ربعي المدهون: أنا أنتمي إلى ما أكتبه

ربعي المدهون: أنا أنتمي إلى ما أكتبه

29 فبراير 2016
الروائي الفلسطيني ربعي المدهون
+ الخط -

يعيد "ملحق الثقافة" نشر الحوار الذي أجراه مع الروائي الفلسطيني ربعي المدهون الفائز بجائزة البوكر للرواية العربية 2016 عن روايته "مصائر: كونشرتو النكبة والهولوكوست" التي شغلت جزءًا وافيًا من الحوار الذي أجراه "العربي الجديد" معه.

بدأ الفلسطيني ربعي المدهون مشواره الأدبي، من القصة، ثم توقف لفترة طويلة، قبل أن يعود بروايتين، عرفتا شهرةً في العالم العربي، خاصة روايته الأخيرة "مصائر؛ كونشرتو النكبة والهولوكوست". والظنّ أن تميّز نتاج ربعي، جاء من قسوة سردية في ملامسة الواقع الفلسطيني. هنا لا خير ولا شر، هنا الضحية.

* لعل القارئ لا يعرف شيئًا عن ميولك الموسيقية وعن عزفك على القيثارة. ما العلاقة بين الموسيقى والكتابة، خاصة أنك استخدمت مصطلحًا تقنيًا موسيقيًا في عنوان روايتك الأخيرة "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة"؟

الكتابة بالنسبة لي شكل من أشكال الموسيقى. السرد الممتع يخلق موسيقى تتسرّب إلى مشاعرنا، وينقل أفكاره إلينا بسهولة ومتعة. الموسيقى تنطلق، أحيانًا، من النص؛ من فكرة، من حكاية، من أسطورة، وتذهب بها إلى التجريد. يختفي النص في الموسيقى التي تخاطب حاسة السمع، لا ترجمة الكلام، وتتسلل إلى الأحاسيس والمشاعر لا إلى مواطن الفهم والاستيعاب. وقد تمزج الموسيقى بين الإثنين، وتقدّم حكاية مغنّاة؛ فن الأوبريت والأوبرا، أو كلامًا يتموسق في حركات تعبيرية راقصة؛ الباليه.

في الستينيات من القرن المنصرم، تعلّمت العزف على آلة الماندولين الصغيرة، وتسبب ذلك في رسوبي في كلية الزراعة بجامعة عين شمس عامين متتاليين. إلا أنني ملتُ لاحقًا إلى القيثارة، وتعلّمت العزف الكلاسيكي. لكني بانشغالاتي المختلفة، بين الكتابة الصحافية والعمل والتنقل بين بلدان مختلفة، والعائلة، لم أكن جديًا لأحترف العزف. بقيت هاويًا، أتسلى من حين لآخر. وللأمانة، لستُ عازفًا جيدًا. باختصار، هذا المنحى في حياتي شكّل لديّ خلفية معرفية بعالم الموسيقى. وحين شرعت في كتابة "مصائر"، وجدت أن استعارة قالب موسيقي يحمل النص قد يكون ممكنًا، وفكرة لافتة ومثيرة وغريبة أيضًا. تأسّس هذا التوليف على اعتبار أن الشخصيات تؤدّي دور الآلات، بينما الأماكن والعناصر الأخرى المكوّنة للمشهد، تقوم بدور الأوركسترا. أيبدو الأمر كذلك في "مصائر"؟ لا أدري. إنها محاولة أعجبتني.

