زكرياء الرمحاني وجوه لها بصمة الأثر

زكرياء الرمحاني وجوه لها بصمة الأثر

05 ابريل 2016
زكرياء الرمحاني في مرسمه (بإذن خاص)
+ الخط -
وجوهه تبدو كأنها خارجة من رحم الخلق. ملامحها تتشكل أمام العين بصورة مدهشة، وكأنها تولد أمامنا، أو كأن بصرنا هو الذي يبعثها من غياهب اللطخات واللمسات والحركات والألوان. هو فنان شاب (1983، طنجة) سطع نجمه في سنوات قليلة، ارتاد آفاق التشكيل بأسلوب يبدو وكأنه ولد معه، خرج به للعموم ناضجًا يتسربل في بهائه كما ليعيد النظر في الكثير من مسلماتنا وأوهامنا البصرية.

زكرياء الرمحاني لم يطرق باب التشكيل جزافًا. راوده عن نفسه في محترف أبيه وتمكن منه بسرية تامة، قبل أن يدرسه ويغدو مدرّسًا له. غير أن الفوْرة الباطنة التي كانت تعتمل فيه جعلته يترك التعليم كي يتفرغ بشكل كامل لهواه الفني. ومنذ أن اكتشف "أسلوبه" الخاص في بدايات العقد الماضي وهو يسير به ناسجًا لحمته. معرفته العميقة باللغة العربية التي قد تجعل منه أستاذًا لها من كثرة إتقانه لأسرارها ومكنوناتها، وحفظه لأشعار المتنبي وأبي نواس وغيرهما، وتغنيه المستمر بها، قد يكون له أثر في توجهه نحو استعمال الحرف، أو بالأحرى توظيف أثره في تشكيلاته.
على عكس أبناء جيله، لم تستهوه المنشآت الفنية ولا المنجزات والفضاء الخارجي. لعل لتكوينه الثقافي العربي سببًا في ذلك. كما لم تستهوه التشخيصية التقليدية رغم عشقه للوجه وللهوية الوجودية والبصرية التي يعلنها. إيمانه الكبير باللوحة فضاءً للتعبير وبالوجه كيانًا وموطنًا للتشخيص، وبالحرف وتناسلاته أداة لذلك، جعله ينزاح منذ البداية عن الحروفية. أكان ذلك رغبة في إتيان الجديد، في مجال بدأ الجديد فيه يفكك أواصر التعبير التشكيلي، بحثًا عن مغامرة ترتاد وسائط جديدة كالأشياء والفيديو والفضاء الخارجي؟ بل في مجال صار فيه التشكيل بالحرف كما بالحركية الحروفية يستنزف موارده منذ أن صارت الحروفية إيديولوجيا لهوية محجوزة؟

