كمال الجعفري يخلق فلسطين أخرى في السينما

كمال الجعفري يخلق فلسطين أخرى في السينما

08 مارس 2016
المخرج الفلسطيني كمال الجعفري(العربي الجديد)
+ الخط -
ولد المخرج الفلسطيني كمال الجعفري (1972) في مدينة الرملة، في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. لكن حياته تقاطعت مع يافا التي تنحدر منها والدته كما درس فيها المرحلة الثانوية، لتكون الأخيرة مسرحاً حيناً وبطلاً حيناً آخر في ثلاثة من أفلامه الأربعة: ومنها "السطح" (2006) و"ميناء الذاكرة" (2009)، وآخرها فيلمه "Recollection" (استذكار/استعادة) الذي عرض في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك.

عاش الجعفري بعد الرملة ويافا في القدس ومن ثم انتقل إلى ألمانيا، حيث درس في ”أكاديمية الفنون“ في مدينة كولونيا. ومن ثم انتقل للعيش في الولايات المتحدة في بوسطن، حيث حصل على منحة زمالة لسنة في جامعة ”هارفارد“ ومن ثم عمل وعاش في نيويورك قبل أن يعود إلى ألمانيا ويستقر حالياً في برلين. كان لـ ”العربي الجديد“ في نيويورك هذا اللقاء المطول معه على هامش عرض فيلمه.

يقول عن فكرة فيلمه الأخير الذي عرض في نيويورك ويحمل اسم ”Recollection“، إن قصة صناعة الفيلم وفكرته لا تقل إثارة عن الفيلم نفسه. لقد أخذت ستين فيلماً إسرائيلياً صور أغلبها في يافا في الخمسينيات وحتى التسعينيات، بعضها هولويدية. وقمت بمسح الممثلين الإسرائيلين والأميركان من المشاهد التي صورت بالخارج في شوارع يافا ومن ثم أعدت تركيب المشاهد بتقنيات حديثة. وخلقت وغيرت في حركة الكاميرا، كما وضعت الأشخاص الذين ظهروا بالصدفة، في خلفية الأفلام الأصلية الإسرائيلية، في المركز ليصبحوا في الثواني التي يمرون بها هم أصحاب المشهد.
عن عمله كمخرج يؤكد الجعفري أنه يشبه شخصاً ”جامعاً“. كشخص عليه أن يكمل عملاً لم ينته "دوري كان جمع ووضع الصور بترتيب معين يخلق شعوراً معيناً كنت معنياً بخلقه. لقد كبرت وعشت بشكل جزئي في يافا حيث كنت أزور جدتي لأمي كثيراً، وذهبت في مرحلة المدرسة الثانوية لتكملة دراستي في يافا. ولبيت جدتي أثر مهم علي. كنت دائماً أشعر أن البيوت والمدينة تختفي وهي فعلاً كذلك لأن 80 بالمئة ربما من الشوارع والبنايات التي صورت بينها تلك الأفلام لم تعد موجودة على ذلك النحو.

عمل الفيلم كان فرصة لعمل شيء لا يمكن، برأيي، عمله إلا في السينما إذا أردت أن تحرر الحيز العام الذي احتل. لم تكن عندي رغبة بعمل فيلم روائي تقليدي مع حوارات أو الذهاب إلى الأماكن التي صورت فيها تلك الأفلام. أخذت قراراً واضحاً من البداية وهو استخدام الصور التي صورها غيري، أي صور تلك الأفلام وإعادة خلقها لتكون عالماً مختلفاً تماماً عما خرجت منه. وأعتقد أن الصور بهذا الفيلم تتحدث عن نفسها عن يافا وعن أي مكان مُدمر".


يصر في حديثه لـ "العربي الجديد" أن الفيلم ”صنع نفسه“ بنفسه، ويفسر ذلك على الشكل التالي: "لم يكن عندي سيناريو جاهز بل أُنتج الفيلم خلال العمل. واكتشفت الكثير من الأمور المثيرة، والتي كتبتها بنهاية الفيلم، عن تلك الشخصيات التي ظهرت بالأفلام الأصلية بالصدفة. هنا شخص يطل برأسه وهناك شخص يمر صدفة... على سبيل المثال هناك مشهد سيارة تقف على جانب الطريق. في المشهد الأصلي كان ممثلون يقفون أمامها ولكن كان عليّ محوهم ورسم الخلفية لكي أكمل الحيز الذي كان الممثل يأخذه. وعندما أريت المشهد وصورة السيارة لأمي قالت إن السيارة لشخص نعرفه وهكذا دواليك، اكتشفت ذاكرة تلك الأماكن من جديد. كما اكتشفت صورة لخالي وهو يمر بالخلفية في أحد الأفلام. من المثير أن هذه الأفلام الإسرائيلية التي أرادت محو ذاكرة يافا هي نفسها التي ”ساعدتنا“ رغماً عنها على حفظ هذه الذاكرة".

