من ابن عربي إلى الرومي... جدل يتجدّد

من ابن عربي إلى الرومي... جدل يتجدّد

12 يوليو 2016
مدفن جلال الدين الرومي في قونيا(Getty)
+ الخط -
نفس الأمر حدث مع ابن عربي، فما إن تسلط الآلة الثقافية الغربية القوية الضوء على اسم من أسماء الثقافة العربية والإسلامية حتى تنبعث التحذيرات من هنا وهناك، متوجسة من مؤامرة وشيكة على التراث المركون في العتمة لا يخرجه من عوادي الإهمال إلا المحاولات الأجنبية، التي نفضت الغبار عن نصوص مؤسسة.
النقاش نفسه يلاك اليوم، خوفا من أن يساء إلى الشاعر والمتصوف جلال الدين الرومي الذي يعتزم الممثل العالمي دي كابريو تجسيد شخصية في فيلم عن حياته.
التفت المستشرقون في الغرب إلى أهمية محيي الدين ابن عربي في زمن الحروب والفجائع، ووجدوا أن دعوته إلى دين الحب، الجوهر المفقود في عالم اليوم، هو الدين الجديد الذي تحتاجه البشرية، بدل كل الويلات، وفي «الفتوحات المكية» و«فصوص الحكم»، و«الكتاب الكبير» وفي ديوانه البديع «ترجمان الأشواق».
لم يتعب هذا الرجل الحكيم من الجهر بحكمته في وجه فقهاء الظلام وفي وجه المكبوتين سياسياً وفي وجه المتأولة الذين سلكوا أقرب الدروب لإخراسه بإعلان «تكفيره».. وهكذا انتهى فكر ابن عربي أو ابن العربي مهجورا منبوذا، وأصبح من يتبع طريقته مشكوكا في سلامة ملته، وخرج الرجل هائما على وجهه من بلاد المغرب الأقصى إلى بلاد الشام، وخاض أولى تجاربه «القلبية» وهي تجربة السياحة الروحية والجسدية في العالم وقراءة الكتاب الكوني الكبير في الليل والنهار وفي المشارق والمغارب، ليموت غريبا عن موطنه، غريبا في قبره الدمشقي.. أو ما قيل إنه قبره.

