"متروبوليس" بيروت: من "صالة" إلى الـ"سينماتيك"

"متروبوليس" بيروت: من "صالة" إلى الـ"سينماتيك"

10 مايو 2016
هانية مروة مديرة "جمعية متروبوليس"
+ الخط -
عشية الذكرى السنوية العاشرة على تأسيسها، تستعدّ صالة سينما "متروبوليس" في بيروت للاحتفال بمناسبةٍ تجمع الثقافي بالفني والجمالي، وتُعتَبر، ببساطة، أحد أبرز النشاطات السينمائية المتنوّعة في لبنان، على مستوى ثباتها في تقديم أنماطٍ بصرية تنتمي، بطريقة أو بأخرى، إلى نوعية مختلفة عن السائد. ذلك أن الصالة، التي تُشرف عليها "جمعية متروبوليس" بإدارة هانية مروّة، منبثقةٌ من المفردة النقدية المتداولة في الغرب، والمعروفة باسم "صالة فنّ وتجربة"، المعنية بالنتاجات المستقلّة، الحاملة تجديداً بصرياً وجمالياً ودرامياً في مقارباتها السينمائية المختلفة لشتّى أنواع المواضيع والمسائل والأسئلة والحالات.

لن يكون الاحتفال عادياً، إذ تُعلن مروّة أن مشروعاً جديداً سيكون تحوّلاً حقيقياً في المسار التاريخي للجمعية، وللمدينة وللعلاقات القائمة فيها بين السينما وهواتها ومحبّيها ومتابعيها والعاملين فيها أيضاً، يتمثّل بإقامة "سينماتيك بيروت" خلال العامين المقبلين، علماً أن تشييد العمارة يبدأ مطلع العام المقبل (هندسة المعماريّ اللبناني برنار خوري)، على أن يكون "كلّ شيء" جاهزاً بدءاً من النصف الثاني من العام 2018.
استعادة

ليس سهلاً أن يستعيد المرء 10 أعوام من تاريخ صالة سينمائية، تؤسّس لجديدٍ مختلفٍ في المجال السينمائي الثقافي الجمالي، في مدينةٍ تحاول، منذ "النهاية الرسمية" للحرب الأهلية اللبنانية، أن تخرج من الخراب المدوّي الذي يفتك بها، وإنْ تواجه ـ مراراً وتكراراً ـ تحدّيات جمّة تعيدها إلى نقطة الصفر، أو إلى ما تحت النقطة هذه. فصالة سينما "متروبوليس"، التي افتتحت أبوابها للمرة الأولى في 11 يوليو/ تموز 2006، في "شارع الحمرا" الشهير، تُقدِّم نفسها منذ البداية على أنها "صالة فنّ وتجربة"، على غرار المتداول والمعروف في أوروبا والغرب. وإدارتها ـ إذ تريد تمايزاً عن المشهد السينمائي التجاريّ الاستهلاكيّ، توزيعاً وعروضاً ـ تؤكّد، نشاطاً تلو آخر، على أن التزام نهج "فن وتجربة" أساسيّ في خططها السنوية، وأن التزاماً كهذا لن يُعفيها من "واجبها" الثقافي إزاء الفيلم اللبناني المختلف أيضاً، العاجز عن العثور على صالة عرضٍ يتواصل، عبرها، مع مشاهدين محتَمَلين.

لكن الخطوة الأولى لـ"متروبوليس" تُصاب بضربة تكاد تكون قاضية، إذ تندلع حربٌ إسرائيلية جديدة على لبنان في 12 يوليو/ تموز 2006، أي بعد يوم واحد فقط على افتتاح الصالة الصغيرة، التابعة لـ"مسرح المدينة"، المتزامن وافتتاح أول نسخة لبنانية لـ"أسبوع النقد"، أحد أبرز البرامج المرافقة للمسابقة الرسمية في مهرجان "كان" الدولي. اندلاع الحرب، الناتج من عملية يُنفّذها "حزب الله" على الحدود القائمة بين لبنان وفلسطين المحتلّة ضد جنود إسرائيليين، يضع الصالة أمام تحدّ لم يخطر في بال أحد: التوقّف عن العمل، أو مواجهة الموت والخراب عبر السينما؟ صحيحٌ أن البرمجة المستلّة من الدورة الـ45 للأسبوع تتوقّف عن عرض الأفلام المختارة، غير أن إدارة الصالة تحوّل المكان إلى فضاء مفتوح أمام الهاربين من جحيم الحرب، جاعلةً إياه حيّزاً لنشاطات ثقافية ـ ترفيهية مختلفة، تكون الفئات العُمرية الصغيرة محورها وركيزتها ونواتها.