يهتم الرمحاني بالوجوه ومن ضمنها وجهه هو. لذلك نجد الكثير من البورتريهات الشخصية في أوضاع متباينة. بيد أن الوجه لا يتشكل كملامح وإنما كمكونات حركية تنسجها بشكل متداخل لمسات تشبه الحروف، عربية ولاتينية. أشباه الحروف هذه تتمازج وتتشابك وتتشرْنق وتتكثَّف وتتكاتف كما لتصيبنا بالدوار. ولو أخذنا من البورتريه جزئية لوجدنا أنفسنا في ما يشبه المتاهة. غير أن هذا الكل يتسربل في الأخير ويتناغم لونًا وحركةً وشكلًا كي يمنحنا ملامح وجه، قد نتعرّف إليه، حين يتعلق الأمر ببورتريه شخصي، ونتعرّف إليه بالتأكيد حين يتعلق الأمر بشخصية كالرئيس الأميركي. كان البورتريه في تركيبته المشاكسة تلك في السنوات الأولى "بسيطًا" ثم صار مع الوقت وتوالي "السلسلات الفنية" يعرف التغير ليغدو مركبًا؛ بحيث صار في السنوات الأخيرة موطنًا للعديد من البورتريهات المندمجة التي قد لا تحيل بالضرورة إلى الشخصية الرئيسة.
في سلسلة "وجهُ آخرِك" (2007-8) يلعب الرمحاني على الوجه بشكل تكاد تنطمس ملامحه في لجة الآثار الحروفية المتراكبة. إنه هنا يفصح عن هوْس مزدوج: هوس الوجه وهوس الجذبة (الرقصة الطقوسية). وكأننا به يحول اللوحة إلى حلبة لرقصة شعائرية تتناسل بمقتضاها الآثار والعلامات. هذه العملية التركيبية والتشكيلية هي التي تحول الوجه إلى هوية مركّبة، أي إلى طيف وخيال، وإلى صورة (بالمعنى العربي الأصل). والحقيقة أن هذه اللعبة التشاكلية هي التي تختزنها ذاكرة اللغة. ففي لسان العرب جاء أن كلمة صورة تعني، من بين ما تعنيه: الوجه والجسد والرَّقْش والرقم والخيال والظلّ. وأنا أعتبر هذه الفترة الخصيبة أكثر فترات الفنان تعبيرية وأعمقها انغراسًا في مفاوز الهوية الوجْهية في بعدها التشكيلي الجمالي.
سوف يتابع الفنان هذه السلسلة ليتحرر الوجه تجريديًا من غمرة اللُّجَّة التركيبية، وسوف يفصح عن لعبة جديدة، بحيث يصبح ذلك الوجه النازع للخفاء، ميّالًا هنا للتجلّي، لكن بشكل يغدو معه متعددًا. إنه يحتضن وجوهًا أخرى وكأنه بذلك يجعل من الوجه هوية الهوية، أي تلك الهوية المترحِّلة بين الوجوه الساعية إلى جعل العالم بشساعته، يستوطن وجهًا مقعَّرًا، متناسلًا، مستضيفًا كل الوجوه. الوجه هنا فضاء له تِلاله ووِهاده، بل هو سماء تمطر آثارًا وعلامات وحروفًا وكلمات وجملاً أحيانًا.

لكن هذا الاستيطان الضمني، لن يلبث أن يعلن عن نفسه في تجربة جديدة هي وليدة التحولات السابقة. فالرمحاني منذ البداية يشتغل على الموضوع نفسه بتقليبه في كل الاتجاهات. هذا المنظور، إغناء وانزياح في الآن نفسه واشتغال على الممكنات التي تفتحها التجربة في وجه الفنان. 

ومن هذه العلاقة الضمنية بالعالم، سوف ينتقل الفنان إلى إعلان المماهاة بين الوجه والكلمة. ففي سلسلة "وجهي كلمة" (2012) نراه يعود بنا إلى أصل عمله، أي إلى ما يجعل الصورة كلمة، والكلمة ابتكارًا. بهذا المعنى يبلور الرمحاني أسطورة خلق تنبني على الهوية الوجهية واللسانية لا غير، مختزلًا العالم فيهما حصرًا، لا رغبة منه التقويض، وإنما في تعيين المدخلين الأساسيين لثراء الكون والحياة معًا. في هذه الفترة سوف تغدو اللوحة من الناحية المادية والفضائية عالمًا حقيقيًا، غدا قابلًا لاحتضان الفنان نفسه جسدًا وإبداعًا. فلقد بدأ في الاشتغال على مقاسات تتجاوز الخمسة أمتار علوًا وعرضًا. وهي مقاسات هائلة تكاد تلتهم جسد الفنان لتحوله إلى مكوّن من مكونات اللوحة. هذه الفضاءات الإبداعية الهائلة سوف تمكّن الفنان الاشتغال على الموضوع نفسه بشكل متعدّد، وكأنه بذلك يحوّل اللوحة نفسها إلى عالم كامل يمكّنه من تمجيد الوجه والاحتفاء بالهوية وتركيز الطابع التعبيري الانطباعي الهجين أسلوبيًا والمتوحد موضوعاتيًا.
في هذه التجربة التي يسير بها زكرياء الرمحاني منذ عقد من الزمن، نقف بشكل واضح على الممكنات التي يبيحها الحرف واللغة، يجرنا معه إلى المنفتحات التي تمنح نفَسًا جديدًا للعلاقة التليدة بين اللغة والتشكيل. إنه نفَس يحرر اللغة من سلطة الهوية والحروفية والإيديولوجيا، ليمنحها جسدًا ووجهًا جديديْن ترى به العالم.

المساهمون