* نعم تبدو كذلك، لكن رواياتك تتميّز أيضًا بلغتها الخاصة، هي "الرواية المثقفة". أنت تشتغل عليها معرفيًا؟

بالتأكيد. الرواية الحديثة في جانب كبير منها بحث، وروايتي كذلك. أميّز بين نمطين من الرواية: واحدة يمكن أن تكون ناجحة وجميلة، ولكنها أقرب إلى عزف الآلة الموسيقية للحن "سولو" منفرد. والثانية هي التوليف الهارموني، حيث تتشارك نغمات مختلفة في تقديم لحن واحد، أو تفعل ذلك آلات مختلفة. دعني أفصّل أكثر؛ أنا أشتغل على مشهد ثلاثي الأبعاد (3D)، إن جاز التعبير، وأستخدم التوليف الهارموني للنص بمعناه الموسيقي. بمعنى آخر، أقدم للقارئ مشهدًا ترى فيه الحركة من كل جوانبها، والشخصية من داخلها وكل ما يحيط بها من مؤثرات، كأن تُسمع الأصوات القريبة والبعيدة، وتُشم الروائح، وتُستشعر النسمات. لهذا يشعر القارئ بنص "مليان"، وبالمعنى النقدي، غني "بيعبي الراس". بينما تشعر بفراغ النص المعزوف منفردًا. يحتاج هذا إلى دراية وخبرات، وإلى بحث مطوّل ومعمّق. يحتاج الكاتب الذي يكتب عن حرب، إلى دراسة الأسلحة وأنواعها، والرتب العسكرية، وأزياء الجنود وما إلى ذلك. احتجت أنا في "مصائر"، إلى قراءة الكثير عن وضع عكا سنة 1948، وتفاصيل جغرافية المدينة، وكذلك القدس والمدن الأخرى، ومشاهدة فيديوهات، وخرائط للشوارع، وحتى الاستعانة بدراسات حول اللهجات الفلسطينية المختلفة في المدن التي تطرقت إليها. ثم توليف المعلومات ونسجها في سياق السرد بصبر امرأة تطرّز ثوبًا فلاحيًا بخيوط الحرير. هكذا يتحقق للسرد غناه، ويقدم للقارئ معلومات تاريخية وجغرافية وسياسية وعلمية وسياحية وغيرها، بحيث لا تبدو قادمة من خارج السرد، أو زائدة عن حاجته.

اقرأ أيضًا: حنان الشيخ، الأدب ليس للترفيه والتسلية

* انطلاقتك الأدبية الحقيقية كانت من بغداد. بماذا أثّرت فيك الثقافة العراقية؟

سأقدم إجابة غير مألوفة. في سيرتي الروائية "طعم الفراق"، أنقل هذا المقطع الذي يقدّم لتجربتي في بغداد: "وتكون بغداد مثلما تكون. تاريخًا وحضارة منثورة بين نهرين.. وجثثًا وانقلابات. وسجونًا بـ"نهايات" وبلا نهايات.. لا يرتاح حاكم فيها ولا محكوم. وبغداد محجّبة بالخمار الأسود. سافرة فاجرة بكل أنواع الأدب.. تسقي الفرات شعرًا ونثرًا.. تذهبون إلى البصرة، وتعبرون الشط وتعودون. اسألوا المدينة كم أنجبت منذ السياب، منذ ما قبل السياب، منذ ما بعده؟ مثل سمك النهر لا يعد. شعراؤها لا يعدون".

في هذا المناخ الذي يرسمه المقطع، عشت بين عامي 1971 و1973 في بغداد. في ذلك الوقت، كان في البصرة وحدها خمسة وعشرون قاصًا. عرفت أسماء كثيرة، وكان بعضها صديقًا: جمعة اللامي، أحمد خلف، سعدي يوسف، حسين مردان، غازي العبادي، خضير عبد الأمير، لطيفة الدليمي، فاضل العزاوي، مجيد الربيعي، وغيرهم. وإذ ذاك، انهمكت في قراءة نتاجهم، الذي ترك بصمات واضحة من حيث الشكل. كان ما يكتبونه ثورة في الشكل الفني بالنسبة لشاب لم ينشر سوى قصة واحدة، حين دخل المدينة. بغداد أخذتني إلى عالمها، وخرجت منها قاصًا معترفًا به بعد أن نشرت في أغلب مجلاتها الأدبية.

