شراك الترجمة

شراك الترجمة

17 مايو 2016
لوحة للفنانة السعودية نور هشام السيف (بإذن من الفنانة)
+ الخط -
"ما أشدّ سلاسة النص، ينسابُ كأنه مكتوب أصلاً بالعربية"!
كثيراً ما تتردد هذه الجملة بصيغة أو بأخرى في كتابات بعض النقاد أو على ألسنة العديد من القراء أثناء تقييمهم رواية مترجمة. جملة تحمل على التساؤل مع وعلى غرار ميلان كونديرا: أليس من الرداءة أن نقرأ روائياً فرنسياً كبروست، أو أميركياً كهمنغواي، أو يابانياً كتانيزاكي مثلاً بوصفه كاتباً عربياً؟ هل يمكن تصور أسلوب أحدهم لدى كاتب عربي؟ ألا يعني هذا أننا في هذه الحالة لا نقرأ نصوصاً تُرجِمَت وصيغت ترجمتها وفق ما تقتضيه قواعد اللغة العربية بل كُتِبَت ــ بحثاً عن السلاسة والانسياب ــ كما لو كان النص الأصلي نصاً ركيك الصياغة ولا بد من إعادة صياغته كلياً بأسلوب عربي مبين؟ هنا، يمكن مع كونديرا، مرة أخرى، طرح السؤال: من هي السلطة العليا التي يجب على المترجم أن يطيعها، الأسلوب الشخصي للمؤلف الذي يترجم نصّه أم سلطة الأسلوب العام للغة التي يترجم إليها والذي تعلمه المترجم في المدرسة الثانوية؟

لا تخص هذه المشكلة الترجمات العربية فحسب بل الترجمات إلى سواها من اللغات أيضاً ما دامت تُطرَحُ بهذه الصورة أو تلك في الثقافات الأخرى. يقول الناشر الإيطالي روبرتو كالاسو: "إننا نتعرف الترجمة الجيدة لا من خلال سلاستها بل من خلال كل هذه الصيغ الغريبة والجديدة التي كان للمترجم الشجاعة في أن يحافظ عليها ويدافع عنها".

قضى ميلان كونديرا سنوات عدة من حياته يراجع ترجمات رواياته إلى اللغات الأوروبية التي يعرفها ويعيد صياغتها بعد أن اكتشف بطريق المصادفة مدى التشويه الذي طرأ على رواياته الأولى بعد ترجمتها من اللغة التشيكية التي كُتبت بها أصلاً، إلى اللغة الفرنسية. فهذا مترجم يزخرف أسلوبه، وذاك يعيد تركيب فصول رواياته وناشر إنجليزي يقصُّ المقاطع التأملية ويستبعد المقاطع الموسيقية. اقترح بيير نورا، الذي كان رئيس تحرير مجلة "لو ديبا"على كونديرا إثر ذلك، أن يكتب لمجلته قاموس كلماته الجوهرية في رواياته ففعل، ونشرها من بعدُ فصلاً في كتابه "فن الرواية".

أول وربما أهم شِراك الترجمة جهلُ الكلمات الجوهرية أو الكلمات المفاتيح التي تنطوي عليها أعمال كل روائي، أو عدم الاهتمام بها. تلك التي تؤلف المداخل الرئيسة إلى عالم الرواية، ولا يمكن بدون فهمها وإدراكها أن تستقيم قراءة أو ترجمة عمل إبداعي كالرواية. إذ إن مترجماً عربياً يجهل على سبيل المثال مدى ودلالة ارتباط روائي مثل كونديرا بأصول الرواية الأوروبية عن طريق معلميْها الأكبريْن: سرفانتس ورابليه سوف يستخدم كلمة "الفكاهة" بدلاً من "السخرية" الأقرب إلى نظيرتها الفرنسية، وشتان ما بين الكلمتين ودلالة كل منهما في عالم روائي تعتبر فيه هذه الكلمة من كلماته الجوهرية، وسيلجأ إلى كلمة "التفاهة" ــ وهي تنطوي على حكم قيمة ــ بدلاً من الكلمة الأكثر التصاقاً بنظيرتها الفرنسية "اللامعنى" ــ الخالية، خصوصاً في سياقها، من أي حكم قيمة ــ. ومثل المترجم العربي، زميله الفرنسي الذي سبق له أن استخدم تعبير "كانت المرأة بثياب حواء" بدلاً من التعبير المباشر الأصلي "كانت المرأة عارية"، أو لجأ إلى الصورة الزخرفية "كانت السماء لازوردية الزرقة" بدلاً من "كانت السماء زرقاء"! تشويهان موصوفان وعدوانيان: على معنى النص ودلالاته من خلال كلمة واحدة لدى المترجم العربي، وعلى الأسلوب المباشر بلا زخرفة لدى المترجم الفرنسي.

