العرب وديمومة الذكرى

العرب وديمومة الذكرى

05 يوليو 2016
من أعمال سينياك(Getty)
+ الخط -
ما أبعد الأمس وما أقربه!
قبل نيف وأربعين عاماً، وإثر حظر تصدير النفط إلى الدول الغربية الذي قررته الدول العربية المصدرة في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، بدا كما لو أن الغرب يكتشف العرب من جديد. فجأة، طفق يحاول معرفتهم بشتى الوسائل التي تتيحها له وسائل الإعلام الحديثة في سبعينيات القرن الماضي. فتكاثر "الخبراء"، كالعادة دوماً، على شاشات التلفزة وأمواج الإذاعات المختلفة، كلٌّ يدلي بما يجهله أعظم الجهل، ويقترح حلولاً أشد جهلاً يمكن في نظره أن تفضي إلى التغلب على هذا العارض الطارئ: حظر النفط.
كان للغرب آنئذ، وفي فرنسا خصوصاً، أفضل من كان يمكن أن يعلمه العربَ أمة وثقافة وحضارة، لا بفيض من المعرفة والمعايشة فحسب، بل وبميزان صارم من موضوعية المقاربة العلمية والتاريخية: جاك بيرك ومكسيم رودنسون. وعلى غير موعد أو اتفاق، وربما استجابة لعطش جمهور عريض إلى معرفة هؤلاء الذين باتوا يقررون مصير اقتصاده وحياته اليومية أراد ناشر كل منهما أن يستجيب له، صدر لكل منهما في العام نفسه، كتاب يحمل كذلك العنوان نفسه: "العرب" كي يقول العرب أمة وتاريخاً وثقافة بإيجاز لا خلل فيه يمكن به أن يشبع فضول السائلين.
قبل ظهور هذين الكتابين، كان بيرك قد نشر في الربع الأخير من عام 1974، أي بعد سنة من القرار المشار إليه، كتاباً جامعاً لم يكن يستجيب لهموم اللحظة بقدر ما كان يحاول مقاربة عدد من إشكاليات الثقافة العربية المعاصرة التي كانت تندرج ضمن مجموع اهتماماته البحثية منذ أن اختار العرب ثقافة ومجتمعاً وتاريخاً موضوع مساره الفكري والأكاديمي. كان عنوان الكتاب كما أراد له بيرك أن يكون "كلمة العرب للعالم الجديد" معادلاً عربياً للأصل الفرنسي: "كلام العرب في الزمن الحاضر".
فيه يلتقط بيرك ما لم يكن المؤرخون أو الاجتماعيون العرب يولونه الأهمية التي يستحق: مسألة الذكرى لا في الثقافة أو الإبداعية العربية فحسب، بل في الوعي العربي خصوصاً، ماضياً وحاضراً، ولا في تجليها على صعيد الإبداع الأدبي فحسب بل على صعيد السلوك الاجتماعي والسياسي فضلاً عن الأيديولوجي.
ينطلق في مقاربته هذه من فكرة تقول إنه إذا أمكن الافتراض بأن الشعر كان ثورة الثقافة والمجتمعات العربية في القرن السادس الميلادي، فإن ثورة القرآن كانت أشد حسماً بقطعها صلاتها مع كل التقاليد القديمة، مقدمة خطاباً للإنسانية جمعاء ومبدعة في آن واحد الكلمة والإيقاع والتصنيف. لكن إذا كانت هاتان الثورتان أساس الثقافة العربية الكلاسيكية، فإنهما تتداخلان مضموناً ورؤية في الثقافة العربية المعاصرة التي كان من المنتظر أن تحقق ثورتها عبر قطيعة لا تقل شأناً عن تلك التي حققتها ثورة القرآن نفسه. لذلك لم يكن هذا التداخل يعبر عن استمرارية تاريخية خضعت لقوانين التطور والتغير بقدر ما كان يقول الخلل الذي يعتور الثقافة العربية المعاصرة منذ زمن ما اتفق على تسميته عصر النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر. وهو خلل نعثر عليه، لو شئنا، في التنافر القائم على صعيد مختلف الأبعاد التي تسم مجتمعاً ما انطلاقاً من قاعدة مشتركة هي الأخرى. ويقدم بيرك تصوره هذا عبر رسم شعاعي ينطلق من قاعدة هي الطبيعة بالمعنى الذي يضفيه ماركس على هذه الكلمة، في حين تنطلق منها أبعاد بلا حدود: التكنولوجيا والجماليات والمقدسات والأنشطة الحرة.. إلخ.