* لكننا نعلم أنك انقطعت عن الكتابة، وعدت بـ"طعم الفراق". ما الذي حرّضك على العودة؟

"طعم الفراق" سيرة روائية، اختزنت تجارب خمسين عامًا، تقص حكاية ثلاثة أجيال من الفلسطينيين منذ ما قبل النكبة وحتى أواخر سبعينيات القرن الماضي. لا أبالغ إن قلت إنها ليست سيرتي الشخصية بقدر ما هي سيرة الفلسطينيين كلهم، رغم أنها لم تلق الرواج الذي تستحقه. ذات بعد ظهيرة استثنائية، انثالت عليّ ذاكرتي وفاجأتني كأنني لم أعرفها ولم أعش وقائع حياتي. اندلقت أمامي دفعة واحدة: طفل حفظ من النكبة مشهد طائرة حربية تقصف الحارة في المجدل عسقلان. الصبي ابن مخيم خان يونس في قطاع غزة، الذي عاش حياة الفقر والعري والحاجة والذل. فقدان الأب في سن مبكّرة بعد مرض بالسل، أصابه لتسع سنوات. معايشة مذبحة خان يونس 1956 بأهوالها وبشاعتها. ثم حرب 1967. ثم الاعتقال في الإسكندرية والترحيل في نهاية الدراسة الجامعية عام 1970. ثم التحوّل إلى مقاتل مليشيا في حرب أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، ثم التشرد في شوارع دمشق، والجوع في بغداد. ثم التجربة الحزبية وخيباتها. وفقدان جواز السفر طيلة السنوات الخمسين، والتنقل بهويات وجوازات مزورة. والعيش في بيروت "عاصمة جمهورية الفاكهاني الفلسطينية" وتجربتها، إلى الانتقال إلى قبرص، ومنها لاجئًا مرة أخرى إلى بريطانيا. في بعد الظهيرة ذاك، أدركت أن حياتي تلخّص كلّ ما مر به الفلسطينيون. ولم يكن ينقصها سوى اختيار السرد وتقنية الكتابة. هكذا عدت بالضبط. والآن سأعمل على إنجاز طبعة ثالثة من هذا الكتاب الذي كان المفتاح الذهبي لعودتي.

اقرأ أيضًا: سعاد العامري، "رواق" الأولوية لترميم القرية الفلسطينية

* يقال إن المفتاح الذهبي هو رواية "السّيّدةُ من تل أبيب". فنجاحها هو ما دفعك إلى الاستمرار في كتابة الرواية، فها نحن نرى روايتك "مصائر" على أبواب جائزة البوكر مرة أخرى؟

نجاح "السيدة من تل أبيب"، أحدث انعطافة في مسار علاقتي بالصحافة وبالأدب. إذ لم أكن أتصور أن النقاد والقراء والأقارب والأصدقاء، سيتعاملون معي كروائي راسخ القدمين في عالم المتخيّل. كنت أشعر بالحرج، وأقول أحيانًا: يا جماعة أنا كتبت رواية واحدة، (فِش غيرها). ويأتيني الرد: لا. هناك "طعم الفراق" أيضًا، وهي رواية سيرة. وهكذا طرح عليّ النجاح تحديًا كبيرًا. وكان عليّ أن أجعل اللقب حقيقيًا بالفعل. وهذا لن يتحقق إلا برواية ثانية. وكتابة رواية ثانية سيواجه احتمالين: إما الفشل في تجاوز ما حققته "السيدة من تل أبيب"، أو تجاوزها وتقديم عمل يحمل جديدًا فعلًا. أخذت بالتحدي. وأعتقد أنني كسبت الرهان. الآن لا أشعر بالحرج من الإشارة إليّ كروائي، بل أفتخر كثيرًا، وسأتابع.

