غبار الجنرال

غبار الجنرال

24 مايو 2016
لوحة للفنان النيوزلندي هاميش ماك أوين (Getty)
+ الخط -

-1-

مسجى على سريره العالي، محاط بأطبائه وممرضاته ومستشاريه وحاشيته. وهم، في جسّهم لنبضه، يجسون نبض السلطة ذاتها، التي أتخمتهم وفتحت لهم كل الأبواب، التي أغلقت في وجوه العامة الهائمة على وجوهها في شوارع لا تُفتح إلا على الخراب.
وفي تعقب حرارة جسده، يتعقبون حرارة سلطتهم الرابضة منذ دهر، يتصاعد بخارها. فوق نيران مرجل الانتظار الشعبي.

لم تعد تجدي المراهم والبودرة، لإعادة النضارة إلى الوجه، الذي خذله الزمن واستوطنه الذبول، وفات أوان أكاسير العطور في إزاحة رائحة تفسخ جسده - سلطته.

تغدو الإنجازات الطبية لإطالة أعمار الديكتاتوريين أمراً أقلّ مأساوية من الإنجازات السياسية وما يتبعها من توظيف القوة الجهنمية، لإطالة عمر الأنظمة المنسوبة إليهم.

إذ لا تعرف، على وجه التحديد، القيمة التي ينتجها العمر الفائض عن حاجة البدن، حين يندلق كماء خارج دوارقه، بينما صاحبه يصطلي بنار عذابات حشد من الحقن في أوردة ثقبتها الإبر المدببة، والأوردة الأخرى مهيئة لاستقبال غرزات إبر "السيرومات" التي تختزن الجرعات الغذائية والفيتامينات... والانكشاف المذلّ للجسد أمام عشرات الممرضين والممرضات والأطباء والطبيبات... وحشد المصورين والصحافيين، والفضوليين.

لكن يمكن تبيّن النتائج التي تترتب من إطالة عمر الاستبداد، كمزيد من الغرق في الخيبات والعذابات التي تنهك البشر.....

من أجل ماذا، حافظت الطغمة الحاكمة على الجنرال فرانكو حياً، بصورة اصطناعية؟ تحمّل خلالها عذابات رهيبة، كأنهم يعملون على رشوة الموت بالطرق التي احترفوها واحترفها معهم موظفو دولتهم.. وكانت قد أنجزت قبل ذلك بسنوات تحولات ديمقراطية في أنظمة محكومة بأنماط مقاربة لاستبداده؛ اليونان والبرتغال.

أمن أجل تأجيل الشماتة الشعبية بالطغمة الحاكمة، حينما تبيّن أن رمزها قابل للموت، كما هو حال كل الكائنات الحية كالأسماك والضفادع والقطط؟
أو ربما لكسب الوقت، علّ الجماعة الحاكمة تتدبّر بديلاً عن زعيمها ورمزها، ويضعون الشعب أمام مساومات، تتكفل بإبعادهم عن المحاسبة وبقائهم بطريقة ما في مواقعهم الامتيازية.

-2-

أيذكر ويعي الجنرال في الساعات التي تبقت له، وهو يطلّ بعينيه الذابلتين من خلف جفنيه الثقيلين، يحدق في سقف غرفة قصره - دولته، ولا يراه.... التاريخ الذي ارتبط بنظامه وشخصه؟

كالحديث الطويل عن الوطنية الإسبانية، والاستعانة بأسراب الطائرات الألمانية، لدكّ المدن والبلدات الثائرة وحرقها فوق رؤوس أهلها. القابلية التي اعتمدها بمنهجية مروعة، في تحويل الثورة الشعبية 1936- 1939 إلى حرب حرقت البلاد والعباد؟
استفادته من التناقضات بين الأنظمة الأوروبية التي كانت تجاهر لفظياً في عدائها للنازية والفاشية مثل الجارة فرنسا، وتحتجز على أراضيها الأسلحة التي أرسلها السوفييت إلى الثوار.
تمكّنه من الحفاظ على مواقعه وامتيازات الطبقة التي يمثلها، فلم يسقط بسقوط النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، واستفاد من إعادة التأهيل الأوروبي - الأميركي للأنظمة الحليفة لهتلر وموسوليني، والآلاف من ضباطهما ورجال استخباراتهما وقواعدهما الحزبية، كعتاد جاهز لخوض بواكير الحرب الباردة ضد البلدان الاشتراكية.

الإفراط في اعتماده على الكنيسة التي ظهرت كإسمنت إيديولوجي لحكمه، بعد إطلاقها صفة "الحرب الصليبية" على حربه على الثورة وأهلها، في الوقت ذاته كانت "كتائبه" تسوق الكهنة المتمردين إلى الأقبية، للإدلاء بالوشايات ضد رعيتهم، ودفعهم وهم تحت طائلة التهديد بالقتل، لتدوين شهادات كاذبة عن أناس لا يعرفونهم.