نسي ابن عربي من الذاكرة الثقافية العربية إلى أن جاء المستشرقون أو المستعربون، وأعادوا تقديمه إلينا شارحين مفسرين ومترجمين في أعمال مبهرة لعل أهمها أعمال المستعرب هنري كوربان ودراسات المستعربين الكبار من أمثاله.
وحين تتوجه الآلة الثقافية الغربية إلى رمز جديد في الثقافة العربية الإسلامية، فإن ذلك ليس من قبيل الاهتمام الشكلي، بل هو بحث عميق عن إجابات مفقودة في عالم اليوم، يجهز على كل ما هو إنساني وبشري.
ما هو الإنسان في النص الصوفي؟ وكيف يمكن الوصول إلى هذه المرتبة؟ لا شك أن النزعة الإنسانية هي نزعة مقيمة في الفكر الصوفي، وعند مولانا جلال الدين الرومي تتخذ ظلالا
وتفريعات، لكنها تجتمع في صورة واحدة، وهي الإنسان الرمز، الذي يشير إلى صورة الأسد، لا الإنسان الذيل، التابع الذي لا صورة له يرسو عليها ولا ماء تطفو فيه.
يسوق مولانا جلال الدين الرومي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ذهب الناس وبقي النسناس" و"الناس كإبل لا تجد منها راحلة". فأغلب من تراهم ليسوا كالبشر، أغلبهم ثيران وحمر بلا ذيول، لقد سلبت المعرفة من البشر، فلم يعد هناك بشر موجودون.
ويرى مولانا جلال الدين الرومي أن البحث عن الإنسان هو جوهر المجاهدة الصوفية وهو أساس المعرفة التي يسعى خلفها كل مهجوس بالوصول إلى ذرى الكمال. "لقد كان الشيخ يطوف بالأمس بمصباحه في المدينة قائلا أبحث عن إنسان، أبحث عن إنسان كأسد الله، وكرستم بن دستان، فقد ضاق صدري من هؤلاء الرفاق المخنثين، الذين يتشدقون بالرجولة وما هم بالرجال".
وهو يعلق في مكان آخر على ذلك بالقول "مادام الفم لا يستطيع أن ينفخ في الناي جيدا، فانفخي أيتها المؤخرة"، وحتى لو اعتبرت هذه الأمثولة هبوطاً في الأداء التعبيري لمولانا، فإنه يبررها بالقول "إن بيت شعري ليس بيتا، إنه إقليم، كما أن هزلي ليس هولا، إنه تعليم".
والنتيجة، أن يكون الإنسان قادرا على أن يكون قائما بذاته، حتى لا يكون مثل القشة/ مدفوعا بكل ريح، لا يقر له قرار. وهو في ذلك يسعى أن يكون جوهرا، والجوهر ثابت، ولا يكون وجوده معتمدا على وجود العرض، إن زال زال.
والمغزى من كل ذلك، أنك إن اعتمدت على سلطان فسلطانك هالك، أو على جاه، فجاهك إلى نهاية، أو على مال، فمالك إلى نفاد، وكل شيء هالك، إلا وجه الله تعالى.
في مقام آخر، يكتب مولانا جلال الدين الرومي، متحدثا عما يضاد الإنسان، وهو الوحش، أو "اللا إنسان"، والذي يقف في الجهة الأخرى، أو الغابة الليلية متربصا للهجوم على "الإنسان" والفتك به. يقول "فلأفسر أنا، لماذا يكون الليل أسود القلب، كل من يشرب دماء الخلق، يصبح قبيحا أسود القلب. وما دام هذا الليل يفتت أكباد العاشقين ظلما، فإن دخان الظلم الأسود، يرين على قلب الليل. وأنت عاقلة الليل، فخلصه ثانية من الظلم، وفي منتصف الليل، قم بقطع الطريق على الفلك من مرصدك، حتى ينجو الليل من الظلم، وننجو نحن من الظلام، يا من بدونك تكون الدنيا الواسعة كالقبر واللحد".
تتخذ النزعة الإنسانية شكل الإيمان، ويسعى الصوفي في لحظة الامتلاء الإنساني أو بالأحرى الحاجة إلى الامتلاء الإنساني، إلى ترجمة هذه الحاجة في شكل وجد وحنين إلى الكمال، يقول مولانا "وسهم حزنك منطلق، ونحن هدف السماء، والروح الخالية من الحزن تعدو هي الأخرى، ذاك أن الغم يجذبها. وروحي وإن كانت صافية، فهي ثمالة لطفك، فليكن لطفك ثابتا على رأس الروح إلى الأبد. وقافلة عصمتك صارت تخفرنا، وإن كان قطاع الطرق أكثر من رمل الطريق في العدد".
والإنسان، وهو يسعى نحو الكمال، لا يجد في هذا المسعى، الأرض مفروشة بالورد، ولا "البساط أحمدي"، ولكن لا بد من العوائق، ولا بد من "قطاع الطرق" الذين يفوقون عدد حبات الرمل، وهم كامنون يتربصون، بكل عابر نحو سدرة الكمال، أو نحو مقام التحقق كإنسان، وحتى إن كان معصوما، فهو يحتاج إلى "برهان ربه" دائما، حتى ينجو من عصابة قطاع الطرق المتربصة.
لا يتعلق الأمر هنا بـ "الشيطان" أو الشياطين، بل ما يمكن أن نسميه بلغة حديثة بـ "مشاريع مناقضة للمشروع الإنساني"، مشاريع هدامة، يحركها محور الشر ويغذيها، وهو محور له رهط كثير وحلف عظيم بعدد حبات الرمل.
ولكن، وكما يعتقد مولانا جلال الدين الرومي، لا بد للإنسانية أن تصل إلى بر الأمان، ولا بد للصوفي وهو يجاهد، من خلال رياضة روحية عالية، أن يصل إلى تحقيق إنسانيته، هنا في الزمان والمكان.
وربما هذه الإنسانية التي تصورها الرومي في زمانه، ما هي إلا ما نتحدث عنه اليوم من عدالة اجتماعية وحقوق ومساواة، قالها وعبر عنها بلغة "الفوت"، والعرفان الصوفي.



المساهمون