* لكن الأمر لم يتعلّق بالقراء والنجاح الجاهيري فحسب، إنما أيضًا يتعلّق بالنقاد، فقد قال بعضهم إنها شكّلت منعطفًا في الأدب الروائي العربي عامة والفلسطيني خاصة؟

هذا تقدير عال جدًا. أسعدني كثيرًا. وكان تذكرة درجة أولى لدخول "نادي الروائيين". ويعود هذا بتقديري إلى "متعة السرد" التي تحققت في الرواية. متعة السرد التي كان الروائي الياس خوري أول من أشار إليها. فـ"السيدة من تل أبيب"، بعيدًا عن ما تعالجه من قضايا وما تحمله من أفكار، يجب أن تحقق هذه المتعة أولًا. بل إن أي رواية لا تحقق متعة السرد، تعدّ فاشلة. وقد كانت بنية السرد في "السيدة من تل أبيب" ولغتها مختلفتين، لهما نكهة خاصة أدركها كل من قرأها. ويعود ثانيًا، إلى تجاوز الرواية "الخطاب السائد" تجاه الإسرائيلي، وإلى التغيير المفاجئ الذي طرحته على شكل الرواية أيضًا، وتقنياتها. وأخيرًا إلى جرأة الطرح في تقديم خطاب روائي جديد.

اقرأ أيضًا: ليديا ديفيس، نحتاج إلى ترجمة الكتاب العربي

* نعم صحيح، فقد تجاوزت الرواية "الخطاب السائد" تجاه الإسرائيلي. أنت تستخدم اللغة العبرية، وتجسّد الواقع الفلسطيني كما هو. في حين يرى بعضهم أن استخدامك للعبرية لم يكن موفقًا.

أن يقال إنه لم يكن موفقًا، فهذا حكم نقدي يمكن قبوله كوجهة نظر. لقد استخدمت العبرية والإنجليزية والإيطالية والروسية، لحاجات درامية بحتة، ضرورية ولإضافة بعد حقيقي للمشاهد ونكهة واقعية. في الطائرة التي أقلّت وليد إلى مطار بن غوريون في اللد، على سبيل المثال، ثمة طفلة إسرائيلية تصرخ بالعبرية، تريد أن تجلس في المقعد المجاور للنافذة. تحاول والدتها عبثًا إقناعها بأن هذا غير مسموح به، لأن مقعد النافذة ليس مقعدها. أمام أي روائي أكثر من خيار: أن يجعل طفلة إسرائيلية تتحدث بعربية فصحى مثلًا، ويقدم مشهدًا كاريكاتيريًا ساذجًا ومثيرًا للسخرية، أو لغة عربية مخفّفة لا تخلو من غرابة، كأن تكون قريبة من اللهجة الفلسطينية مثلًا، فتترك انطباعًا بأن الطفلة ليست إسرائيلية على الأقل. الصدق يتطلّب أن نسمع الطفلة بصوتها ولغتها من دون حساسية أو تعقيد. أنا اخترت الصدق الذي يحقق للمشهد مناخات واقعية. وكذا فعلت أينما احتاج المشهد، لكي أعطيه نكهة خاصة، ومعها يتخلّق تنويعٌ في النص، ونسيج سردي مختلف، له هذه النكهة التي تذوّقها آلاف قراء "السيدة من تل أبيب". الغريب أنني لم أشهد احتجاجًا على استخدام العبرية إلا من بعض النقاد والباحثين عن مثالب، بينما نادرًا ما أشار قارئ إلى ذلك.

* لكن بعضهم يجد في طريقتك، بـ"تجاوز الخطاب السائد تجاه الإسرائيلي"، شيئًا من أنسنة العدو، الذي يعدّه بعضهم رضوخًا للحالة الاحتلالية.

يا سلام. هكذا، "رضوخًا للحالة الاحتلالية"، باعتباري أوقّع معاهدات واتفاقيات رسمية مع الاحتلال! هذه النغمة - والكلام لدعاتها - لا تخيفني ولا ترهبني أبدًا. النقاد، أو من يطرحون أنفسهم كذلك، أو الذين يوجّهون مثل هذه الاتهامات الكبيرة والخطيرة والمعيبة أصلًا، لديهم مواقف إيديولوجية مسبّقة، وعنتريات قومجية. وهؤلاء أكثر القراء جهلًا بالرواية.

