عبدالله العروي.. المثقف حين يجهر بالحقائق

عبدالله العروي.. المثقف حين يجهر بالحقائق

24 مارس 2015
+ الخط -
يصحّ  القول في حالة كتاب عبد الله العروي الأخير "خواطر الصباح: المغرب المستحب أو مغرب الأماني"، إنه الكتاب المناسب في الوقت المناسب، وهو من هذه الناحية يُعدّ المؤلَّف سعيد الحظ، الذي لم تعد تقرأه النخب وطلبة الجامعات، بل الجمهور الواسع. ولا شك أيضاً أن بسام كردي صاحب المركز الثقافي العربي، الجهة الناشرة، يفرك يديه، بسبب المبيعات القياسية التي حقّقها الكتاب الأخير "خواطر الصباح: المغرب المستحب أو مغرب الأماني" للمفكر المغربي عبدالله العروي، مبيعات قياسية ولا يزال، في السوق المغربية في ظلّ انحدار كبير لمؤشرات مستويات القراءة. إنها "بيضة الحظّ" التي عثر عليها الناشر بسّام كردي، بعد أن عاد العروي إلى نشر أوراقه ومفكراته وتعليقاته على الأحداث السياسية والاجتماعية الجارية التي يعرفها المغرب والعالم العربي، وما يرتبط بذلك من ظواهر كبرى مثل؛ الإسلام السياسي والإرهاب وكواليس السياسات الدولية وعلاقة العرب بالغرب، ومشكلات اللغة والهوية والتقدّم والتأخر، ومظاهر الاستقطاب الرسمي للنخب وتبعية المثقفين العرب للأنظمة وفساد المجتمع السياسي. 
هذه الموضوعات غير التقليدية، والبعيدة من البناءات النظرية المستغلقة، والقريبة من لغة الصحافة، عرف العروي جيدًا أنها جالبة لاهتمام الناس، زيادةً على نميمة المجالس والصالونات الكبرى، لذلك مضى صاحب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" و"مفهوم الدولة" إلى النبش في تفاصيل ما لا يقال، أو على الأقلّ ما كان يظلّ في الماضي محط سرّ وكتمان.
فقد كانت النخب العربية والمغربية على حدّ سواء، تكتب وتعيش وتحكم وتموت من دون أن يذاع لها سرّ، في حين تبقى أوراقها الخاصة، التي تعبّر عن حقيقة رؤيتها للتدبير اليومي، وللشأن العام في بلدانها في جارورٍ منسي أو بين أضلع صدر مسدود يبيده القبر.

الخروج من دائرة الصمت

ضدّ هذه القيمة السيئة السائدة في العالم العربي، ينبري العروي ليؤكّد أن الأوان آن للخروج من جبّة الصمت، فهذه النخب الصامتة التي تحكم وترحل تحرم الأجيال الشابة والأجيال التي تلي من معرفة الحقيقة. والحرمان من الحقيقة ستكون آثاره واضحة على المستقبل، وعلى حياة هؤلاء الشباب، الذين ولا شكّ سيعيدون ارتكاب الأخطاء نفسها التي اقترفها الآباء في ظلّ غياب مدوّنة صريحة تؤسّس لتدبير مختلف السلطات، بما فيها السلطة الفكرية، وهو في هذا الصدد يقول: "ما سطر سطر، لكي نحكم عليه حكما عادلًا لا بدّ من استحضار الجوّ السائد عند تسطيره، قبل الاعتداءات التي جعلت أميركا تجهل فوق الجاهلين. منذ ذلك الحادث، وكلّ منا يخشى جهل أميركا، نطأطئ الرأس، نلزم الصمت، راجين أن تمرّ العاصفة ويصفو الجو. هل يحدث ذلك؟ كثيرٌ من الناس شرقًا وغربًا، لهم مصلحة في إطالة الأزمة".