بداية الفكرة
ولكن كيف بدأت الفكرة، وكيف تطورت؟ عن ذلك يقول "في أحد الأيام وأثناء ذهابي إلى بيت جدتي في يافا في الثمانينيات، رأيت الأطفال/ الشباب متجمعين وبقيت واقفاً معهم حيث كانوا يشاهدون تصوير فيلم. كانوا يتحدثون عن ممثل اسمه تشاك نوريس يقوم بتصوير فيلم. وأثناء وقوفي معهم شاهدت سيارة تمر وعليها اسم مدرستي ومن ثم فتح هو الباب وخرج وبدأ بإطلاق النار، كان التصوير لفيلم ”ذا ديلتا فورس“، والذي تدور أحداثه في لبنان الحرب الأهلية لكن تصوريه كان في يافا!

مرت هذه الحادثة والحدث. بعد سنوات طويلة كنت في لندن مدعواً لعرض فيلمي ”ميناء الذاكرة“ وأثناء وجودي في الفندق كانت إحدى محطات التلفزة تعرض ذلك الفيلم بالذات، أي فيلم ”ذا ديلتا فورس“، ولدهشتي كانت تلك اللقطة التي شاهدت تصويرها! وشاهدت الفيلم حتى النهاية. وتفاجأت لرؤية يافا التي عرفتها في شبابي وطفولتي. وتذكرت كيف تغيرت معالمها الآن حيث تم ترميمها وتهجير عدد لا بأس به من أهلها حتى بعد 2010، حين شاهدت ذلك. ومن ثم قررت أن أبحث عن أفلام إسرائيلية أخرى صورت كذلك بيافا. ووجدت عدداً هائلاً من الأفلام الإسرائيلية، في مكتبة جامعة هارفارد حيث أقمت لسنة. فالأفلام الإسرائيلية كانت توزع بشكل جيد في أميركا.

ولكن في البداية عملت على المشروع كبطاقات. قمت بعمل 20 ألف بطاقة فنية مأخوذة من كواليس تلك الأفلام. قمت بوضع المهمش في المركز ومن ثم تطورت الفكرة لتصبح فيلماً".

تتميز أعماله السينمائية بكونها قليلة الحوارات، وفي فليمه الأخير تغيب تماماً باستثناء حوار بسيط مع فتاة، بينما الأصوات كأنها أصوات عالم آخر ”شبحي“ أصوات ”الهامش“، عن هذه الخيارات التقنية والفنية يقول الجعفري "قمت بتسجيل الأصوات بالليل، إيمانا مني أن الأماكن تتحرر في الليل من حاضرها. عندما تذهبين إلى مكان ما وتسجلين صوتاً دون تصوير فإنك تكتشفين شيئاً جديداً، تكتشفين المكان كما لو أنك شخص ضرير. سجلنا في الميناء، الذي لم يعد ميناء وكنا نمشي تجاه البحر وكان صوته منخفضاً ولكن عندما اقتربنا منه أصبح قوياً وبدا كأنه يلعب معنا. وهذه واحدة من الأشياء التي يمكن للشخص أن يتخيلها إذا كان يسجل دون كاميرا فقط بالصوت".
ويضيف " قمت وعلى مدار أسبوعين بالتسجيل ليلاً، داخل غرفتي دون أن أكون فيها. كنت أفتح التسجيل وأخرج ولا أنام فيها. كما استخدمنا مكروفونات خاصة، حيث أمكننا أن نسجل الصوت الذي في الخارج من الداخل. التقطنا وشوشات وأصوات غريبة. كنت متفاجئاً بالأصوات التي أسمعها، حيث لا نعرف بالضبط من أين تأتي، لأن الصوت، وببساطة، يسافر".


يافا والرملة
يتذكر دائما بداياته في القدس حيث عاش سنوات دراسته، حيث بدأت علاقته بالسينما، يستذكر "خلال دراستي ومعيشتي في القدس كنت أذهب إلى السينما لحضور الأفلام كنوع من الهروب من الواقع الموجود. وفي حينه كنت أدرس المسرح وكان هناك عمل للوركا أحببته ”عرس الدم“ وحوله كارلوس ساورا إلى فيلم. وأحببت هذا الفيلم ومنه بدأت أهتم بالسينما. ولكن في البداية كان ذهابي إلى السينما هروباً من المدينة ومن ثم بدأت أشعر أن هناك أموراً ومشاعر يمكن أن أعبر عنها من خلال الصورة".
"أردت الهروب من واقعنا، من حياتنا التي تعرفينها، حيث نحن متواجدون كفلسطينيي فلسطين المحتلة عام 1948 في مكان لا يعترف بنا. ولعل السينما هي المكان الوحيد الذي يمكن الهروب إليه ويمكن أن تكوني لوحدك به".