لا أعتقد أن أحدًا يجادل في كون الإسرائيلي كبشر إنسان. ولا حتى في أن هتلر كان إنسانًا. لكن الأخير فقد إنسانيته عندما تحوّل إلى ديكتاتور بعد انتخابه، وبعد استخدامه كل إمكانات بلده في غزو الشعوب الأخرى، وتسبّب في اندلاع حرب عالمية حصدت عشرين مليون إنسان. الإسرائيليون بدورهم، فقدوا، ويفقدون إنسانيتهم كل لحظة مارسوا فيها احتلالهم للأرض الفلسطينية، وميّزوا بين مواطنيهم اليهود ومواطنيهم من الأقليات الاخرى، وبالتحديد الفلسطينيين العرب. ما فعلتُه في "السيدة من تل أبيب" وفي "مصائر" وسأفعله مستقبلًا، كان "أنسنة تقنية"، تستند إلى رفضي إقحام الإيديولوجيا والمواقف والأفكار المسبّقة على النص الدرامي. والتركيز على ضرورة تخليق موقف من العدو عبر مسار درامي فني، لا بتلاوة منشور سياسي أُعدّ مسبّقًا. مهمتي كانت تقديم نماذج فلسطينية وأخرى إسرائيلية أو يهودية، على قاعدة أن الكل إنسان. وطرح اختبار عملي من خلال المسار الدرامي: كيف ستتصرف كل من هذه الشخصيات؟

من قرأ "السيدة من تل أبيب"، لن يشعر أبدًا أن الإسرائيلي أو اليهودي مؤنسن، ولن يسألني عن شيء لم يشعر به أصلًا. فهو شاهد الإسرائيلي في أقسى درجات حقده على الفلسطيني وقمعه له، وخصوصًا عند معبر بيت حانون/ إيريز، شمال غزة. لقد بدا الجندي عاريًا تمامًا من إنسانيته. باختصار، كنت أطمح حين تُقرأ هذه الرواية من قبل أوروبيين، أن أبدأ من منطلق إنساني، وبلا موقف مسبّق، لكي أوصل القارئ إلى الحقيقة من دون تدّخل مني كمؤلف.

اقرأ أيضًا: إيليا سليمان، السينما الصافية تأتي من تلقاء نفسها

* من هذا المنظور، يجوز سؤالك فيما إن كنت تصنّف أعمالك ضمن "أدب المقاومة". كيف تجد هذا النوع من الأدب اليوم؟

حقيقة، لا أعرف. أنا أنتمي إلى ما أكتبه، وأحاول بقوة أن يكون لي صوتي الخاص، وسردي الذي يدل عليّ. الانتساب إلى لون معيّن ومدرسة معينة، لا يمنح العمل قيمة، بل العمل هو الذي يعطي لأي مدرسة ملامحها. في ما يخص "أدب المقاومة"، أعتقد أن الروائيين الفلسطينيين بدأوا يغادرون هذا التوصيف. وهم ينقسمون اليوم إلى تيارين: "كلاسيكي"، ما يزال أمينًا، بدرجة ما، لما يسمى أدب المقاومة و"ماخدها جد". وهذا غالبًا ما يكون أسير الإيديولوجيا، ويقدم أعمالًا تسعى إلى طرح أفكار أو مواقف سياسية. والتيار الثاني وهو الأهم، غادر الإيديولوجيا وبدأ يقدم رواية حديثة خالية من تلك الضغوط، بل إنها تمتثل لشروط ما بعد الحداثة. وقد حقق عدد من الروائيين أعمالًا مهمة في هذا المجال، ودفعوا بالرواية إلى مستوى شهدنا نتائجه في القائمة القصيرة للبوكر، مع إبراهيم نصر الله، وعاطف أبو سيف. ومع جائزة الشيخ زايد التي نالها الروائي أسامة العيسة عن روايته "مجانين بيت لحم". وحول هذا كله - وبعيدًا عن الجوائز- برزت أعمال مهمة لسحر خليفة ويحيى يخلف، آخرها روايته الشيقة "راكب الريح"، وأنور حامد، وأكرم مسلم، وعارف حسيني وآخرون.