يدرك كل من مارس الترجمة أن ترجمته التي أنجزها لن تخرج في نهاية التحليل عن كونها قراءة ومقاربة للنص الذي بين يديه تقترب منه أو تبتعد عنه بمقدار ثروته الثقافية العامة ومعرفته العميقة بالنص الذي ترجمه وبعالم مؤلفه. ذلك ما كان يعنيه وصف جاك بيرك لترجماته عدداً من النصوص الكبرى في التراث العربي: محاولة ترجمة. لا شيء نهائيٌ في نصِّ الترجمة، كما كان يرى، وهو قابل للمراجعة والتعديل دوماً بهدف الاقتراب من النص الأصلي. نعلم أن لكلِّ كلمة في كلِّ لغة أصولها وتاريخها ومسارها ومعانيها المختلفة في السياقات المختلفة. وبالتالي فلا مجال لطبق الأصل المطلق في الترجمة على صعيد المفردات، بل لما هو أقرب ما يمكن من الأصل مع التحفظ الشديد. ذلك شركٌ آخر من أخطر شِراك الترجمة الذي لا بد أن يؤدي، حتى في أفضل الترجمات المنجزة، إلى اختلاف القراءات للأعمال الأدبية في لغتها الأصلية عنها في اللغات التي ترجمت إليها. وربما كانت الطريقة المثلى لتجنب هذا الشرك تحقيق ما أمكن من مطابقة الدلالات بين النصين بما يتيح قراءات متماثلة في اللغتين: لغة النص الأصلية واللغة التي ترجم إليها.
من الواضح أن تطابق الدلالات أو تباعدها هو ثمرة قدرات المترجم على تلافي مختلف الشراك المشار إليها. وإلا كيف يمكن مثلاً تفسير ضحك أصدقاء كافكا حين قرأ عليهم الفصل الأول من روايته "القضية" وعدم ضحك القارئ الفرنسي أو القارئ العربي حين يقرأ الفصل نفسه باللغة الفرنسية أو العربية التي نقلت عنها؟

سنعثر على جواب عن هذا السؤال في فصل خصصه كونديرا في كتابه "الوصايا المغدورة" لقراءة جملة واحدة من رواية كافكا "القصر"، عرض فيه تأملاته التي قادته إليها انعكاسات هذه الجملة في مرآة ترجماتها الفرنسية الثلاث بدءاً من أول ترجمة أنجزها ألكسندر فيالات بقدر من الحرية لروايات كافكا بين عامي 1933 و1938 ونشرتها دار غاليمار آنئذ في سلسلة لابلياد، ثم التصحيحات التي أرادت القيام بها من أجل طبعة عام 1976 وعهدت بالمهمة إلى كلود دافيد لتطبع في هوامش مستقلة بعد رفض ورثة فيالات إدخالها ضمن متن ترجمته، وأخيراً الترجمة الثالثة التي أنجزها برنار لورتولاري عام 1984 بسبب رفضه الترجمتين المذكورتيْن. سوف نلاحظ في هذه التأملات إلى أي حدٍّ تلعب خيارات المترجم دوراً حاسماً في دلالات النص على صعيد ترجمة الكلمات الجوهرية الخاصة بالجملة المعنية أولاً، وعلى صعيد اختيار الكلمات المطابقة أو الموازية لمثيلاتها في النص الأصلي ثانياً، وأخيراً على صعيد ما يسمح به المترجم لنفسه من حرية في التصرف أثناء نقل النص، سواء في إعادة صياغة جملة المؤلف مستعيضاً عن فعلي "الملك" و"الكينونة" مثلاً بأفعال أخرى تنتقل بالمعنى وبالدلالة إلى مسافات بعيدة عن مقاصد الروائي الأولى في استخدامهما أو في تلافي التكرار الذي ترفضه اللغة الفرنسية مثلاً، لكنه يلعب أدواراً شديدة الأهمية في لغة الروائي.
من الطبيعي والحالة هذه ألا يضحك على غرار أصدقاء كافكا، قراؤه الفرنسيون وعلى أثرهم أوائلُ قرائه العرب ما داموا قد وقعوا جميعاً في شِراك الترجمة الفرنسية الأولى لروايات كافكا، ومنها "القصر" التي كتب عنها جورج حنين مقالة عام 1939، ثم طه حسين الذي قدّمَ للقراء العرب عام 1946 مجمل روايات كافكا في دراسة مطولة حملت عنوان "الأدب السوداوي" ونشرها آنئذ في مجلة "الكاتب المصري" قبل أن ينشرها كأحد فصول كتابه "ألوان" تحت عنوان "فرنز كافكا".

المساهمون