المثقف و"عنف" ما بعد الربيع

المثقف و"عنف" ما بعد الربيع

22 ديسمبر 2015
جليلة بكار وفاضل الجعايبي، شراكة فنية(Getty)
+ الخط -

يطرح المسرحي التونسي فاضل الجعايبي، من خلال مسرحيته الجديدة "عنف"، التي تعرض حالياً على خشبة المسرح الوطني التونسي، الذي يديره، قضية العنف الداخلي الذي يجتاح الإنسان العربي ما بعد الثورات. وهو عنف نفسي أكثر منه مادياً، حتى وإن كانت تجليَّاته في الواقع لا تحتاج إلى برهان من خلال حمامات الدم المسفوك هنا وهناك على طول خارطة العالم العربي، الذي تتنازعه نيران الطائفية وقوى الإرهاب العمياء.
من حيث السياق الزمني، يعتبر العمل المسرحي الجديد لفاضل الجعايبي سباقاً إلى استغوار قلق الإنسان العربي، في سياق تاريخي خاص، ينماز عن باقي السياقات التي عرفها العالم العربي، منذ استقلالاته الوطنية إلى الآن.
فلأول مرة، يجري، التمرد على قوى الاستمرارية، التي ورثت مكتسبات الدولة الوطنية وجيرتها لصالحها، وحولت بلدانها إلى ضيعات لاستزاف الخيرات وبيعها للأجنبي بالجملة والتقسيط والإجهاز بشكل ممنهج عن كل محاولات الإصلاح من الداخل، التي طالبت بها لعقود، القوى السياسية الوطنية. فكانت النتيجة، إفراغ المجال السياسي، وقتل الطلائع الثقافية،
وسد أي أفق محتمل للمطالب السلمية، إلى أن جاء الربيع العربي، وقلب الطاولة بما فيها على ماسكي القرار.

لقد أصبح مطلوباً اليوم، أن يتحمل المثقف العربي، والممارس للمهن الفنية والجمالية مسؤوليته، وهي مسؤولية جسيمة، لأنها تأتي في ظرف دقيق للغاية، أهم علاماته سيادة اللاعقل وهيمنة السلوك الهمجي الأعمى وتراجع الثقافة مقابل لغة الرصاص والقتل.
ومن الواضح تماماً، أن أكثر من استفاقة، ستكون هنا وهناك، في هذه الجغرافيا الهادئة النائمة على وهم الاستقرار، أو ذلك البلد الموار بالأحداث والتقاطعات والصراعات. فلقد اختزن المواطن العربي في داخله، خلال عقود ما يكفي من مشاعر القهر وانعدام الآدمية، بسبب القمع الذي سلط عليه من طرف أنظمة الاستبداد وقوى "الشر" العالمي، حتى تحول إلى فأر تجارب، على كاهله المثقل تصنع الخرائط، ويمثّل بالإنسان فيه، وتنمو بين أحشائه وحوش الانتقام من نفسه ومن قاهره.
ولما فكّ عقال تلك الوحوش المتعطشة للحرية، أتت على الأخضر واليابس في طريقها إلى التحرر وتحقيق الذات والتخلص من ربقة المستحكم.
لقد تفاجأ السياسيون والسلط الحاكمة المستبدة، ووجدت النخب العالمة نفسها على الهامش، مبعدة أو مستبعدة من كل فعل، لأن وقع خروج الجماهير إلى الشارع كان أكبر من كل نظرية ومن كل احتواء أو تصنيف، ولم يكن الوقت يسمح بتأطير كل هذه الحشود الهائجة والمائجة، أو تلك التي تتململ ويتراجع بين عيونها الخوف، وتينع وعود الحرية.
خرج الشارع العربي، أقلية وأغلبية، وكان ما كان، لكنه اليوم، يعيد تقييم نتائج ذلك الخروج، وخيبة أمل تخيم على السماء العربية، حتى لتكاد الكثير من تلك التجارب تنكص إلى الوراء، وتتهدّدها الردة القوية أو الرجوع الكاسح لذيول الأنظمة القديمة.
هذا هو العنف المضاعف، ومن آثاره عنف في الشارع، وحالات بسيكوباتية أصابت الأفراد وتحولت إلى وباء جماعي، من تجلياته "الكفر" بالثورات وما يأتي منها.
هنا يأتي دور المبدع والفنان، المشتغل بالمسرح والسينما والفنون الجمالية، كي يمرر الرسالة ويداوي الجراحات، ويخلق تلك الفضاءات الفسيحة التي تداوي الأمراض النفسية، وتساهم في
التصالح مع الذات ومع الآخر.
ربما، في حالة تونس، التي مرت من ربيع ناجح نسبيا، سيكون المنتج الإبداعي أسرع، في التعبير عن الجراحات، في حين سيبقى الأمر محجوزاً إلى حين في حالة بلدان ربيع أخرى، مثل مصر، التي أجهض ربيعها، أو سورية، التي تعيش جنون الحرب، أو اليمن الممزق أو العراق الغائص في طائفيته.
ولذلك، من المنتظر أن تشكل تونس حالة إبداعية مميزة، تؤدي إلى التجاسر على أسئلة صعبة ومقلقة، وربما تدشن لملامح جديدة لعربي جديد، لم نألفه ولم نعرفه، عربي ما بعد الربيع، بكل إخفاقاته وتوجّساته وأسئلته الحارقة، وانتمائه إلى جغرافية الشك، أكثر من قارة اليقين.
المثقف العربي اليوم على المحك، وأدوات إبداعه موضع سؤال، وما "عنف" فاضل الجعايبي المسرحي إلا بداية نثار القنبلة النووية التي ستطيح بكل أطر الثقافة العربية التقليدية، التي لم تعد إلا طللاً محيلاً، على حد تعبير الشاعر الجاهلي.

إقرأ أيضا: وجه آخر للسياسة عند أرسطو

المساهمون