* أتعتقد بأن الأدب الفلسطيني، كُتب عليه أن يظلّ يكتب في القضية ذاتها، أعني "القضية الفلسطينية"؟

في فلسطين، ثمة مجتمع غير مستقر، قسم منه في إسرائيل؛ "فلسطينيو 48"، استقر على أرضية قلقة، يعيش على أرضه تحت حكم من سرقها، ورغم ذلك وفوقه، لا يتمتع بحقوق متساوية، ويشعر بالاضطهاد القومي ويواجه تمييزًا عنصريًا. والقسم الآخر تحت الاحتلال رغم وجود السلطة، وهذا القسم أكثر قلقًا. وهناك من يعيش في المنافي، وأسوأه من يعيش في المخيمات، وخصوصًا المخيمات في سورية اليوم. وإذا أخذنا بالاعتبار أن جيلنا ورث النكبة، وشكّلت مفرزاتها مخزون ذاكرته الذي يغرف منه، فإننا لا بدّ أن نستسلم إلى عالمه الخاص. حتى أن الخروج عليه وكتابة رواية، بعيدًا عن هذا كله، تبدو رواية "غير فلسطينية" بمعنى ما. وأنا لا أجد في الكتابة عن القضية مشكلة. فصاحب "عداء الطائرة الورقية"، خالد حسيني، لم يكتب إلا عن بلده الأصلي أفغانستان. وكذا فعل حنيف قريشي. وصاحبة "بجعات برية" لونغ تشانغ، الصينية الأصل التي تدرّس في SOAS (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) التابعة لجامعة لندن. فقد كتبت رائعتها عن حياة أسرتها الصينية في زمن ماو تسي تونغ. وصاحب "أطفال منتصف الليل" و"آيات شيطانية"، الهندي، البريطاني الجنسية، سلمان رشدي، لم يبتعد عن بلده الأصلي، الهند. وأورهان باموك يكتب عن إسطنبول. والروائيون الإسرائيليون، مثلنا، غير قادرين على الخروج عن الصراع أو منه. وديفيد غروسمان كمثال، كتب عن الانتفاضة الأولى، وآخر أعماله رواية استندت إلى مقتل ابنه في اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان. فلماذا نستغرب أن يتابع الفلسطيني الكتابة عن قضيته، وخصوصًا أنها غنية بالمادة الدرامية؟

* لكنْ ثمة شيء مختلف، ثمة "العودة" إلى الوطن. فهل تشكل صدمة لدى الكاتب، خصوصًا إن كانت الطموحات والأحلام مغايرة على أرض الواقع؟

كل مكان تغيب عنه، لا بدّ أن تحدث عودتك إليه صدمة، إيجابية أو سلبية. فكل لقاء يبعث على الدهشة. لكن لقاء الفلسطيني بأرضه يشكل صدمة من نوع مختلف: إنه يخوض مواجهة مع ماضيه، ذاكرته، التي يحاول تحريرها من سطوة الإيديولوجيا، ومن مأساة الواقع. أصعب ما في اللقاء هو مواجهة عدو حقيقي من لحم ودم، وليس تجسيدًا لمقولات وأفكار مجردة.


* روايتك "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" هذه، التي ترشحت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2016، تزخر بالتفاصيل والوجوه والأمكنة الفلسطينية، وتعدّ برأي قراء ونقاد، أشبه بفيلم سينمائي بين دفتي كتاب. كيف يرى المبعد/ البعيد عن وطنه كل تلك التفاصيل؟

عندما تكون عائلتك قد هاجرت وأنت في الثالثة من العمر، وتتحول بلادك إلى ذاكرة ينثرها والداك على سنوات عمرك، ولا تحصد سوى الحسرة، ويرافقك حلمًا على حافة المستحيل، فإنك ما أن تستوعب صدمة المكان، التي تقيم جدلًا قاسيًا مرًا بين ما في الذاكرة وما في الواقع، حتى تبدأ في تعبئة كل فراغات عمرك بالتفاصيل.