لن يكون "أسبوع النقد" البرنامج الوحيد للصالة، وإنْ يُراد له تقديم المشروع السينمائيّ الجديد، حينها، بصفته حيّزاً لعروضٍ فيلمية في أحد أعرق المهرجانات السينمائية الدولية، وهو حيّز معقودٌ على علاقة النقّاد السينمائيين بالاختبارات الإخراجية والدرامية الجديدة. ففي 10 أعوام متتالية، وبعد "نجاتها" من موت الحرب تلك، تتوصّل "متروبوليس" إلى تجديد علاقة منسية بين مُشاهدين محليين وأشكال سينمائية عديدة، عبر تنظيم عروض جماهيرية، أو استعادات كلاسيكية، أو مشاركة فعلية في إقامة مهرجانات سينمائية، تبقى أبرزها "أيام بيروت السينمائية"، المعنية مباشرة بكل جديد سينمائي شبابي مستقل يُحقّقه شبابٌ عربٌ مقيمون في بلدانهم، أو مهاجرون إلى بلاد الاغتراب الغربيّ. وهذا، إذْ يكون قاسماً مشتركاً بين الصالة/ الجمعية وإدارة المهرجان البيروتي (المقام مرة واحدة كل عامين)، يُصبح دافعاً إضافياً للطرفين، لتبيان سمات التطوّر الاشتغاليّ للصورة السينمائية العربية.
محاولات سابقة

تورّط "أيام بيروت السينمائية" في الهمّ التجديديّ للسينما العربية، وإعلان "جمعية متروبوليس" التزامها نهج "فنّ وتجربة" في نشاطاتها، يطرحان سؤالاً أساسياً، عشية الاحتفال: ما سبب "انكفاء" الصالة عن العروض السينمائية العربية التجديدية، خارج إطار "أيام بيروت السينمائية"؟ سؤال منبثقٌ، أيضاً، من محاولات سابقة على "متروبوليس"، تتوّلاها الموزّعة السينمائية اللبنانية ديمة الجندي بالتعاون مع إدارة صالات "أمبير"، الأقدم تاريخياً والأعرق سينمائياً في لبنان. تعاون مموَّل من "الاتحاد الأوروبي"، يهدف ـ عبر افتتاح "صالة أمبير 6" في منطقة "سوديكو"، المعروفة بكونها "خط تماس" بين البيروتين أثناء الحرب الأهلية ـ إلى إيجاد فسحة سينمائية خاصّة بالجديد السينمائيّ نفسه.

ديمة الجندي تسعى، بما لديها من إمكانيات متواضعة، إلى تثبيت مكانٍ جغرافي لنتاج سينمائي عربي، يبدأ بعروض فيلمية لأعمال مغاربية يحققها سينمائيون من المغرب والجزائر وتونس، لديهم حضور معروف في المشهد البصري الإبداعي. الصالة نفسها (أمبير 6) منشغلةٌ أيضاً بنتاجات أوروبية لا علاقة لها بالحس التجاري الاستهلاكي، ولا بـ"المفهوم" الهوليوودي للسينما، وتكاد تندمج و"مهرجان السينما الأوروبية" (تنظيم "بعثة الاتحاد الأوروبي" في بيروت)، في بلورة حضور ثقافي لسينما أوروبية مختلفة. لكن "متروبوليس" تكتفي، بين حين وآخر، بنتاجات لبنانية تجديدية، وأخرى عربية أقل عدداً، إما بسبب غياب التمويل، أو بسبب عدم توفر إمكانيات (مادية وغير مادية) لتنظيم عروضٍ كهذه.
"صالة أمبير 6" نموذج سينمائي تعرفه بيروت في تسعينيات القرن الـ20، بعد أعوام قليلة على انتهاء الحرب الأهلية. و"صالة متروبوليس" نموذج آخر تعرفه المدينة نفسها بدءاً من النصف الثاني من العشرية الأولى للقرن الـ21. فاصل زمني قليل، يتواصل مع حالات سابقة على الحرب الأهلية، تتمثل بنواد سينمائية تؤسس لثقافة جمالية بصرية فاعلة ومؤثرة في أكثر من جيل لبناني ـ عربي. تجربة "أمبير 6" تتوقف سريعاً، بسبب طغيان فكرٍ تجاري يجد في الثقافي "خسارة مالية لا تُعوّض"، علماً أن "الاتحاد الأوروبي" مموّل أساسي لها عبر برامجه المتنوعة. انتقال "صالة متروبوليس" من مسرحٍ يوصف، في أدبيات الثقافة اللبنانية، بأنه طليعي ورائد (تديره الممثلة والمخرجة المسرحية اللبنانية نضال الأشقر)، إلى صالة تجارية (أمبير صوفيل)، نابعٌ من عجز إدارة المسرح عن تحمّل فعلٍ ثقافي للسينما، لن "يضخّ" أموالاً لها. التفكير الجدي في الخروج من المجمعات السينمائية الطاغية في لبنان، مرده رغبة أساسية في التحرر من سلطات مالية اقتصادية تجارية لا تعنيها السينما بشيء. في حين أن وزارة الثقافة اللبنانية لا تُبالي بمشاريع يفترض بها أن تكون داعماً لها من دون مقابل. أما "سينماتيك بيروت"، فسيبقى مشروعاً "فردياً"، تُنفذه جمعية سينمائية تحصل على تمويلٍ من "جمهور" وفيٍّ لنشاطاتها، ومن برامج أوروبية معنية بدعم نشاطات ثقافية للسينما، ومن تعاونٍ يتعمّق معناه الثقافي ـ الجمالي أكثر فأكثر، مع مراكز ثقافية غربية عاملة في لبنان، كـ"غوته" الألماني، و"المعهد الفرنسي"، و"المجلس الثقافي البريطاني"، و"المركز الثقافي الإيطالي"، و"الاتحاد الأوروبي"، وصولاً إلى سفارات دول غربية، تريد "ترويجاً" ما لصناعاتها السينمائية.