هذه نقطة التحوّل الكبرى التي يعدّها العروي مسارًا آخر غير دفّة التاريخ المعاصر، إذ إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر /أيلول لم تكن حدثًا عاديًا، بل واقعة مروّعة وانهيارًا لرمز وقيام رمز آخر مكانه. وسيكون لهذه الحادثة ما بعدها، فقد جاءت الهجمات في توقيت حسّاس جدًا تميّز بهيمنة أميركية مطلقة على العالم، ماديًا وثقافيًا، وكان للعرب نصيبٌ مؤلمٌ من هذه الهيمنة.
فهذا الحدث فاصلة بين مرحلتين، لكن أطرافاً كثيرة، كما يشير إلى ذلك العروي، حوّلت مأساة نيويورك إلى استثمار ما زال يدرّ على أميركا الكثير من المصالح.
مهمّة المفكر والمؤرخ حسب العروي، هي قول الحقيقة، حتى وإن كانت هذه الحقيقة مزعجة للآخرين، أو تسبب أضرارًا لقائلها، يقول العروي "لست نادمًا على شيء مما كتبت، إذ غالبًا ما كتبته ضدّا على نفسي، لأعبّر عما أعتبره حقيقة التاريخ، لكن الوضع الحالي يلقي بظلاله على الماضي، بما فيه من جورٍ وعنفٍ ومن تطلّعات كذلك، يضفي على كلّ هذا قسطًا من النسبية".
يخلص العروي في هذا الصدد، إلى ضرورة التحلي بالواقعية ونبذ الأحلام في هذا المأزق التاريخي الذي يمرّ فيه العرب: "كنا دائماً ضحية أحلامنا وواقعية خصومنا. المطلوب منا اليوم أن نكون أكثر واقعية من الجميع، من هنا وجومنا وتعاستنا".

المفكر واليومي

يقدّم العروي في مذكراته نقدًا قاسيًا للطبقة السياسية في المغرب، ولا يتورع عن وصفها بشتّى الأوصاف، وأهمها كونها منافقة وتابعة واستسلامية.
يرصد بكثير من الدلالات لحظة انتقال السلطة في المغرب، صيف 1999 بعد رحيل الملك الحسن الثاني، إلى ولي عهده الملك محمّد السادس، ويقف عند دلالة لحظة البيعة، ويقارن هذه اللحظة المكثّفة في تاريخ المغرب المعاصر، بلحظة أخرى شبيهة، عندما بُويع أبو الاستقلال الملك محمّد الخامس في قصره "لا سل سان كلو" La Celle Saint-Cloud في فرنسا في نوفمبر 1955، من طرف القادة والباشوات الذين كانوا يشتغلون مع الاستعمار. كان وقتها رجال المقاومة داخل القصر أيضًا، وكانت تلك اللحظة في غاية التأثير، لأنه سيترتب عنها ما بعدها، حيث سيحدث الشرخ المدوّي في صفوف رجال المقاومة، بعد أن رفض جزءٌ منهم المصالحة مع "الخونة" والحكم معهم في الدولة الجديدة/ دولة الاستقلال، مما أدّى إلى أحداث دموية، وإلى تصفية الجناح الراديكالي في جيش التحرير الوطني بعد ذلك، والذي رفض وضع السلاح، معتبرًا أن الاستعمار لم يخرج بعد من البلاد، ما دام خدّامه موجودين في دواليب السلطة.
عن تلك اللحظة، يكتب العروي مستشفًا حكم التاريخ، يقول "لا أحد يود المسؤولية، كلّ مبتغاه هو تجديد التفويض، رؤساء الهيئات هم قيّاد اليوم، المبايعة مقايضة: تضمن، أضمن".
وبالتالي، فهذا هو حال النسق السياسي العربي بشكلّ عام، حسب المؤرخ العروي، كلّ التفاف حول رأس السلطة هو نوع من المقايضة، قِوامها توفير الضمانات من الجانبين؛ الحاكم والمحكوم، الرئيس والرعية، الملك والحاشية.
وكلّما بدا أن ماسك السلطة في البلاد العربية أكثر تفهمًا وإنصاتًا لمؤيديه ومعارضيه، فإن ذلك ليس في الحقيقة إلا مجرد فصل صغير "ديمقراطي" سرعان ما سينتهي، إذ سيعود الحاكم أو الرئيس أو الملك إلى لعب دوره الأصلي، الذي يصفه العروي كالآتي: "قد يفهم وأنت تتكلم، قد يوافق على ما لا يمكن إنكاره، ثم ما إن تتوقف عن الكلام حتى يسترجع "الدور" الذي هو إرثه، حظه، مكتوبه".

