عن إغلاق ملحقي "النهار" و"نوافذ" الثقافيين

عن إغلاق ملحقي "النهار" و"نوافذ" الثقافيين

29 ديسمبر 2015
أنسي الحاج، مؤسس تجربة ملحق النهار الثقافي(Getty)
+ الخط -

ليس ما يبرّر إغلاق ملحقين ثقافيين عريقين خلال هذا الشهر في صحيفتين لبنانيتين، سوى أن المتحكمين الجدد بالصحف يكرهون الثقافة أو يجدونها بلا فائدة. فإيقاف ملحق "نوافذ" في جريدة المستقبل الذي أسّسه الروائي حسن داود ثم تابع إصداره في السنوات الأخيرة الشاعر يوسف بزي، و"ملحق النهار الثقافي" الذي أسّسه الراحل أنسي الحاج مع رفيقه في مجلة "شعر" شوقي أبو شقرا، وتناوب على تحريره الروائي إلياس خوري ثم الشاعر عقل العويط من بعده، ليس ما يبرّره سوى حقد دفين موجّه إلى الثقافة والمثقفين اللبنانيين والعرب، أو على الأقل لامبالاة بالثقافة. لأن المبرّر المالي أو تخفيض النفقات، على ما يقال، غير مقنع للسائل، لأن الملحقين كانا في السنوات الأخيرة أقرب إلى المجانيين، إذ لم تدفع أي مكافآت للمستكتبين في ملحق النهار، وتأخرت المكافآت لسنوات للمستكتبين في ملحق نوافذ، هذا عدا عن أن كلفة الملحقين الفعلية ليست ذات بال اذ إنها لا تتعدى راتب موظف عادي. أما بخصوص القول إن الملاحق الثقافية ما عادت تجذب قراء كثرا، فهو أيضا يجافي الواقع، لأن الملاحق والصفحات الثقافية لطالما كانت تعني فئة معينة من الناس، ومن دون الدخول في توصيف "النخبوية" الذي يلاحق الثقافة وصفحاتها وملاحقها وأدواتها الكتابية سواء كانت نقدا أو شعرا أو أدبا، اذ يمكننا أقلّه أن نفترض أن قراء الملاحق الثقافية هم فئة كقرّاء الملاحق الرياضية، والصحف في النهاية هي عبارة عن منتج يقدّم لكل زبون (قارىء) ما يبحث عنه أو يعتقد أنه يفيده أو يسليه. ولو وافقنا على صفة "نخبوية" للملاحق الثقافية، فان هؤلاء القراء من "النخبة" يستحقون أن يجدوا في الصحيفة ما يعنيهم فيها، وإقفال الملحقين هو حرمان لهذه "النخبة" من الإدلاء بدلوها كتابة، ومن تبادل الهموم الثقافية بالقراءة.
اذاً قرار الإغلاق يحمل في طياته أسئلة كثيرة حول دور المال في تحديد وجهة الثقافة، أو متى نحتاج إلى الثقافة ومتى تكون الثقافة عبئا على الصحيفة؟
الصحيفة اليومية في لبنان، كما غيرها من وسائل الإعلام هي ملك لسياسي ثري، أو لإعلامي
يحصل على المساعدات المالية من سياسي ثري أو من دول وحكومات تقدم هذه المساعدات كي تتمكن من إدارة دفة الإعلام. وما يعني المتموّل هو السياسة العمومية للصحيفة التي يموّلها من دون أن يدخل في تفاصيل الأقسام والملاحق وغيرها. لكن الملاحق الثقافية غالبا ما تشذّ عن قاعدة انضباط الصحيفة العام، وهذا كان دأب ملحقي "نوافذ" و"النهار"، فالأول بات منبرا أساسيا لكتّاب سوريين معارضين منذ انطلاق الثورة السورية في العام 2011، وقبلها كان يتناول بالنقد الجريء تحكّم النظام السوري وحلفائه بالنظام السياسي اللبناني