حين زرت مسقط رأسي المجدل عسقلان، وقفتُ وسط ساحتها الرئيسة، قبالة ما تبقى من مسجدها، وقد تخلّت عني حواسي كلها، وفقدت القدرة على الامساك بأي من مشاعري. وبعد دقائق، بدأت أبحث عني. عن طفولتي الأولى بين خرائب المدينة: ولدت هنا، أم هنا، أم هناك؟ كان أبي يحتسي قهوته هنا. هذا قبر جدي.. أين؟ لمن هذه الدكان التي لم يزل بابها شاهدًا على مرور الأتراك؟ من هي هذه المرأة اليهودية التي احتلت بيت العائلة؟ الأسئلة لم تتوقف، والحاجة إلى إجابات حبلى بالرغبة في الحصول على المزيد. وهكذا أنت العائد كأنما في حلم سوف تستيقظ منه، لا تشبع ولا ترتوي. وهل يرتوي المرء من وطن افتقده 63 عامًا. بعدها تبدأ مرحلة أخرى من محاكمة ماضيك كله، وفي كل لحظة تبحث عن تفصيل آخر يملأ الفراغات التي تركتها قصص الآباء والأجداد بحقائق راسخة. في كل مرة يرى المبعد في الوطن وطنًا آخر لم يره، ولا يكف عن رؤيته بتفاصيل أخرى ومشاعر أكثر حميمية. يدوّن ما يراه في الورق وعلى سطح الذاكرة، كي لا يفقده مرة أخرى.

* استغرقت كتابة الرواية أربع سنوات، وزرت فلسطين أربع مرات، لأجلها. كيف كنت ترى البلاد في كل مرة؟

حين ذهبت إلى فلسطين بغرض الكتابة، كانت لديّ حكاية كبيرة، وبضع حكايات فرعية، وأفكار لم تنضج بعد. أخذت الحكاية من اللد والرملة وبعض تاريخ المجدل عسقلان. وذهبت بها إلى عكا بحثًا عن بيت سكنته عائلة أردكيان الأرمنية، التي كانت لم تزل تعيش في رأسي. وهناك عشت أيامًا، تجولت خلالها في عكا القديمة مرارًا، والتقيت بعض ناسها. كانت الشوارع كمن يستقيظ في حضوري. وكانت تفهمني تمامًا، وتقدّم لي في كل جولة، تفاصيل تغني أي فعل درامي. وحين كنت أعود إلى لندن للكتابة، تنشأ لديّ حاجة إلى مزيد من التفاصيل والمعلومات، ويطرح عليّ ما انتهيت منه أسئلة أخرى لا إجابة عنها إلا بالعودة إلى الوطن. في الزيارات الأربع التي قمت بها لم أكن أرى يهودًا، ولم أشعر بوجود الإسرائيليين حتى حين أحدق في أعينهم. قد لا يصدق أحد هذا، إلا إذا جاء بنفسه حاملًا ذاكرته معه ليختبر صدقيتها. ومع توالي الزيارات، لم أعد أميّز بين النص وتفاصيل الوطن.

* أيمكن عدّ رواية "مصائر" استكمالًا لـ"السيدة من تل أبيب"، وهل تفكر بثلاثية؟

نعم، هي مرحلة أخرى. لذا استدعيت شخصية وليد دهمان من "السيدة من تل أبيب"، والدته. لم يحدث هذا مصادفة، بل خططت لأن يتابع وليد رحلته الثانية في طريقه إلى الثالثة. لهذا، يخرج هو وزوجته في نهاية النص، بأسئلة كبيرة، تفتح على نص لم يكتب بعد.

* نعم، فأنت تتعمّد، على ما يبدو، ترك النهايات مفتوحة.