المثقّف والسلطة

ثنائية المثقف والسلطة، هي الثنائية التراجيدية التي ميّزت علاقة المثقفين بأصحاب القرار السياسي، وحوّلتهم على مدار عقود من حوافز لبناء الدولة إلى طبول فارغة، يجري استعمالها بسرعة، ثم التخلّي عنها بالسرعة نفسها.
هل كان العروي واعيًا بهذا المصير المأساوي، فعمد بكلّ جهد إلى الابتعاد عن مراكز القرار والدوائر العليا؟ وهل أفلح في ذلك؟
في مذكّراته الجديدة، يكشف بكلّ وضوح عن تفاصيل هذا الموضوع، خصوصًا أنه تولّى مناصب عليا أو كان قريبًا منها، كما أنه دخل إلى باب المشاركة السياسية، عندما ترشّح للانتخابات النيابية باسم الاتحاد الاشتراكي. وهو في هذه المذكرات، لا يخفي نزعته "الاتحادية" بل يكشف عنها. لكن تلك التجربة السياسية سيخرج منها، وهو رفيق المهدي بن بركة، بدرسٍ قاسٍ جدًا، بعد أن هُزم في دائرته الانتخابية في الدار البيضاء، لأن "الناخبين" اختاروا التصويت لممثّل الأعيان وليس لرجل الفكر.
يقول العروي "هل تركت الانطباع أني كنت أتطلّع إلى مناصب عليا؟ إن فعلت، فرغمًا عني، أمرٌ مؤسف حقًا. بالعكس، كنتُ سعيدًا جدًا بأن لا أُستخدم لا من هذا الطرف ولا من ذاك".
ويشرح الأمر على النحو الآتي "لكي أكون قابلًا للتوظيف، كان علي أن أتبع نهجًا معروفًا. عُرض علي أن أفعل ذلك بطرق مختلفة. نصيحة لم أكن مستعدًا، ذهنيًا وشعوريًا، للأخذ بها. لا شكّ في أن بعض المؤهلات كانت تنقصني في هذا الباب".
وحتّى يقدّم الدليل على صحّة ما يقول، يسوق واقعة، عندما يذكر حال شخصية كبيرة كانت مقرّبة من السلطات العليا، لكن هذه الشخصية التي جسّدت النموذج الكامل للانصياع، سيُرمى بها إلى الهامش السحيق، حينما جرى استعمالها، وبعد أن تكشّفت بعض صفاتها السيئة مثل؛ الجشع والرغبة في الإثراء والتلهف والمنافسة في غير محلها.
كان من الممكن التغطية على الأخطاء التي ارتكبتها الشخصية الخدومة تلك، لكن سلطة القرار أبعدتها إلى المنفى الاجتماعي والسياسي، لماذا؟، يفسّر العروي ذلك بالقول "ظنّ ساذجًا، أن ما يُغفر لغيره، يُغفر له، لم يدرك أن في مثل هذه الوقائع، يُغفر لا للفرد بل للجماعة التي ينتمي إليها، تؤويه وتحميه".
هذه هي الخلاصة التي ينتهي إليها العروي، فالفرد في العالم العربي لا يمتلك قوّته ووزنه انطلاقًا من ذاته، بل من الجماعة التي ينتمي إليها، وهي التي تمنح له الحماية وتقيه من ضربات صاحب السلطان. والقبيلة أو الجماعة، الدينية أو السياسية أو بالانتساب الدموي، هي السلطة الموازية لمن يملك المشروعية السياسية أو يحوزها أو يغتصبها، وطبقًا لذلك، حين يجري التعامل مع الأفراد من قبل مالك السلطات، يكون ذلك مسنودًا إلى انتماءاتهم تلك، وهي إمّا أن تكون مصدر قوّة وحماية أو مصدر ضعف.
وربما، لهذا السبب، تحاشى العروي أن تكون له تطلّعات عالية السقف، إذ إن كونه مفكّرًا ومبرزًا في تخصّصه وأستاذًا جامعيًا معروفًا لا يمنحه الحصانة، ولو أن جماعته السياسية التي انتمى إليها "الاتحاد الاشتراكي"، أو بمعنى واسع "التيار الديمقراطي" في البلاد، هو الذي منعه، ومنحه ذلك الثقل، باعتباره صاحب مشروع حداثي وتنويري.

الغرب لا يريد إسلامًا متحررًا


يكشف العروي عن كون الغرب عمومًا لا يميل إلى الإسلام المتحرّر، إن هذا الإسلام المعتدل يزعج الغرب، وبالتالي فإن الإنجليز والأميركيين سعوا بكلّ جهدهم إلى الانتصار للإسلام التقليدي. لماذا يا ترى يفعل الغرب ذلك؟ يجيب العروي من دون تردد: "هوى الغرب ليس مع إسلام متحرّر. حارب بكلّ قواه الحركة العروبية والعلمانية، باستثناء فرنسا التي كانت تساندها بالخفاء، رغم سماتها الدكتاتورية. أدركت أن تلك الحركة وحدها قادرة على صدّ التيار الإسلامي. أما الإنجليز والأميركان بعدهم، فإنهم لا يفهمون إلا الإسلام التقليدي، يوافق وحده مصالحهم وذهنيتهم وذوقهم".

دلالات

المساهمون