صحيح أن الخلل بين هذه الأبعاد كان منذ القرن التاسع عشر قائماً على نحو ملحوظ في المجتمعات الغربية الصناعية، وبوجه خاص بين البعد التكنولوجي المتقدم على بقية الأبعاد الأخرى التنظيمية أو المعيارية التي لا تكاد تقارن به. إلا أنه لا يجد مثيله في المجتمعات العربية التي حاول بعضها جاهداً السير على خطى مثيلتها الغربية ولا سيما على الصعيد التكنولوجي. سوى أن هذا الأخير في حالة المجتمعات العربية لم يكن يتقدم على مختلف الأبعاد الأخرى، كما لم تكن محاولات الثورة اللغوية التي طبعت عصر النهضة العربي سوى محاولة تعويض لم ينتج إلا ضرباً من الإحباط تارة والضياع تارة أخرى.
هل هي مشكلة الذكرى المستمرة حاضراً؟ يرى بيرك أن النظرة إلى العرب انطلقت باستمرار من علاقة الشخصية العربية بالمتعالي، وهي علاقة حددها ورسم معانيها الإسلام بوصفه دين الفطرة، أي ما يحفظ طبيعة الإنسان والطبيعة بشكل عام ولا يرغم الإنسان إلا على طاعة القانون الإلهي. يمكن بناء على ذلك، القول إن الإسلام يعكس كثيراً من ملامح العرب. لكنه لا يعكسها كلها. يكتب بيرك: "لقد صنعنا منهم ولزمن طويل أبطالاً ميتافيزيقيين وممثلين للمطلق، في حين لم يكونوا كذلك حتى زمن الخلفاء الراشدين". بعبارة أخرى، ثمة ملامح للعرب تعود إلى ما قبل الإسلام شاركت ولا تزال تشارك في تكوين الشخصية العربية على الرغم من طبع الإسلام لهذه الشخصية.
يمكن للكشف عن هوية العرب الجماعية في رأي بيرك عبر تجربتهم المعيشة أن يوضح لنا مجموعة من انتظامات عدة توضح عناصرها: المرجع إلى الإله، كما يضعه القرآن وكما تفترضه مسالكهم العديدة، وإن كان ذلك لا يحول دون استدعاء ثوابت أخرى غير الثوابت المتعالية التي يمكن العثور عليها بطبيعة الحال. وهناك أيضاً الاستمراريات التاريخية على صعيد العلاقة بين الجماعة والبيئة أو الانتظامات التي تعكس استمراريات في المواقف أو في رؤية العالم تخلو من أي تغيير ذي قيمة عبر قرون وقرون.
ذلك يعني أن ما يميز، بل ما يسمُ، الاستمرارية التاريخية في سلوك العرب هو هذه العلاقة الوثيقة مع ما يسميه بيرك الجذور أو الأنماط أو الثوابت، التي تتميز بغناها المحسوس. أما اتجاهات هذه العلاقة فتختلف باختلاف طبيعة هذه الجذور أو الثوابت: الأصول الدينية أو الطبيعية. لكنها في الحالتين تنتمي إلى المفهوم الأول الذي يسم لا الهوية العربية أمس واليوم فحسب بل الثقافة العربية بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة، أي، مرة أخرى، الذكرى.
ربما كان امرؤ القيس في معلقته الشهيرة: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/بسقط اللوى بين الدخول فحومل، هو من دشن ما نتحدث عنه هنا: الذكرى في الذاكرة العربية. إذ إننا لا ندري إن كان ثمة من سبقه في ذلك من الشعراء.
تلك الذكرى التي تتجلى في صور مختلفة، بعضها يطلق عليه مظلوميات تاريخية، أو استعادة أمجاد غابرة أعيد بناؤها في مخيال محض لكنه يستحيل واقعاً ما إن يتجلى في الكلمات، أو في أيديولوجيات تستدعي هي الأخرى ذكرى لا وجود لها إلا في خيال من يستدعيها.
ما أبعد الأمس بل ما أقربه! ولكن، هل غادرنا الأمس البعيد أو القريب حقاً؟


دلالات

المساهمون