"سينماتيك"

صحيحٌ أن الغالبية الساحقة من الاستعادات السينمائية غربية أو أوروبية تحديداً، لكن "متروبوليس" تهتم، وإنْ بدرجة أقل، بما هو محليّ (لبناني) أيضاً. إتاحة الفرصة أمام مجموعة من الأفلام الوثائقية اللبنانية خطوة لتفعيل العلاقة الثقافية بين هذا النوع السينمائي وجمهور محتمل. تخصيص "عروضٍ تجارية" بأكثر من فيلم لبناني (وبعض العربي) ينفض عنه موزعون وأصحاب صالات كثيرون، خطوة أخرى في الاتجاه نفسه. بالإضافة إلى تنظيم ورش عمل متخصّصة بشؤون تقنية ودرامية وجمالية، و"ماستر كلاس" أيضاً، مع تقنيين ومخرجين غربيين يتواصلون مع هواة لبنانيين يريدون اكتساب بعض المعارف الاحترافية.
الاستعادات المُقدَّمة في "متروبوليس" غنية بالعناوين السينمائية الأساسية في ابتكار لغات تجديدية أحياناً، أو في توليد أنماط حديثة في الأداء التمثيلي والتصوير والاشتغالات. وهي، إذ تدفع مشاهدين عديدين إلى مشاهدة/ إعادة مشاهدة أفلام لا تزال حية في التاريخ السينمائي الدولي، توثّق علاقة الصالة/ الجمعية بمؤسّسات ثقافية تعمل على نشر ثقافة سينمائية، أو على تمويل مشاريع سينمائية أيضاً. والاستعادات، كغيرها من النشاطات المعنية بالجديد والتجديديّ معاً، تمنح "متروبوليس" صدقية هي أساسية في الانطلاق في تنفيذ مشروعٍ جديد، يُفترض بمؤسسات الدولة أن تُعنى به: "سينماتيك" تستكمل ـ على نطاق أوسع ـ برنامج الصالة/ الجمعية على مستوى "سينما المؤلّف" و"السينما المستقلّة"، إذْ تستأجر "متروبوليس" صالات المجمع المنوي تشييده، والمتضمّن مقاه ومطاعم ومكاتب "يُتوقّع أن تجذب كلّها أناساً يعملون في السينما". صالات تتوزع على أكثر من مهمّة سينمائية وثقافية وفنية.
تؤكّد هانية مروّة، في أكثر من لقاء، أن "متروبوليس" محتاجة إلى أكثر من صالتين اثنتين، كما هو الحال الآن في "أمبير صوفيل". تقول إنه بالإضافة إلى المهرجانات والاستعادات، والعروض التجارية للأفلام المختلفة، هناك جانب ثالث يرتكز عمل الجمعية عليه أيضاً: التراث السينمائي. يتضمّن المشروع الجديد 3 صالات: أولى (350 مقعداً) للمهرجانات، وثانية (250 مقعداً) للأفلام الحديثة التي ترغب الجمعية في عرضها تجارياً، وثالثة (100 مقعد) لأعمال مستلّة من التراث السينمائي، لهذا فهي تضمّ عدداً أقل من المقاعد "لأن الجمهور قليل، وإنْ تكن مهمة الصالة هذه أساسية في مشروعنا". صالات كهذه تختصّ بمهمات سينمائية كتلك، يُفترض بها أن تُجهَّز، تقنياً، بالأفضل: "ديجيتال" ونظام "4 ك.". لكن أيضاً هناك نظام الـ35 ملم، المعنيّ بعرض أفلام قديمة.

(كاتب لبناني)

المساهمون