جلياً في الحركة الصهيونية التي أسست منذ بداياتها مؤسسات عدة تعنى بالاستحواذ على الأراضي في فلسطين. بل إن أهمية الأرض في الحركة الصهيونية اتخذت طابعاً مِسيانياً وسميت عملية الاستحواذ على الأراضي بـ"خلاص الأرض"، وكأن الأرض كانت تعاني تحت وطأة الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون عليها. ولكي يتمكن المجتمع المستعمِر من السيطرة على الأرض، يجب عليه أولاً التخلص من المجتمع الأصلي واستبداله بمجتمع مستوطنين يتم بناؤه على أنقاض المجتمع الأصلي. بناء مجتمع المستوطنين مرهون بوجود المستوطنين بنسبة تمكنهم من محاربة المجتمع الأصلي واستغلال الموارد الطبيعية بضمنها الأرض. هذا الوجود الديمغرافي هو ما يجعل إزالة المجتمع الأصلي ممكنة. منطق الإزالة هذا، كما يذهب العديد من مُنَظِري الاستعمار الاستيطاني، هو جوهر هذا النوع من الاستعمار. وتتخذ الإزالة، في هذا السياق، مناحيّ عدة. فهي تشمل (لكن ليس بالضرورة) أعمال القتل والترحيل، وتتضمن أيضاً سياسات أخرى تهدف لإزالة السكان الأصليين سياسياً وثقافياً.

كانت حرب عام 1948 حدثاً فاصلاً في تاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. فقد كانت أعمال القتل والترحيل والنهب المنظم بداية عملية إزلة السكان الأصليين بشكل ممنهج ليحل مكانهم مستوطنون حديثو الهجرة. ومع أن عملية الاستيطان بدأت منذ عقود عدة قبل ذلك العام، إلا أن أحداث النكبة أذنت ببداية مرحلة جديدة تكون فيها عملية الإزالة الممنهجة للسكان الأصليين باستعمال العنف والإرهاب هي سيدة الموقف. أعمال العنف هذه لم تتوقف عند نهاية الحرب. فقط تغيير شكلها وطرق استعمالها وكيفية عرضها، لكنها في جوهرها وغايتها بقيت كما هي: جزء من عملية الإزالة وبناء مجتمع المستوطنين.

كان القانون، ومنذ قيام إسرائيل، جزءاً من منظومة الاستعمار الاستيطاني. ولا مفاجأة في ذلك، فعلى الرغم من المفاهيم والقيم النبيلة التي يتغنى بها كل نظام قانوني كالحرية والعدالة والحقوق وما إلى ذلك، إلا أن القانون بحد ذاته لا يمكن فهمه خارج السياق السياسي والاجتماعي. فالقانون هو عملياً تجسيد لهذا السياق وجزء منه. وفي سياق الحركة الصهيونية، كان القانون ولا يزال استمراراً للعنف الاستعماري. ففي اللحظة التي أنهت البنادق والمدافع دورها (وإن مؤقتاً) بدأ القانون عمله. يبدو هذا بشكل واضح في التشريعات التي تبنتها إسرائيل في أيامها الأولى. ولعل المادة 15 لمرسوم أنظمة الحكم والقانون، (الذي أصدره مجلس الدولة المؤقت في 19 مايو/أيار 1948، والذي أُدخل حيز التنفيذ بشكل رجعي من تاريخ إعلان إسرائيل)، هو أكثر ما يعبر عن دور القانون في عملية إزالة السكان الأصليين. فالمادة 15 تنص على استبدال كلمة "فلسطين" بكلمة "إسرائيل" في جميع القوانين المعمول بها.

إن كانت هذه الإزالة في مرسوم أنظمة الحكم والقانون مجازية ورمزية، فإنها لم تكن كذلك على الأرض وفي ما يخص الأرض وملكيتها والسيطرة عليها. فمنذ السنوات الأولى قامت إسرائيل بسن العديد من القوانين التي استهدفت السيطرة على الأرض ونقل ملكيتها بشكل قانوني للدولة أو لمؤسسات الحركة الصهيونية كالصندوق القومي اليهودي. كان قانون أملاك الغائبين الذي سن في عام 1950 أهم هذه القوانين. استهدف هذا القانون أملاك اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يملكون الأغلبية العظمى من الأراضي التي وقعت تحت سيطرة إسرائيل وتقدر نسبتها بـ70%. يعكس هذا القانون قدراً كبيراً من الدهاء والخباثة. فالقارئ لن يجد فيه كلمة "فلسطيني" أو "عربي"، ولن يجد فيه كلمة مصادرة. ويعطي النص القانوني الانطباع، أن السيطرة ونقل الأملاك هي مسألة مؤقتة حتى انتهاء حالة الحرب، كما هو العُرف في حالات الحرب. إلا أن الإجراءات التي يسمح بها القانون والسياسات التي انتهجتها الحكومة تثبت، أن المصادرة دائمة، وهي استمرار قانوني لعنف البنادق التي هجرت السكان والمتفجرات والجرافات التي هدمت البيوت في العديد من القرى المهجرة.