كيف لي أن أضع نهاية لقضية لم تزل مفتوحة؟ كيف للروائي أن يضع نهاية واضحة لنصه، بينما الصراع - وهو مادة عمله - بلا نهاية، والاحتمالات كثيرة؟ الجزم في حالتي يقتل النص. والنهايات المفتوحة تترك أسئلة أكثر، وعلى القارئ أن يشاركني في البحث عن إجابات. لأنني لا أبحث عن قارئ كسول. ثم إن النهاية المفتوحة تعدّ بوابة سهلة للعبور إلى نص جديد يكملها.

* يلفت في عنوان الرواية الربط النكبة و"الهولوكوست". لقد تطرق باحثون فلسطينيون وإسرائيليون الى الأمر. كيف تنظر أنت، كروائي إلى المسألة؟

التجاور والارتباط النصي في العنوان، غرضه مواجهة الهولوكوست أو المحرقة وتراثها، بمذبحة دير ياسين، التي كانت المؤشر الأول على نكبة الفلسطينيين وهجرتهم عام 1948. والنص يفضح - دراميًا - استثمار الحركة الصهيونية وإسرائيل لمأساة ضحايا المحرقة من اليهود في عملية تجارية رخيصة، هدفها تبرير الاحتلال والمشروع الصهيوني في فلسطين، وابتزار العالم. بينما هم يستنسخون جرائم النازية نفسها، في تعاملهم مع الفلسطينيين. والعنوان يطرح، مجازًا، جدلًا دراميًا، يشبه ما بين آلتين موسيقيتين في كونشرتو. وفي التجاور بين النكبة والمذبحة تحدٍ، يدركه المطّلع على آليات الصراع. فالإسرائيليون واليهود الصهاينة عمومًا، هم من يرفض مقارنة أي مذبحة في العالم بالهولوكوست، ويحتكرون لأنفسهم صورة الضحية الوحيدة. ويعتبرون كل ما يقومون به من جرائم ضد الشعب الفلسطيني: "دفاعًا عن النفس". يقول وليد دهمان، خلال زيارته متحف المحرقة: "في هذا المتحف الذي تزوره يا وليد، باسم كل اسم فيه، يُقتل منكم اسم، وأحيانا أسماء. وبحجة منع تكرار محرقة النازية لليهود، يشعل الإسرائيليون باسم ضحاياها، محارق كثيرة في بلادنا، قد تصبح، في النهاية، محرقة". وبينما يتجه برفقة تالا اليهودية المسنّة التي شهدت نهاية الصراع وتصالح الشعبين، وإقامة متحف للضحايا الفلسطينيين قبالة متحف المحرقة، يخاطب تالا التي يزعجها ذكر مذبحة دير ياسين قائلا: "يا سيدتي، إن لم تفهمي ما جرى في دير ياسين، وتحفظي درسه جيدًا، لن يفهم الآخرون - الفلسطينيون - ما جرى لأولئك الضحايا في يد فشم". (يقصد ضحايا المحرقة).

* هل تفكر أنك بكتابتك عن فلسطين، "تريح ضميرك"، تجاهها؟

لا، أنا لست مذنبًا تجاه فلسطينيتي أو قلقًا على ما قدمت في حياتي كي أريح ضميري. فقد قمت كفلسطيني بكل ما يمليه عليّ واجبي: تحزّبت، وعملت في السياسة، وأُبعدت بسبب نشاطي، وسُجنت، وعُذّبت، ونمت في الشوارع، وجعت، وعايشت مرارة المنافي وقسوة مغامرات اللجوء من بلد إلى آخر. أكتب عن فلسطين لأنني أحبها، ولأنها في أساس تشكيل هويتي. ولأن ذاكرتي ومخزون تجاربي فلسطيني أولًا وأخيرًا. ثم لأنني اعتزلت السياسية، عندما أدركت أن الآفاق مغلقة والمشروع الوطني تبخّر. ومن خلال الأدب، وجدت أن بإمكاني أن أتقدم بخطاب ثقافي مختلف يساهم، مع ما يقدمه الأدباء الفلسطينيون الآخرون، في الارتقاء بالرواية الفلسطينية.

دلالات

المساهمون