منذ العام 2005. عدا عن منحه فرصاً واسعة لأدباء وشعراء شباب كي ينشروا نتاجهم الذي ترفض الصحف الأخرى نشره. أما ملحق النهار فهو منذ تأسيسه قبل خمسين عاما، كان بمثابة خط الدفاع الأول عن القصيدة الحديثة، ثم عن الأدب الجديد الذي ازدهر منذ ستينيات بيروت، ثم صار في ما بعد ملحق كل المعترضين على سياسة الذلّ والتبعية والرقابة والمخابراتية التي اتبعتها الأنظمة العربية بحق مثقفيها، حتى آخر عدد منه (السبت الماضي).
الملحقان الثقافيان كانا يغردان وحدهما في سرب الصحيفتين، كيفما عدّلت اداراتهما سياساتهما اضطرارا أو لأسباب الصفقات والاتفاقات التي تعقد تحت الطاولات، وفي تلك الحالات يستهدف "الطائر الذي خارج السرب" لأنه سهل الاستهداف، ولأنه منعوت بالنخبوية أساسا، ولأن قراء الصحف عبر صفحات الإنترنت (التي باتت بالنسبة للإداريين أهم من الطبعات الورقية التي "لا تبيع" أو لا "تؤمن ثمن كلفتها") لا يمرّون على الملاحق الثقافية الا في ما ندر، فتبدو الملاحق يتيمة في صفحة الإنترنت التي تدّب فيها حركة الزوار، والذين يجعلون الخبر "الأكثر قراءة" هو خبر زواج تلك من ذاك أو اغتصاب في باص في الهند، أو فيديو مهرّب لممثلة في سهرة ليلية. هذه هي الأخبار التي يبحث عنها رواد صفحات الصحف الإلكترونية كما يرى القائمون (الجدد) على الصحف اللبنانية، أما الصحف الورقية فيشتريها قلة من القراء الذين لم يدخلوا عالم الشبكة العنكبوتية بعد، وهم في أكثرهم ممن يقرأون الملحق الثقافي.
إذا، إغلاق ملحقي نوافذ والنهار الثقافي، ذو وجهين، وجه إعلاني مفاده ان "الثقافة لا تجذّب قراء"، ووجه رقابي مفاده "بلا ملحق ثقافي تضبط الصحيفة بشكل أفضل". لكن هذا الإغلاق لا تنتهي نتائجه عند حدّ الغلق، بل هو ذو مترتبات على الحياة الثقافية اللبنانية والعربية أيضا. أولا، يكفّ كتّاب الملاحق عن إيجاد منبر جديد لكتاباتهم، بسبب قلة الملاحق الثقافية في الصحف أساسا، والملاحق تحتمل وتتسع لآراء وحجم مقالات غير تلك التي تنشر في الصفحات الثقافية اليومية. ثانيا، فقدان القارىء المتابع لهذه الملاحق مادة ينتظرها من أسبوع إلى أسبوع، هذا كان تعليق المعلقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أي ماذا سنقرأ نهاري السبت والأحد؟ (نهارا صدور الملحقين ويوما العطلة الأسبوعية في بيروت)، وهذا ما يؤدي إلى انقطاع الصلة بين المثقف الكاتب والمثقف القارىء، خصوصا في القضايا الكبرى التي تمرّ على منطقتنا والتي كل واحدة منها بحاجة لإعادة قراءة وتنظير وتأسيس، وبحاجة لنقاش حاد ودائم في تفاصيلها وأسبابها ونتائجها، وهذه القضايا في جلّها تتعلّق بالظلامية التي تجتاح العالم العربي... وعليه، فإن إغلاق الملحقين هو ساقية من الظلام ستصب في بحر الظلام الهائل الذي لا يكفّ عن الفيضان في عالمنا العربي.

إقرأ أيضا: أحمد الملا.. في كل منا شاعر

دلالات

المساهمون