بعد مصادرة أراضي اللاجئين، استمرت إسرائيل باستحداث أدوات قانونية للسيطرة على أراضي الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم. كان هؤلاء تحت الحكم العسكري الإسرائيلي الذي قيّد حرياتهم وسيطر على مناحي حياتهم وأخضعها لأهواء الحاكم العسكري. في تلك المرحلة، وكجزء من أنظمة الحكم العسكري، تم منع العديد من الفلسطينيين (وقد كان أغلبهم من سكان القرى الذين يعتاشون من الزراعة) من العمل في حقولهم بحجة الأمن. كانت هذه الحجة تهدف كمقدمة لاستعمال مادة من القانون العثماني (الذي كان سائداً آنذاك والتي ندُر استعمالها في الحقبة العثمانية وحقبة الانتداب) والتي تعطي الدولة الحق بإعادة استملاك الأراضي المصنفة "ميري" إذا ما أهملها أصحابها. بالإضافة إلى ذلك، سنت إسرائيل قوانين أخرى تمت صياغتها بعناية لكي تصادر أملاك الفلسطينين فقط. ففي عام 1953 سن الكنيست قانون استملاك الأراضي (المصادقة على العمليات والتعويضات)، والذي خوّل وزير المالية صلاحية مصادرة أراض "لأغراض التطوير، الاستيطان والأمن". وقد قامت المحاكم الإسرائيلية بتفسير مصطلح "تطوير" بشكل واسع جداً، بحيث يشمل نشاطات لا علاقة لها بالتطوير مثل زراعة الغابات. بل وربطت المحكمة العليا بين هذا القانون والفكر الصهيوني وأهمية الاستيطان والتشجير في أدبيات الفكر الصهيوني. أتاح هذا القانون شرعنة أعمال سرقة الأراضي التي قامت بها الحكومة بدون أي صلاحيات وإعطائها صبغة قانونية بأثر رجعي.

بالإضافة إلى هذه القوانين، استعملت إسرائيل قوانين أخرى للسيطرة على الأراضي، منها ما يُعنى إما بالمصادرة "لمصلحة الجمهور" والتي تعني في أغلب الحالات مصلحة الجمهور اليهودي، ومنها ما يتعلق بوضع اليد لأهداف أمنية، أو قوانين التخطيط والبناء التي قلصت المساحات التي يمكن للفلسطينين البناء فيها. ما يميز هذه القوانين والسياسات جميعها هو أنها تتبع نهجاً معيناً منذ قيام إسرائيل: تسهيل "إزالة" الفلسطينيين عن طريق تقليص الحيز الجغرافي المتاح لهم وفي الوقت ذاته إقامة تجمعات سكنية يهودية وتشجيع الاستيطان فيها. هذه السياسة مستمرة، حتى اليوم، وهي على أشدها في النقب الذي أصبح في العقدين الماضيين الهدف الرئيسي للحكومة. فالآلاف من البيوت هناك مهددة بالهدم بضمنها قرى كاملة. بعض هذه القرى، مثل قرية أم الحيران، تعرضت لمحاولات هدم عديدة، والهدف المعلن لهدمها هو إقامة مستوطنة يهودية على أراضيها. أما القرية المجاورة، العراقيب، فقد تعرضت هي أيضاً لمحاولات هدم عديدة بهدف إقامة غابة على أنقاضها تحت رعاية الصندوق القومي اليهودي.
المنطق ذاته الذي كان المحرك الأساسي لسياسة مصادرة الأراضي في الـ1948، والأساليب ذاتها، تنطبق على السياسات التي انتهجتها إسرائيل في الأراضي التي احتلتها في عام 1967. استعملت اسرائيل القوانين العثمانية والأردنية والقانون الدولي (وإن بقراءة يرفضها أغلب المحامين الدوليين) لزرع المستوطنات في جميع أنحاء الضفة الغربية بهدف تطويق السكان الفلسطينيين والحد من قدرة مدنهم وقراهم على التطور. ومع أن المحاكم الإسرائيلية تدخلت في بعض المرات لمنع إقامة مستوطنات على أراضٍ خاصة مسجلة في سجل الأراضي (وهذا النوع من الأراضي يمثل أقل من نصف الأراضي في الضفة الغربية)، كان ذلك في مرات محدودة وبهدف حماية النظام القضائي والقانوني من الفوضى، لا من أجل حماية الفلسطينيين. وإذا ما نظرنا للأمر من وجهة نظر قانونية عامة تشمل القانون الدولي (الذي يُصنِف المستوطنات كجرائم حرب)، فقد فشل القضاء الإسرائيلي في التعامل مع المستوطنات. بل وقد سهّل تعامل المحاكم بناء المستوطنات وانتشارها، لأن منع إقامة المستوطنات على أراضي خاصة مسجلة أدى إلى إطلاق العنان للحكومة لإقامة مستوطنات في أراضٍ عامة أو غير مسجلة.

يثير هذا العرض لمسألة الأراضي في ظل الاستعمار الاستيطاني عدة أسئلة عن القانون ودوره، وعن إمكانية استعمال القانون للمطالبة بالحقوق. يجب أن نفرق هنا بين القانون أو قانونية أمر ما، والعدالة أو الشرعية. إذ إن قانونية عمل ما هي بالأساس سؤال قانوني يُطرح ضمن سياق قانوني تِقَني وضيق. لا يتطرق هذا النقاش لأسئلة أخرى مثل الشرعية أو العدالة، وما دام الأمر قانونياً بالمعنى الضيق فهو شرعي. نظام قانوني كالنظام الإسرائيلي لن يتطرق لأسئلة تخص العدالة أو الشرعية أو السياق الاستعماري، إذ إن الخوض في هذه الأمور يعني تقويض شرعية النظام القانوني بمجمله، وتقويض شرعية المحكمة والقضاة أنفسهم. قد يقدم القضاء بعض الحلول الفردية في بعض الحالات، لكن القضاء والقانون لن يقفا في وجه الاستعمار الاستيطاني لأنهما جزء منه. وإذا كان هذا هو الحال بشكل عام، فإن الأمر سيكون أكثر حدة في ما يتعلق بالأرض، لما للأرض من دور محوري في سياق الاستعمار الاستيطاني.

المساهمون