في فيلمه الأول ”سطح“ تناول قصة عائلته، صوّر الفيلم في الرملة لكن يافا تبقى الأساس بحيث تدور أفلامه اللاحقة في يافا فقط. فما الذي تعنيه كل من المدينتين بالنسبة إليه؟، يشير الجعفري "تربيت بالرملة ويافا. ولكن يافا كان لها طبع آخر بسبب وجود بيت جدي لأمي هناك، الأمر الذي سمح لنا بنوع من التواصل مع تاريخ غير موجود بالرملة، لأن جدي وجدتي لأبي توفيا وأنا صغير. يافا مدينة، على الرغم من كل الدمار الذي حل بها، استطاعت المحافظة على شيء مديني فيها كما أن لها حضوراً آخر كمكان.

أضف إلى ذلك أن موضوع يافا موضوع واسع وهناك الكثير من الجوانب التي يمكن طرحها سينمائياً وهو مشروع له علاقة بإعادة بناء المدينة سينمائياً. أريد أن أعيد بناء صورة المدينة، أريد أن أعيد بناء المدينة سينمائياً، وأعتقد أنه يمكنك القيام بذلك في السينما أكثر من أنواع الإبداع الأخرى. في الصورة يمكنك عمل شيء ملموس ومباشر وعالمي بحيث لا تحتاج إلى وسيط، ”مترجم“. للصورة السينمائية قوة مختلفة غير موجودة بالفنون الأخرى، على الرغم من أنها فن صعب حيث له علاقة بالمال وفريق عمل وآخرين أنت تحتاجهم من أجل تنفيذ ما تريد".

خرج من فلسطين قبل حوالي 15 عاماً، حيث انتقل لألمانيا ومن ثم الولايات المتحدة والآن يعيش في برلين، وطبعا بين كل هذا يذهب كثيراً إلى فلسطين ولكن مركز حياته/ دراسته/ عمله خارجها. فهو من هذه الناحية يعتبر أن ذلك شكل إنقاذا لحياته "الخروج من فلسطين ”أنقذني“، حيث كنت أشعر بالاختناق. أنت مربوط دائما بالإسرائيلي، بشكل أو بآخر، مهما حاولت الإفلات منه. وتبقى دائما ”العربي“ و”الآخر“. الخروج كان عبارة عن عملية تحرر من ”الوصاية الإسرائيلية“ وصاية المستعمر. وهذا ما يحدث لنا جميعاً، هؤلاء الفلسطينيون الذين يخرجون من فلسطين المحتلة عام 1948، للعيش خارج البلاد، فيمكنهم بهذا الحالة استكمال بناء هويتهم. يمكنني التحرر من الاحتلال الموجود على شخصيتي على الرغم من أن ألمانيا ليست مكاناً سهلاً".


موقع السينما الفلسطينية

يؤكد الجعفري أن السينما الفلسطينية ليست خطاً واحداً، يقول "يوجد أمران: الأول أن هناك كمية كبيرة من الناس تعمل في هذا المجال وهذا ممتاز. ولكن، هناك منحى تجاري تأخذه السينما الفلسطينية وهذا سيئ جداً. لأنه سهل. وتسويق موضوع فلسطين بالطريقة التي يريدها ”الغرب“ أو يريدها ”العالم العربي“، والمقصود الجهات المانحة. وقلة من الناس التي تحاول أن تحافظ على الروايات الفلسطينية دون الالتزام بعمليات التحريف المقترنة بالمال أو بالرغبة بالحصول على رضى جمهور عربي أو جمهور غربي. السينما تحتاج المال وهذه مشكلة، وهذه حالة مرضيّة على صعيد السينما الفلسطينية حالياً، حيث يمكنك الحصول على الكثير من المال لعمل تلك الأفلام ولكنها أفلام سيئة".

ومع ذلك فهو يحلم بن ينجز أكبر عدد من الأفلام في وفاء تام لتصوره للعمل الفني، يخلص "كنت أتمنى أن أنجز عدداً أكبر من الأفلام. الفيلم الأخير كلف فقط حوالي 70 ألف يورو، أغلبها صرف على مرحلة ما بعد الإنتاج. أغلبها من ألمانيا وبعض العرب في بيروت وعمان ومنح من مؤسسات مختلفة. ولكن لم يكن سهلاً الحصول عليها. لا يوجد مؤسسات تبني استمرارية. إن دعموك في فيلم ما لا يعني أنهم سيدعمونك في أفلام قادمة. عليك كل مرة أن تبدأ من الصفر، تقريباً. أنت في وضع يصعب فيه تنفيذ أفكارك، إذا كنت تريد بناء لغة خاصة بك. هو وضع عالمي صعب عامة ولنا بشكل خاص حيث لا دولة. صعب لنا نحن الذين نريد إنجاز أعمال فنية وخلق لغة سينمائية وتجريدية".


المساهمون