الحديث عن الشعب، والعمل بكل السبل لقتله في مذابح جماعية مروعة، وإقصاؤه عن المشاركة العمومية، وتشتيت ما بوسعه تشتيته في البلاد الواسعة... وقد تجاوز ضحايا نظامه عتبة المليون قتيل، وكان قد أوشك في بواكير الثورة الشعبية، على التعهد خطياً بقتل مليون إسباني لتثبيت نظام الحكم العسكري الذي يمثله.
ترى أوصلته التقارير عن ضباطه، حينما كانوا يزيلون قرية عن الوجود... ويشربون الأنخاب فوق أطلالها؟

أو عن رجال مخابراته حين كانوا يتلهون بإذلال المعتقلين، وإجبارهم على حلاقة سيقانهم، وانتزاع شعر وجوههم، وطلاء أنفسهم بالأصبغة، ليظهروا مثل مومسات هرمات؟
وحين كانوا يطوون المعتقلين العراة، كأنما يسخنون سندويشات السجق، بعدما يضغطوهم بين حزمة متقاطعة من الأسياخ الحديدية المسماة بالكرسي "الألماني"؟
أتعذيه تلك الأوقات، التي بدّدها في ترقيع الثقوب، التي لا تكف زمرة الأزلام والمحاسيب عن إحداثها في بنيان الدولة ومؤسساتها، والتي كانت كافية لبناء بلد ثان... والقيام بأكثر من خمس حركات تصحيحية؟

كم تختزن العبارة من الحقيقة، حين القول: "تموت الديكتاتورية بموت الديكتاتور"، لتكون الديمقراطية هي الاستنبات الأخضر اليانع من قبره.... وكأن الديكتاتور شخص مفرد، متفلّت عن قاعدة اجتماعية، تتقوى بقوانينه وشرطته وجيشه، ويتقوى بمساندتها ودعمها.
بعدما تبيّن أن الكثيرين والكثيرات من أتباعه يتهيأون لتبييض سيرتهم السوداء على جثة الديكتاتور/ ديكتاتورهم، ولي نعمتهم وتاج رؤوسهم، أي كل أولئك الشركاء الحقيقيين في مذابحه ونهبه وإذلالاته وحكمه... الجيش – الأمن - الكنيسة -البورجوازية - كبار ملاكي الأراضي..

ما هي الخصائص التي تختزنها روح الصابون والغسولات، ليعوّل عليها في تنظيف تاريخ الاستبداد وزبانيته من دماء ضحاياهم؟ وكم يلزم من الجوقات الموسيقية لإخفاء أنين أصواتهم وأصوات أهلهم، وهم يتعقبونهم من سجن إلى آخر؟

لكنه زمن تتحول فيه الذاكرة السياسية، إلى صابون تذوب عليه حقائق الوقائع التاريخية.
ما أخطأ الفرنسيون قط، بإطلاقهم عبارة "التسميم"، على الطريقة الدفاعية التي يلجأ إليها اللصوص والقتلة، عبر الإيحاء بتوريط الجميع، فلكي يتمكنوا من الفرار يصيحون "حرامي".
يبقى من الضرورة التذكير، تذكيره على الأقل، أنه انتزع من البشر الخاصية الفطرية التي تولد معهم؛ الرغبة الحالمة للتمرغ في سهوب الحياة والتنعم ببهجتها. والتوق الحاسم، وهم يسعون لترسيم مصائرهم، إلى القبض على ذؤابات الخيارات الحرة.

أترى حان الوقت ليتأمل الناس في المهرجانات التي كان يضع خلالها أحجار الأساس لمئات من المشاريع الوهمية... والسخرية من أطروحاته الفكرية عن أهمية القطب الشمالي في الوحدة القارية، وضرورة حرق أقراص الروث الجاف لإبعاد أعداء الوطن عن الحدود المقدسة، وعن دور البقر في تاريخ تمدين الأرياف. والإحالات الحاسمة لكل ما هو غامض في سياساته وممارساته، إلى معجزات الذات الإلهية؟

-3-

لكن كيف ستتحقق التحولات الديمقراطية بعد رحيله؟
من هي القوة السياسية التي ستحمل هذا المشروع، بعد التدمير المنهجي للنقابات والأحزاب وعموم المبادرات القاعدية، أي بعد الخرائب السياسية - الاجتماعية الكارثية، التي تركها خلفه؟ غير عن تعكير الوطنية والثقافة المنبثقة من رحمها، والتلاعب بالجماعات الاجتماعية، إهانتها وإذلالها والنفخ في أجداثها في آن؛ كاتالونيا، غاليسيا، الباسك، مناطق الأندلس...، لتظهر كل منها، بعد مرور الزمن الاستبدادي، أمة بذاتها.

عزيز تبسي حلب أيار/ مايو 2016

المساهمون